تيمات الرواية :
واضح أن هذا النص الروائي، يراهن إبداعيا، على إعادة مطارحة جملة من القضايا والموضوعات التي تبدو رئيسة ومستعصية، من زوايا مختلفة، ووجهات نظر متعددة، وهذه بعض أو أبرز تلك التيمات :
أولا : الصراع العربي – الإسرائيلي
الصراع العربي الإسرائيلي أو العربي اليهودي، أو العربي الصهيوني، حسب اختلاف وجهات النظر والرؤية، وتعدد منهجيات التفسير والتحليل والتبرير، التي تمثلها شخصيات النص ، بنيس وأمين من جهة، إستير من جهة مغايرة، ريبيكا من وجهة أخرى ؛ يقول أمين في رده على امحند: ( أعيد ما يقوله الإسرائيليون أنفسهم، يرددون في ازدهاء أنهم من أجهز على الحلم . أعترف أن المسؤولية مشتركة … أيادينا مجنة، لأن السلطة والثروة محتكرة، والحناء سيئة، حناء الغرب ..) (ص130) ؛ تسأله نعيمة عن معنى الجمع بين الانتماء إلى أصل يهودي ومعارضة إسرائيل (ألست في دائرة الخيانة ؟ أن ترتبط بالعمق اليهودي، وتنغمر في قضايا متعارضة مع إسرائيل؟ ) (ص148) ، يجيب أمين (لا أجادل في حق إسرائيل في الوجود، ولن هل ينبغي لهذا الحق أن يكون نقيضا لحق الآخر.. ) (ص149) ، فقد طرح الإشكال ابتداء حين (حل اليهودي ليس كضيف، وليس كقريب نزل عند قريبه، ولكن كغريب يخرج العربي من أرضه … ومنذ ذلك الحين ساءت العلاقة بين القريبين …وفي 67 وجه اليهودي الضربة القاضية للعربي على حلبة التاريخ … بين العربي واليهودي تاريخ مشروخ، وينبغي أن يذهبا سويا إلى معبد التاريخ كي يجريا قراءة لذلك الحدث الفاصل، ولكن الإسرائيلي غير مستعد، لأنه مزهو بالنص، ومسكون بالخوف، الخوف المتواتر لقرون … السجن الإسرائيلي ربما هو التعبير الأصح ، ردد أمين … عوض أن يقيم الإسرائيلي قرطبة جديدة، احتمى في قانون الهوية، ليقع في الأبارتيد …)(ص165) ، وما الحل ؟؟ ، يجيب السارد (ينبغي الانتقال إلى عالم الفكر، والوسيلة الوحيدة هي النظر في مرآة إسرائيل، هو تمثلها، هو قراءة تجربتها … هو خوض المعارك التي خاضها اليهود، ومنها تخلصهم مما أسماه جان دانييل بالعبء اليهودي ، كي يتخلص العالم العربي من أوهاقه وما أكثرها …ينبغي للعرب أن يقدحوا أنوارهم من مادة حطبهم … ) (ص166) ؛ في رحلته المتوهمة إلى إسرائيل، يفكر(أمين) في بيت المقدس، المكان الذي تحول إلى (بؤرة صدام ، وكان يمكن أن يكون فضاء تلاقي للديانات التوحيدية، بيت المقدس، وكنيسة القيامة، وحائط المبكى ..) (ص365) ، قد يكون هذا هو موقف سارد هذا النص، يبثه من خلال إسناد الكلام إلى (أمين).
ثانيا : السجال العربي – الأمازيغي
السجال العربي الأمازيغي ، الذي تحكمه مجموعة من العناصر، يأتي على رأسها الحيف، الذي تستشعره قطاعات من الأمازيغ ، يعبر عنه (امحند أو الشخص الأمازيغي) بالميل إلى الوصاية ( فئة تجري وصايتها على الآخرين، وتجردهم من ماضيهم، وتكذب على حاضرهم، وتعبث بأمانيهم ) (ص62) ، ما جعله يرفض هذا الأنا الجمعي الذي انبنى (ليس فقط على إنكار الآخر، بل محقه باسم أراجيف) (ص61)، وينتقد (امحند) بالتبع، الأحكام التي صدرت في حق شباب الريف، فهذا الأنا الجمعي بالنسبة إليه يحمل ندوب الاحتقار، (أحمل ندوب الاحتقار… لم يكن يتاح لي في الجريدة سوى الصفحة الثقافية، يمنع علي أن أكتب في القضايا السياسية … المسألة تنصرف لقومي. من هم في الجبال يعانون الخصاصة ويعيشون الشظف. ومن هم في السجون لأنهم عبروا عن مطالب اجتماعية .. ) (ص83) ؛ يتوقف السارد وهو يتذكر أحوال سكان قرية (كرامة) الذين يتكلمون الأمازيغية ، والذين مر بهم صحبة نعيمة، في طريقهما إلى ضريح (سيدي بوحصيرة) ، يتوقف ليقول: ( لم تعد الأمازيغية مجرد لغة يناضل ناشطون من أجل الاعتراف بها، بل إحالة على واقع، وتصور لمستقبل .. لم يكن خطاب الهوية إلا شجرة تخفي السعي للعدالة الاجتماعية والكرامة . وبناء إنسان جديد) (ص372) ، قد تكون هذه خلاصة سارد هذا النص ، في ارتباط بهذه القضية .
