في الحاجة إلى إدوارد سعيد..
عبد الحميد جماهري
كدنا نيأس، عندما غطى السياسيون في العواصم الغربية على الفاجعة الفلسطينية بمحاولات لاأخلاقية في اتهام شعب الضحايا!
ولما سعوا، بغير قليل من الخبث الممزوج بالجبن إلى تطهير أنفسهم من تاريخ المحرقة، بالسماح بحدوث أخرى مثلها في حق آلاف الأطفال والمدنيين والمرضى والساجدين والتلاميذ والطلبة والأطباء والصحافيين.
في لحظة، فاضت الفجيعة على الكون، تحركت جيوش كبيرة في الغرب يقودها الضمير المدني في غالبه ثم تلاه الضمير السياسي، ولو على مستوى أقل ..ولعل أبرز مثال تجلى في حديث بيدرو سانشيز وزميله البلجيكي، دليل حياة في الوسط السياسي، لما دعا إلى إجبارية وجود دولة فلسطينية، واستنكر ما يسبقها من جحيم..
هنا بدت الحاجة إلى إدوارد سعيد، عندما تحدث بعض المثقفين، بل أكثرهم في الغرب، بِلُبْس مثير للشفقة، عن حق إسرائيل في أن تكون وحدها الضحية ولا شعب آخر، بمن فيهم الشعب الذي تقتله هي، يستحق هذا النعت الفاجع ويمكنه أن يدعي ذلك..!
وظهرت الحاجة إلى إدوارد سعيد، لما رمى مثقفون كبار من العالم العربي رسالة في زجاجة بعنق ضيق للغاية، ولم يلتقطها سوى عدد قليل من المثقفين الغربيين؛
ثم ظهرت الحاجة إليه مجددا لما تجرأ مثقفون آخرون، من أطياف فنية وإبداعية وثقافية متعددة في فرنسا أساسا، إلى ثقب السقف الزجاجي الذي وضعه الغرب فوق رأسه كي لا يرى الحقيقة، ونشروا بيانا يدعو إلى «هجوم حقيقي للسلام» في الشرق الأوسط، نكاية بهجومات الحرب المتزايدة.. ولاسيما وقد أوردوا اسمه في ديباجة البيان، باعتباره مرجعا أخلاقيا وسياسيا واضحا وصريحا، دافع عن اعتبار السلام المتوخى سلاما سياسيا يمر عبر التفاوض..وليس سلاما ملائكيا متعاليا..
وإدوارد سعيد الذي نستحث حضوره اللحظة، ليس مثقفا بلا جذور، يسعى أن يكون مجرد منشط للضمير، أو مراقب منحاز، بل كان رجل فعل، حيث عاش عضويا في الأجهزة التقريرية والتداولية في منظمة التحرير الفلسطينية، ولم يكن يستعرّ من عرق النضال المؤسساتي ووعثائه، بل كان يعتبر بأن المؤسسة إذا نجحت في إجبار منتقديها على الخضوع أو الشكوى أو وقف المساهمة في التنظيمات، فهذا دليل على درجة رهيبة من استقالة العقل من طرفهم.. وحتى وجوده «خارج المكان» (عنوان كتاب له) في تعددية زمنية وفكرية تجاور فيها الشرق والغرب، لم يمنعه من أن يتكلم من نقطة ارتكاز فلسطينية باهظة الإنسانية..
وهو من هذا الجانب قَبِل مشاركته إلى جانب درويش في صياغة القرار التاريخي بإعلان ميلاد دولة فلسطين..
ولعل درويش هو الذي أحسن وصفه في الحقيقة. عندما سماه «ضميرنا وسفيرنا إلى الوعي الإنساني» مضيفا: «لو سُئل الفلسطيني عمّا يتباهى به أمام العالم، لأجاب على الفور: إدوارد سعيد، فلم ينجب التاريخ الثقافي الفلسطيني عبقرية تضاهي إدوارد المتعدّد المتفرّد. ومن الآن، وحتى إشعار آخر بعيد، سيكون له الدور الرياديّ الأول في نقل اسم بلاده الأصلية، من المستوى السياسي الدارج إلى: الوعي الثقافي العالمي،« وهذه الديبلوماسية التي تخاطب الضمير العالمي وتفتح فيه ممثليات أخلاقية وقيمية، هي ما نحتاجه.
