هنا الرباط….إذاعة المملكة المغربية

قصة أول برنامج حواري تلفزي سنة 1963 تحول إلى عراك بين وزيرين على الهواء

 

وداعا الأستاذ محمد بن ددوش….شاهدا على مجريات أحداث تظل مجهولة لدى قطاع عريض من أبناء الأجيال الشابة.
لم يكن سرا في الرباط أن التلفزيون كان تحت سيطرة أحمد رضا اكديرة. سواء قبل انتخابات 1963 أو بعدها أيضا….
إذ إنه، رغم الانتقادات التي وجهتها له المعارضة باستغلال منصبه وزيرا للداخلية لكي يستقطب الناخبين للتصويت لصالح جبهة الدفاع عن القوى الديموقراطية (الفديك)، استمر في بسط نفوذه السياسي وإضعاف خصومه حتى بعد أن أظهرت النتائج أن حزبه لم يكن يقوى على منافسة حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وحزب الاستقلال، اللذين كانا يملكان أوسع قاعدة انتخابية من المناضلين والمناضلات.
ورغم أن رضا اكديرة سخّر العمال والقياد وقتها واستغل موارد وزارة الداخلية، إلا أن طريقته تلك لم تضعف خصومه سياسيا رغم الاعتقالات التي كانت واسعة الانتشار في صفوف المعارضين.
وهكذا حاول رضا اكديرة المرور إلى المرحلة الموالية، وهي استغلال الإعلام الرسمي لصالحه، وعلى رأسه هذا الجهاز الجديد «التلفزيون»، الذي سحر المغاربة وتحقق «الإجماع» حوله. فكيف تمكن من هذا الأمر؟
رغم أن الملك الحسن الثاني هو الذي أعطى انطلاق أشغال تأسيس التلفزة المغربية، والفكرة كانت فكرته من الأساس وتجند لها الإذاعيون والصحافيون المغاربة لإنجاحها ووضع محتواها العربي الأول، إلى أن مستشاره ومدير ديوانه السابق أحمد رضا اكديرة، كان يخطط للسيطرة على التلفزيون، إلى درجة أن بعض التقنيين من مخرجين وعاملين في استوديو مسرح محمد الخامس كانوا يعتبرون أن اكديرة هو المدير الحقيقي للتلفزيون. وكانوا ينفذون ما يطلبه منهم رغم أنه لم تكن له أية علاقة نهائيا بالإدارة.
أحد الذين أكدوا هذا الأمر، بل عاشوا تفاصيله، هو الإعلامي محمد بن ددوش، إذ إنه تكلف بتسيير أول برنامج سياسي مباشر، وأطلق عليه وقتها، في مارس 1963، اسم «الندوة». إذ لم يكن محتوى البرامج السجالية التي يتواجه فيها مسؤولان لمناقشة موضوع سياسي، مُتداولا بعدُ في التلفزيون.
جاء هذا البرنامج سنة واحدة بالضبط على تأسيس التلفزة المغربية. وكانت سيطرة اكديرة على التلفزيون واضحة وحاضرة.
يقول بن ددوش في مذكراته «رحلة حياتي مع الميكروفون»، وهو يستحضر تلك الأمسية، إن رضا اكديرة كان حاضرا في قلب بناية مسرح محمد الخامس، وجلس إلى جانب المخرج على الطاولة حيث يختار معه زاوية التصوير وما تلتقطه الكاميرا أثناء توجيه البث المباشر الذي تابعه المغاربة في ليلة تاريخية رأوا فيها لأول مرة في حياتهم وزير المالية، وهو أحمد السلاوي، يواجه وزير المالية الذي سبقه في الحكومة السابقة، الاستقلالي امحمد الدويري.

