يعتبر جاك لوغوف (1924/2014) أحد أبرز المؤرخين الفرنسيين الذين لمع نجمهم في مدرسة الحوليات؛ وبإجماع المؤرخين فهو يعد أحد أهم أعمدتها، بل إن المدرسة السالفة الذكر ارتبطت باسمه أكثر من اسم مؤسسها مارك بلوخ.
لقد أغنى المؤلف المكتبة التاريخية بأزيد من ثمانية وأربعين مؤلفا تتمحور مضامينها حول تاريخ العصور الوسطى؛ ومنها على سبيل المثال لا الحصر: «المثقفون في العصر الوسيط»، و»حضارة الغرب القروسطي»، وكتاب «من أجل عصر وسيط آخر»، وكتاب «الانسان القروسطي»، وكتاب «العصر الوسيط اليوم»، ومؤلف «هل نشأت أوربا في العصر الوسيط»، وكتاب «إله العصر الوسيط»، و»بحثا عن العصر الوسيط»، وكتابه الأخير «هل يجب فعلا ان نجزئ التاريخ إلى شرائح؟».
وقد أنجز جاك لوغوف معظم أبحاثه خلال الفترة الممتدة ما بين 1957 و2014. وانطلاقا من ثيمة هذه المؤلفات، فإن المؤلف يعد وبحق مؤرخا للعصور الوسطى الأوربية.
صدر كتاب «التاريخ والذاكرة»، وهو عبارة عن نصوص، على شكل ترجمة إيطالية نشرت بين عامي 1977و1982 عبارة عن مجموعة عشرة نصوص نشرتها موسوعة دار «جيوليوإينودي» في مدينة تورينو، وقد نشرت في الموسوعة باللغة الإيطالية في عام 1986 تحت عنوان «التاريخ والذاكرة»Storia e Memoria . أما النسخة التي اشتغلنا عليها، فهي النسخة العربية الصادرة في نونبر2017 عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بقطر؛ ترجم النص الفرنسي الباحث جمال شحيد، ويبدو لشدة الأسف أنه لم يوفق في نقل النص الفرنسي إلى نص عربي مقروء ومفهوم من طرف المؤرخين وبخاصة المغاربيين منهم، وربما يوعز هذا لكون المترجم لا يشتغل في حقل التاريخ أو أنه وجد صعوبة في نقل مضامين النص الفرنسي إلى العربية. وعلى العموم وبالعودة الى النص الفرنسي ومقارعته بالنص المترجم إلى اللغة العربية استطعنا وضع قراءة تتناسب ومشروع جاك لوغوف والتي نسعى من خلالها تقريب القارئ إلى أهم المؤرخين الفرنسيين الذين تعد مؤلفاتهم لامناص عنها للمشتغل في حقل التاريخ والعلوم الاجتماعية.
يقع الكتاب في حوالي أربعمائة صفحة من الحجم المتوسط ويشمل مقدمتين للنص الإيطالي والنص الفرنسي وأربع فصول مع لائحة المراجع وفهرسة للمحتويات.
ينطلق جاك لوغوف في مؤلفه هذا من مسلمة مفادها أن التاريخ باعتباره علما مستقلا بذاته يطرح ستة معضلات أو بالأحرى ستة إشكاليات :
-هل هناك علاقة قائمة بين التاريخ المعيش والتاريخ المدون؟ يجزم صاحب المؤلف أن هذه العلاقة لا يمكن استيعابها وفهمها إلا من خلال علم جديد هو فلسفة التاريخ أي تاريخ التاريخ.
-ماهي العلاقات التي ينسجها التاريخ مع الزمن؟ يرى المؤلف أن الإنسان ابتكر التقويمات السنوية لكي يطوع الزمن، لكن المتخصصين يستحضرون دائما التاريخ والذاكرة لمحاولة فهم العلاقات القائمة بين التاريخ الطبيعي أو الموضوعي .