ثالثا : الحداثة
الحداثة أو صورة المجتمع وما يمكن أن تكون عليه؛ يخبرنا سارد هذا النص أن أمينا (يعي أن التحديث دينامية مجتمعية وليست قرارا، وأن دوره كمثقف هو أن يرصد مسيرته لا غير..) (ص63). وفي شأن علاقة العرب بالغرب، فقد (انتهى أمين أنه لا يمكن فهم الغرب من دون الوقوف على الحرب العالمية الأولى … مهم أن يقف المرء على جينوم الغرب، ذلك الذي صاغته الأنوار، ولكنه يظل مستعصيا من دون الحرب العالمية الأولى، فهي التي أجهزت على ما تبقى من أوهاق التقاليد …) (ص218) ، وعلى لسان (ريجيس دوبريه) يقول السارد : ( يفصح ريجيس دوبريه عن مكنون الغرب. ليس لدى الغرب تعاطف مع العالم العربي، وإنما مصالح . مصنعو الأسلحة ومديرو المتاحف لا يستحثهم سوى مال العرب، ورجال أمنه واستراتيجيوه منصرفون إلى فرقعاته ، وأرباب الشركات إلى شطآنه وفنادقه ) (ص224) ؛ وينتقد الراوي ما يسميه بالانفصام الذي يتستر عنه التقدميون. يقول : (ما يتستر عنه (التقدميون) لا يظهر للعيان، لكن ما يلبث الزمان أن يكشف عنه ويجليه. ومأساة العالم العربي تكمن في (التقدميين) أكثر من المحافظين، لأنهم لا يستطيعون أن يذهبوا إلى أبعد مدى. ينثنون أمام أول منعرج ) (ص105) ، ما أدى إلى ضمور الخطاب الثوري في مقابل (ظهور الخطاب الديني في صورته الكاريكاتورية، من قراءة حرفية للنص التي من شأنها أن تمنح الصهيونية مبرر وجودها ، وتستعدي الغرب ضد العرب …) (ص105) ، ويشير الراوي إلى بعض أسباب هذا التراجع النظري، فيؤكد على تراجع دور الجامعة (لكن الجامعة شاخت من دون أن تعرف فتوة الشباب ، انتقلت من الطفولة في براعمها الأولى مما أخذته من الجامعة الفرنسية، ثم دخلت مرحلة الشيخوخة . نقلت مصطلحات من دون محتوى..) (ص108) ، والحديث عن الجامعة يعني الحديث عن المثقفين الجامعيين.يقول عنهم السارد ( أبعد همهم البحث والدقة والموضوعية ، وشغلهم الشاغل النميمة وكتابة البلاغات التي تحبل بالأخطاء …لا ينكر أمين جهود أشخاص متميزين … أو مجانين …يستمسكون بحلم أو سراب، بإمكاناتهم الذاتية … ) (ص109) ، وأيضا الحديث عن تراجع دور الصحافة التي (لم تعد في دائرة التحليل ولا التحرير، فبالأحرى التنوير، بل سقطت في الهراش والتشهير، فضلا عن الاختراق ) (ص206) ؛ كما يشير السارد إلى علاقة العرب غير الصحية مع التراث ، والتراث اللغوي (ينام العرب على كنز من تراث لغتهم .. كما كانوا ينامون على مخزون البترول، ولا يعلمون عنه شيئا إلى أن اكتشفه (الكفار) ، ونقلوهم من الشظف إلى اليسار. ولكن استخراج نفائس تراثهم لن يقوم به غيرهم. والعجم ممن لازموهم في مسرى حضارتهم ، تحولوا عنهم … هل يمكن أن تتطور لغة من غير دعامة إيديولوجية أو قوة اقتصادية ؟ ) (ص207) ؛ ولأنه لا تحديث ولا مثقفين بلا حرية، فقد أوردت الرواية عناصر تفيد هذا المعنى، من ذلك ما تعرض له معتقلو تازمامارت حيث ( جرد أناس من إنسانيتهم … كان ينبغي أن ينطفئوا رويدا رويدا …) (ص369) ، وما تعرض له الصحافي السعودي (جمال خاشقجي) من تصفية (ص128) ، (قضية مهدي بن بركة مكررة )(ص129) ، وما تعرض له والد (امحند ) وجده من معاناة، جراء نضالهما (القومية العربية ليست خطابا فقط بالنسبة إلي ، ولكن جراحا لا تزال ندوبها قائمة) ، يقول (امحند) (ص133) . في لحظة معينة، يرصدها الراوي، تساءل أمين عن اللحمة التي يمكن أن تشد حيوات الناس، أهي (الوطنية ، القومية ، الرابطة الإسلامية ، الأمازيغية ، لغة، عرق، انتماء، الانغمار في التوزيع العالمي للإنتاج ..) (ص280)، أم هي الحداثة (ولكن كيف، هناك صور للحداثة من غير جوهرها … هي الأسئلة ذاتها التي طرحت منذ قرن. وهو السجال ذاته الذي قرأه الأمس، ما بين الرافعي وطه حسين ..) (ص281)، وبعد مناقشة معينة للبدائل التي طرحت، يدلي السارد برأيه : (ينبغي الانتقال من عملية تتجاوز التحنيط، في ما بقي فيه الرافعي، والصقل ف يما عمد إليه طه حسين ، إلى الصهر. تذويب المادة الخام وصياغة شيء جديد ) (ص281) ؛ هل هي خلاصة راوي هذا النص، في ارتباط بمسألة الحداثة ؟ ربما .