إدوارد سعيد لم يعتبر أبدا أن وفاءه للقضية يفترض فيه أن يظل تفكيره حصريا مع الذين يشبهونه عربيا أو فلسطينيا.
بل لعله كان يبحث عن الشبيه في الطرف النقيض أحيانا، كما في المجتمع الأمريكي، وأيضا يبحث عن النقيض فيه عندما يدعو إلى الخروج من زنزانة الهوية الاحتكارية التي ترى الآخرين كلهم ينقصهم الحق، ودفاعهم مشوب بالغيرية« المشبوهة..
كان يحاور الضمير العالمي، بما هو صاحب أرض وعقل أيضا ومعرفة..
وعندما كان المقاتلون الذي عركتهم الساحات، وصاروا يرَوْن في اتفاقية «أوسلو» بعضا من الطريق المغبر إلى الوطن، رفض هو أوسلو، هو الذي تعايش طويلا مع الفكر الغربي وسط جامعة كولومبيا وفي جامعة هارفارد، حيث أن سعيد، ذلك العقل الواسع، استهجن تفكير الفلسطينيين المتعقلين الذين لا يرون بديلا عن «قسمة ضيزى»..
الحاجة إلى إدوارد سعيد متعددة، تعدد مهاراته. والحاجة لها عنوان هنا وهو كونه أحد أبرز المثقفين العرب الموسوعيين في القرن العشرين الذي يجيد مخاطبة العقل الآخر..
فنحن في حاجة إلى عقله في فهم قضية التهجير، والتي تسعى إليها الحركة الصهيونية كمكون رئيسي في إدارتها لاحتلال جزء من الذاكرة، قبل الأرض. وتعود اليوم بإلحاح استعماري رهيب..
اليوم وكلمة التهجير تُتَداول أكثر من التحرير، ربما يحضرنا كيف يفكر فيها كجوهر القضية! في معادلة تريد أن تحول فلسطين إلى بلاد بأقل ما يمكن من الفلسطينيين.!.
نحن نرى بالفعل كل المعادلات السياسية المطروحة إلى جانب التهجير (الصيغة الجديدة للنكبة) كمرادف لبناء دولة بدون شعبها…
عندما تقبل دولة الاحتلال مبدأ الدولة أصلا!
نحن نفهم أيضا أن صيغة السلام مقابل الأرض أو العكس، فشلت وصارت سلاما بلا أرض، ولعل التيار الاستعماري الحالي يتوجه إلى أن يكون ضمن صيغ سيناريوهات إنهاء الصراع، سيناريو » دولة بلا شعب« !..
ونحن نحتاج إدوارد سعيد أيضا لنضع براغماتية الحل السلمي على المحك عند التطبيق، وما قد ينبت من خِبْرات ضارة على هامش التفكير بهذه الطريقة المتعارف عليها دوليا.بما يعنيه من ضرورة التوفر على الأرقام في التفاوض وفي تدبير الملف: الأراضي، الأسرى، القتلى، التوازن الاستراتيجي .. وغيرها مما يسعف في التفكيك العقلاني لمكونات الاحتلال.
نحتاج الفلسطيني اللامع في الفكرة البسيطة والإجبارية في أن يكون التفاوض تمثيلا للمصالح الوطنية لكافة الفلسطينيين، في الأرض وفي الشتات، في الضفة وفي القطاع .
طبعا، لا يستطيع المثقف وحده أن يمْلأَ المستحيلَ الفسلطينيَّ، لابد له من المقاتل الذي يسعف المفاوضين بالبندقية وبالصبر وقوة المكابدة وبصورة خفيفة، وهو يلوح لطفل إسرائيلي خارج من الأسر، مبتسما، ويلوح هو نفسه للمقاتل… ولصورة العجوز، المُحْدوْدبة وهي تصر على مصافحة حارسها في النفق المعتم المجهول ..! إدوارد سعيد كان سيركز أكثر على هذا الكود ـ الشيفرة في الحديث إلى العالم الغربي..
ليس الجماليُّ سوى مراودة المستحيل
بالخفيف من الرثاء
والبكاء عند نقطة الضعف البريئة في سيرة الحالمين..
لو يجربوا بعضا من هذا المستحيل
الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 28/11/2023