-هل التاريخ هو دياليكتيك بين الماضي والحاضر أو العكس؟ بالعودة إلى معطيات العصور الفائتة يتضح أن مفهوم الانحطاط والتطور والاستقرار غلبت على الكتابة التاريخية وهي رؤية متشائمة حسب صاحب الكتاب ولم يتم تجاوز هذه النظرة الدونية إلا مع عصر الأنوار حيث أصبحا نقرأ في المضان التاريخية عبارات مثل التطور التقدم النهضة الثورة .
-التاريخ عاجز عن توقع المستقبل والتنبؤ به وبالتالي لابد من البحث عن موقعه كعلم ضمن علم المستقبليات.
-انفتاح التاريخ على العلوم الاجتماعية وبخاصة السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا جعل المؤرخين يركزون على تاريخ البنيات؛ وعندما يتعلق الأمر باعتماد المؤرخ على المنهج الأنثربولوجي الأنجلوساكسوني فإنه غالبا ما يقر بوجود تاريخ جامد.
-المناهج الجديدة في الكتابة التاريخية خلصت إلا أنه ليس هناك فقط تاريخ للإنسان وبالمقابل فإن مجموعة من الأحداث التي شهدتها البشرية منذ الخلق لايمكن فهمها والوصول إلى حلقاتها المفقودة إلا باعتماد نهج جديد في التاريخ هو تاريخ الطبيعة.
نشأت فكرة التاريخ في حضارات الشرق الأقصى فالكلمة اليونانية (historié) بجذورها الهندية-الأوربية لم تكن تعبر سوى عن المرويات، كما نقول (سمعتهم يقولون، رأيت، كنت حاضرا …)، وهو ما يعني حسب المتخصصين أن هذا النوع من التاريخ لم يتجاوز منطق (التاريخ/ القصة أو التاريخ/الشاهدة)، واليوم، ومع تطور وسائل الإعلام، أصبح التاريخ الحدث يعوض التاريخ الشاهدة من خلال منطق «عودة الحدث»، حسب المؤرخ «بيير نورا» الذي لعب دورا كبيرا في تطوير مفهوم التاريخ الفوري حيث أصبح بمقدور العديد من المشتغلين في حقل الاعلام والصحافة أن يتحولوا إلى مؤرخين. وإذا كان العديد ممن وصلتنا شهادتهم إما كشهود عيان للحوادث التاريخية أو كناقلين للرواية المنتقاة من أفواه أبائهم وأجدادهم، فإن شهادة هؤلاء اليوم تعد وثيقة تاريخية؛ هذه الأخيرة أصبحت اليوم عرضة للنقد من طرف أهل التخصص على اعتبار أن هذه الوثيقة ليست بريئة وإنما تحمل في طياتها ما تعبر عنه من قدرة المجتمع البشري، خلال مرحلة تاريخية محددة، على التحكم في الذاكرة والمستقبل ومن تم فالوثيقة صرح كما عبر عنه جاك لوغوف وميشيل فوكو في أكثر من مقام كل.
إن الوثيقة التاريخية، اليوم، ليست مجرد أطلال وبنيان هش مرت عليه مراحل تاريخية بأحداثها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل أصبحت تشمل الصور، والأقوال، والحركات، بل ستعرف قفزة نوعية مع الثورة المعلوماتية التي سهلت عملية الأرشفة والتوثيق، ومن هذا المنطلق ظهر توجه جديد في البحث التاريخي هو التاريخ الكمي الذي يعنى بإحصاء السكان والاقتصاد، والتاريخ الثقافي مما سيضطر المؤرخ لاحقا إلى استعارة أداوت عمل الإحصائي والمشتغلين في حقل المعلوميات.
لقد مر التاريخ من تطورات هامة حدثت خلال القرنين المنصرمين ومازالت أثارها بادية للعيان من خلال طبيعة الكتابة التاريخية الآنية، وهذا ما عبر عنه لاحقا جاك لوغوف بمقولة المسافة القائمة بين الواقع التاريخي والعلم التاريخي؛ والواقع أن العديد من المؤرخين ابدوا امتعاضا من فلسفة التاريخ كعلم مستقل بذاته وأبدوا ارتياحا أمام المدرسة التاريخية الوضعانية التي أسسها الألماني «رنكه» ومن أبرز هؤلاء: شبنغلر، فيبر، كروشه، غرامشي، توينبي، ومع القرن التاسع عشر لمع نجم المدرسة الفرنسية مع لانغلوا وسنيوبوس. كما ظهر اتجاه جديد يتموضع بين المدرسيتين يتزعمه لوسيان فيبر الذي أسس لطرح التاريخ/المشكلة.
