معرض «المابين» أو بلاغة الأسود والفراغات عند مصطفى النافي

« اليد أداة كل الأدوات «
* أرسطو

«الفن يمسح عن الروح غبار الحياة اليومية «.
*بابلو بيكاسو

برواق باب الرواح بالرباط ، يعرض الفنان لتشكيلي المغربي مصطفى النافي لوحاته مابين 11 إلى 27 نونبر 2023 ، والتجربة الفنية للعارض تمتد لأكثر من أربعة عقود غنية بالاجتهادات المتواترة بين كل محطة وأخرى وقد عرض داخل المغرب وخارجه، وكانت دوما مناسبة عرضه حدثا فنيا يثير الكثير من الأصداء في الأوساط الصحافية والنقاد المعتنين بالنقد الجمالي على وجه التخصيص. فقد تجاوز فناننا  حدود لوحة القماش وابتدع أحجاما وأشكالا مخالفة ، فهي تارة عرضية وطورا أفقية على وضع مسلات. فاللوحة عند فناننا لا تقف عند حدود الصباغة ، بل تتكون من إدماج مواد تعززها تقنيات تجعل الرائي منجذبا لسحرها الأخاذ.
يوظـف الخشب.. يبريه بريا ويخضعه لتشكيلات وأوضاع أقرب ما تكون إلى منحوتات منها للوحات. فعلى مستوى حقل الرؤية تجد اللوحة تخضع لهندسة في غاية الدقة والتركيب وتخاطب حاسة البصر بمتعة جمالية بهية وراقية، وقد تناغمت الألوان والظلال لذا تبقى اللوحة، بالإضافة إلى عناصرها الجمالية، منفتحة على رؤية مائزة للكون وفلسفة غائصة في أسئلته وأسراره.
ما نخاله فراغا يبقى خارج العناية والاهتمام هو عند مصطفى النافي حقل تأمل وتفكير وممارسة. فالبياضات والثقوب والمساحات الفارغة، تخرج من صمتها وحياديتها ومن ظلالها لتنشر الدلالة والمعنى. فإن كان اللون الأسود بسطوة عتماته يتلبسه الظلام والمجهول وذلك الغموض الذي نعجز عن فك شفرة ألغازه ، فمساحات الفراغ أو ما بين الفراغ والامتلاء، تناقضات نتلمسها في الحياة ويجسدها العمل الفني التشكيلي ببراعة واقتدار.
هل هذه اللوحات المخالفة للمألوف تسعى لكي تضع للسواد بياضا أو بالأحرى ضوءا ، مفارقة كبرى لا تتحقق على صعيد الواقع الحرفي ، لكنها تتشكل في الواقع الفني المجدد والمغامر والناهض على عمق التفكير والأداء الجمالي المدهش، حيث توظيف الخشب كمادة خام ترقي بعيدا في سلم المتخيل وأقانيم الجمال .
الاشتغال على الفراغات بالاعتماد على أسانيد خشبية مسار فني محفوف بالمغامرة . فثقافة الفنان العالية بأصالتها المغربية والاستفادة من المأثور التقليدي حاضرة ولكن أخذت سمة تتطلع للتجريب والتحديث. لوحات تنهض على الفراغ كفضاء محتشد بالدلالة والمعنى، يلفها اللون الأسود بقوة حيث تتراجع أو تموت وتختفي سائر الألوان، الأسود يحتضن كل تأويل وقراءة، ومقاسات منجز مصطفى النافي متنطعة عن الإطارات المنضبطة المحددة، وهي على نحو ما متمردة ومشرئبة على أكثر من سؤال وعلامة استفهام .
فقد تمكن مصطفى النافي من تجسيد الفراغ أو بالأحرى ملء ثغرات الفراغ فنيا، وإدخاله كعنصر وإبعاده من حياده وتشبيكه مع باقي العناصر. فبرغم تنافرها، التوليفات الفنية بيد  الفنان الصانع للجمال تجعلها في قلب محور شغله وخطابه الفني المشاكس والمخلخل لما هو سائد .
يظل اللون الأسود عمقا والفراغ لم يعد هامشا، بل في صميم اللوحة ، فبين الأسود والفراغات المحتملة وغير المحتملة، بلاغة تشكيلية تحقق المتعة البصرية وتقدح في العقل السؤال تلو السؤال.
في كاتالوج المعرض يقول الفنان لحسن زينون :
«يكشف مصطفى النافي عن قوته من خلال الكيمياء النحتية والتصويرية، فالأسود بعيد كل البعد عن كونه غيابا للضوء، فالانطباعيون يعتبرون أن الأسود عدو الألوان، لأنه يرمز لليأس والحداد وظلام العالم السفلي إلا أن أسود مصطفى النافي يسود بشهوانية متألقة «.
أما الناقد سعيد العفاسي فيقول مخاطبا مصطفى النافي « …في كل إشراقة، تولد فكرة وإن تشابهت ظاهريا، لكنها تحمل من المعاني ما لا يمكن أن تنهض به العين لتفكيك شفرتها، بل تحتاج إلى أفق رحب من القراءة المكينة والفهم العلمي والعملي لأسلوبك أولا، ثم لفرادتك في انتقاء الأبيض من بين الأسود الكامن فينا، وحدك القابض عل جمرهما « .
أما الشاعر إدريس عيسى فيكتب «مروض القوى والطاقات بطلسمية ، السواد والفراغ، وقاهر الفوضى والسديم. صمته يشحذ حنكة الصياد، يسعى مبدلا مراصده ، يبتدع المسالك والخرائط والأدوات والحيل والتدابير حتى كثرت أيديه، رهانه الأوثق أن تتآخى المواد المواد والأشكال، زواجهما المعلن تحت يديه أخوة مرحة، تآلف أقصى يشتد في سلم الموسيقى، ليخرج « الصنيع « فيكون ظهوره مديحا للمادة، ومديحا للأشكال، ومديحا مسبقا للعين التي ترى، ظله الذي يلقى على الأرض، هو أبدا ظل الروح « .
أما الناقد الجمالي محمد شويكة فيدون» يتميز توظيف اللون الأسود في تجربة الفنان مصطفى النافي بنوع من الهدوء الشبيه بهدوء الليل الهائل، لكن بعض الإضافات اللونية أو الفراغات تخرجنا من تسيد الظلام إلى انبلاج الضوء، وهذا ما يمثل نقطة إبداعية هامة في تجربة الفنان التصويرية ، فقد اعتدنا « السواد/ الظلام « يمنع الممارسة الطبيعية للرؤية ، ولكن العكس هو ما يتحقق هنا حيث يتضمن الاشتغال بالأسود إيجاد وسائل مناسبة للتغلب على مفارقة مفادها جعل ما هو مخفي ومحجوب مرئيا».
إن تجربة مصطفى النافي تقع بحق في «المابين « مابين الفراغ والامتلاء، ومابين النور والظلام وكذا مابين الممارسة التشكيلية كفن وبحث وتراكم لتجربة ومعاناة طويلة وقاسية  على المستوى النفسي والعمري، وكذا على مستوى تلك المجاورة الرفيعة بين الفن والفلسفة ، مما يجد المتلقي من ثراء فني وصبيب متعة آسرة تتضمن في ذات الوقت رؤية / رؤيا للكون والحياة منفتحة على تساؤلات عميقة، فاللوحة لا تتوقف عند خصوصيتها كلوحة تشكيلية، بل تصبح أداة وتعلة لذلك الانصهار الراقي بين الفن والفلسفة وبين التلقي وشهوة السؤال …


الكاتب : المصطفى كليتي

  

بتاريخ : 16/11/2023