كان معروفا أن الدويري خصم سياسي لرضا اكديرة، وقد حضر هذا الأخير بكل قوته لكي «يمرغ» الوزير السابق أمام ملايين المغاربة.
يستعيد بن ددوش تلك الذكريات، ويقول: «لقد وقع الاختبار عليّ لتسيير هذه الندوة التي كان محورها القضايا الاقتصادية والاجتماعية في ضوء المسؤولية التي تحملها الوزيران، وهكذا عكفت على إعداد ملف كامل مع التساؤلات التي يمكن أن أطرحها خلال المناقشة. وجاء يوم الندوة في أحد أيام مارس1963. وجاء الوزيران، طبعا كل واحد بمفرده حيث استقبلهما مدير الإذاعة والتلفزة بكل ما يليق بهما .
وكما جرت به العادة في جميع محطات التلفزيون، وقبل بدء البرنامج، خضع الوزيران لعملية (الماكياج) ولم يكن هذا العمل قد تطور كثيرا في التلفزة المغربية الوليدة، بل يمكن القول إنه كان غير خاضع للمواصفات المطلوبة لقلة الخبرة والإمكانيات، وهذا ما سيحول وجهي الوزيرين خلال المناقشة، وتحت تأثير الأضواء القوية، إلى وضعية تثير الشفقة.
وانطلقت الندوة، وما هي إلا دقائق معدودة حتى بدأ (الصراع) وتطايرت «الشظايا» من فمي الرجلين، لقد تحولت المناقشة عن مسارها لتدخل مسار المهاترات والتهم المتبادلة والتهجم الشخصي بشأن التسيير، وكانت بعض التهم من الوزن الثقيل بشأن الفساد المالي وعدم الكفاءة.
لقد وجدت نفسي فجأة في وضع لا أحسد عليه، فقد أصابتني الدهشة لهذا النوع من الحوار الذي أواجهه للمرة الأولى في حياتي المهنية، والبرنامج يذاع مباشرة، ومع ذلك حاولت إثبات وجودي، فحاولت بين الحين والآخر تهدئة الوضع والرجوع بالرجلين إلى صلب الموضوع المطروح للمناقشة. ولكنها كانت محاولات فاشلة، وما زلت أذكر أن السيد امحمد الدويري كان كثيرا ما يشتكي من احتكار السيد إدريس السلاوي للميكرفون ويتهمه بعدم تمكينه من الكلام، وفي الوقت ذاته يشهدني على هذه التصرفات. وعلى حين غفلة – والنقاش على أشده – تقدم نحونا مدير الإذاعة والتلفزة عبد الله غرنيط واقترب حتى دخل مجال الكاميرا يراه المشاهدون (مع أنه لم يكن جزءا من المشهد الأساسي) وانبرى باللائمة على الرجلين لهذا المشهد المزري وعلى هذه الصورة السيئة التي يقدمانها للمشاهدين ودعاهما – وهو في حالة نفسية متوترة – إلى متابعة الحوار بهدوء. كل هذا الكلام وكل هذا اللوم وهذا التوبيخ الموجه لوزير في الحكومة ووزير سابق كان منقولا بالصوت والصورة على الهواء إلى المشاهدين، لأن التلفزة لم توقف البث بل استمرت في النقل المباشر لكل أطواره إلى نهاية «المعركة»، ولم أعرف إلى اليوم لماذا لم تقرر التلفزة إيقاف البث بعد أن وصلت الأمور إلى ذلك الحد. وعلى كل حال كانت لها الشجاعة على الاستمرار في البث، وربما كان ذلك (لحاجة في نفس يعقوب) وطبقا لخطة مبيتة بعيدا عن المؤسسة الإعلامية.
انسحب مدير الإذاعة خارج مجال الكاميرا، وتابعنا الندوة ولكن الدقائق الأولى، بينت أن ملاحظات السيد عبد الله غرنيط لم يكن لها أي تأثير وأن «اللسان بدون عظم»، كما يقول المثل المغربي. فقد أخرج كل واحد من «المتصارعين» ذخيرته الثقيلة لحسم المعركة لصالحه، وماهي إلا لحظات وإذا بالسيد امحمد الدويري يقوم من مقعده ويأخذ الميكرفون الوحيد المنصوب فوق الطاولة بيده ويبتعد به عن طاولة المناقشة مما أصبح متعذرا معه متابعة الحوار أو بالأحرى (الصراع) بدون ميكروفون وبدون وجود أحد الطرفين».

هذا المقطع المثير من شهادة محمد بن ددوش، كشف إلى أي حد كان الإعلام التلفزيوني متحكما فيه، إذ أن التيار الذي كان ينتمي إليه الوزير إدريس السلاوي، الذي كان مقربا من الملك الحسن الثاني، ومن أحمد رضا اكديرة، كانت له الحظوة في البرنامج.
بل إن بن ددوش أكد أنه لاحظ وجود صمت رهيب في منصة توضيب الحوار والتحكم في الكاميرات، قبل أن يكتشف أن سبب الصمت الرهيب للتقنيين، هو وجود الوزير القوي أحمد رضا اكديرة فوق رؤوسهم. فقد جاء إلى مقر التلفزيون لمؤازرة صديقه الوزير إدريس السلاوي.
المثير أن الدويري أخرج في وسط الحوار، كما يحكي بن ددوش دائما، ورقة تتضمن أرقاما رسمية تؤكد، حسب ما قاله، إن الوزارة تعيش تراجعا كبيرا في ظل وجود الوزير إدريس السلاوي وقارنها بأرقام تعود إلى فترة وجوده، أي الدويري، على رأس الوزارة سابقا، وهو ما احتج عليه إدريس السلاوي وبدأ يصيح في وجه الدويري أنه ليس من حقه نهائيا استعمال وثائق وأرقام رسمية للوزارة في البرنامج.
انتهى البرنامج كما يقول بن ددوش، لكن المفاجأة كانت أن جحافل من الناس، بينهم مسؤولون كبار في الدولة، غادروا منازلهم واتجهوا صوب مسرح محمد الخامس رغبة منهم في متابعة الحوار، لكنهم فوجؤوا برجال الأمن يمنعونهم من الدخول إلى حيث الأستوديو….
لنتذكر فقط… الإذاعي والإعلامي المخضرم محمد بن ددوش الصوت الرخيم والدافئ عبر الأثير، والذي كان يصل إلى ملايين المستمعين عبر ‘الميكروفون’ طيلة نصف قرن من الزمن.


الكاتب : عزيز مفضال

  

بتاريخ : 24/11/2023