يتساءل جاك لوغوف كيف تحول التاريخ من مجرد سرد للمرويات والأحداث إلى علم قائم الذات؛ ويرى أن الإجابة عن هذا السؤال تجبرنا إلى التعريج على أهم المحطات الفاشلة التي كانت تسعى إلى وضع قوانين منظمة للتاريخ ومنها النظرية المسيحية القائلة بالتدبير الإلهي، PROVIDENTIALISME، والتي ارتبط اسمها بالمؤرخ (بوسوييه)، وكذا الماركسية وبخاصة مع لينين الذي لخص التاريخ بكونه تحول للمادية التاريخية إلى علم مزيف للحتمية التاريخية، والتي سيكذبها لاحقا التفكير التاريخي.
يقترح جاك لوغوف في كتابه موضوع القراءة أن إمكانية تجاوز هذه المحاولات الفاشلة التي سعت إلى وضع قوانين منظمة للتاريخ وبالتالي الارتقاء به إلى مستوى علم قائم الذات تضطرنا إلى ضرورة قراءة عقلانية للتاريخ، وتبدأ بالتسليم بأن هناك أمورا منتظمة في مجرى التاريخ وعلي سبيل المثال إجراء مقارنة مثلا بين مجتمعات بشرية وبنى مختلفة وعدم التسليم بوجود نموذج واحد يمكن إسقاطه على مجتمعات وبنيات مختلفة، وهذا يجعلنا نؤمن بأن هناك فروقات في تكوين ونشأة وتطور هذه البنيات وهو ما سيزيل فكرة الحتمية التاريخية باعتبار التاريخ مجرد سرد نمطي.
هناك مشكلة أخرى تظهر بشكل مستمر أثناء بناء الحدث التاريخي؛ ويتعلق الأمر بثنائية الموضوعية والذاتية في الكتابة التاريخية، فهناك من يتساءل عن براءة الوثيقة الموظفة و مدى خطورة اعتمادها في بناء المعرفة التاريخية؛ فالمؤرخ بهذا المعنى ابن بيئته يتأثر بالأحداث السياسية والاجتماعية… سيما عندما يكن جزء من «الفاعل التاريخي». يجرنا هذا المعطى الأخير حسب جاك لوغوف إلى نقد الفعل التاريخي وهي فكرة تجرنا مرة أخرى إلى التشكيك في معطيات تاريخية أو الاعتراف بوقائع تاريخية جهلها المؤرخون لفترة طويلة. نتج عن هذه السيرورة في تطور الفكر التاريخي ميلاد توجه جديد في الكتابية التاريخية ويتعلق الأمر بتاريخ التصور وهو توجه مرتبط بتاريخ الذهنيات والإيديولوجيات أو التاريخ المتخيل وتاريخ التصرفات والممارسات والشعائر وتاريخ الرموز وتاريخ التحليل النفسي.
لقد أصبح المؤرخ، وفق المنظور الجديد للتاريخ وابتداء من سنة 1929 يعتمد تيمة الزمن التاريخي بجميع إيقاعاته (الزمن الطويل –الزمن المتوسط- الزمن البطيء). وقد نتج عن هذا التقطيع في الزمن إجماع المؤرخين على أن كل الاحداث المرتبطة بالزمن الطويل يبقى مجرد تاريخ جامد وهو الطرح الذي ذهب إليه كل من المؤرخين بروديل و لوروا لادوري؛ وانطلاقا من هذا التصور البرودلي للتاريخ فإن الأنثربولوجيا ترى العكس باعتبار الحركة والتطور متلازمتان للعلوم الاجتماعية وبالتالي فإن التاريخ حسب المنظور الانثربولوجي هو علم تغير وعلم شرح لهذا التغير. وتسعى البنيوية ضمن هذا التصور الأنثربولوجي إلى ضرورة تطبيق المؤرخ الطرائق والمناهج البنيوية وبخاصة أثناء دراسة الوثائق التاريخية حيث ينبغي على المؤرخ فحصها وتحليلها تحليلا دقيقا وليس الاعتكاف على شرحها فقط.
خلاصة وتركيب: إذا استطاع الغرب كتابة تاريخهم بشكل يتماشى مع تطور الفكر التاريخي عندهم فهل أفلح المشرق والمغرب بخاصة في هذه المهمة؟ حسب الهيستوغرافيا العربية فإن معظم الدراسات المنجزة إلى يومنا هذا لا تعدو أن تكون تقليدا للمدرسة الغربية ونستني من ذلك مؤرخوا صدر الإسلام ومؤرخي الدولتين العباسية والاموية ولابد أن نسجل أن المؤرخين المغاربيين وبخاصة المغاربة والتونسيين منهم تأثروا كثيرا بمدرسة الحوليات فجاءت إنتاجاتهم التاريخية مبهرة للغاية هؤلاء وضعوا حدودا فكرية بين الوثيقة والانفتاح على العلوم الاجتماعية وضمن هؤلاء نجد المؤرخ محمد حبيدة الذي نجح في محاولة كتابة التاريخ انطلاقا من المنهج الاجتماعي؛ حيث ألف حول تاريخ الأغذية وتاريخ الطبيعة ولمع نجمه كذلك في التأريخ للعصر الوسيط ويعد كتابه بؤس التاريخ محاولة جادة لطرح أسئلة محورية مفادها هل كل ما كتبه المغاربة يمكن أن نضعه ضمن خانة الكتابة التاريخية؟ كما لمع نجم المؤرخ المغربي الجيلالي العدناني سواء في إعادة كتابة تاريخ الطريقة التجانية أو التأريخ بواسطة السيرة، ونجح كذلك في إعادة كتابة جزء مهم من تاريخ قبيلة أيت عبد الله اوسعيد حيث ظل محايدا بين ما كتبه الحفدة ومنهم المختار السوسي حول قبيلته أو ما ذهب إليه عبد الله حمودي في مؤلفه الشيخ والمريد الذي اتخذ نموذج الزاوية الدرقاوية الإلغية نموذجا لخطاطته الشيخ والمريد، ومن جهة أخرى تمرس الباحث العدناني الجيلالي في إعادة توظيف الوثيقة التاريخية (الأجنبية والوطنية) ونجح بشكل مبهر وهو يدافع عن مغربية الصحراء انطلاقا من الوثيقة المتنوعة فأعاد طرح المسألة الحدودية بين المغرب والجارة الجزائر على المحك بشكل يستجيب للموضوعية التاريخة الشيء الذي جعل كتابه الأخير يلقى إقبالا واسعا لدى الباحثين من مختلف التخصصات، وعلى مستوى التاريخ الاجتماعي والاقتصادي يظل إسم عبد الأحد السبتي وازنا من خلال مؤلفه «بين الزطاط وقاطع الطرق…» أو من خلال تأريخه لبيوتات فاس كما لعب المؤرخ المغربي لطفي بوشنتوف دورا كبيرا في إعادة كتابة تاريخ دولة السعديين من خلال مؤلفه «العالم والسلطان» وأعاد طرح بعض المسلمات التي ظلت تفرض نفسها لمدة طويلة و قام بدحضها باعتماد الوثيقة والمخطوط و لا يسع المقام لجرد كل الدراسات المغربية المنجزة منذ الاستقلال إلى يومنا هذا وإنما ما يمكن أن نشجع عليه هو أن الجامعة المغربية اليوم مسؤولة اليوم على جودة الإنتاج التاريخي التي تنبني على التأطير الجيد والمتابعة الصارمة للطالب الباحث في سلك الدكتوراه.
(*) أستاذ باحث في التاريخ المعاصر