رابعا: البعد الثقافي
يبدو واضحا، احتفال هذا النص الروائي، بالنقاش الفكري والنظري ، المستند على مرجعيات ثقافية متنوعة، يعمد الراوي إلى إثارتها عبر سجالات وأسئلة تتعدد وتختلف حد التضارب والتنافر، أحيانا كثيرة ، وهي تصوغ أطاريحها حول (التيمات) أو القضايا التي تحكيها وتختبرها هذه الرواية ؛ ويتم تقديم الشخوص الرئيسة في هذا النص، بما هي كائنات قارئة تصوغ رؤاها بناء على مراجع محددة تتفق معها أحيانا، وتسائلها أحيانا أخرى؛ من هنا ، هذا الكم المعتبر من الكتب التي يأتي السارد على ذكرها، بل ويقدم ملخصات لبعضها على امتداد صفحات الرواية ؛ ف(أمين) يقرأ كتاب (في أرض إسرائيل) لأموس عوز (ص75) ، كما يقرأ رواية (يهودا ) لنفس الكاتب، حيث يتوقف أثناء قراءتها مع جملة حاييم وايزمان الواردة في الرواية 🙁 إما أن تقوم دولة إسرائيل، ولن تكون يهودية، وإما الحفاظ على البعد اليهودي، ولن تكون دولة إسرائيل ) (ص103).وهذا بالضبط هو الفرق بين أمين وإستير؛ ولقيمة رواية (يهودا) بالنسبة إلى السارد، لا يفوته أن يقدم ملخصا لها في ثنايا الحكي (ص106) ، كما يخبرنا بين الحين والآخر أن (أمينا) بصدد قراءتها (ص 126)، وأنه أنهى قراءتها (ص135).وفي نفس السياق يحرص (أمين) على قراءة كتاب (الإنسية اليهودية) لبرنارهنري ليفي (ص90)، وكتاب (العهد القديم) في نسخته الفرنسية (ص169) ، ومن مكتبة الألفية بالرباط اشترى أمين كتاب (إلى صديق إسرائيلي) لدوبريه، وكتاب (هوية المعاناة ) لإستير بناسا، وكتاب (تحت راية القرآن ) لصادق الرافعي، ويخبرنا السارد أنه : (كان مسرورا أن جمع في كيس رؤى مسيحي ملحد ، ويهودية غنوصية ، ومسلم صافي العقيدة والمنزع، حارس للتراث، أو لمادة خام لم تتحول ) (ص276) ؛ كما يخبرنا السارد، من جهة أخرى، أن في خزانة (نعيمة) كتاب (تأملات في القضية اليهودية ) لسارتر (ص151)، ويورد بعضا من أفكاره التي تهمه منه بإسناد قراءتها لـ (أمين ) (ص164-165). ويشير السارد إلى ما سطرته (نعيمة) في الكتاب نفسه (حتى كتاب سارتر قرأته . وقف على مقاطع مسطرة.. )(ص166) ؛ وفي خزانة نعيمة أيضا كتاب(اعترافات) لأغسطين بالفرنسية (ص152)، وهو نفس العنوان الذي سيقتنيه (أمين) من وراقة بابراهيم في ما بعد (ص192). وسيقوم السارد بالتعريف ب(أغسطين )، بما يفيده في بناء الرؤية التي تؤثث أو تسائل مجريات هذا النص الروائي، أو هكذا يمكن أن نقرأ ؛ أغسطين (وجه كبير من وجوه الكنيسة) (ص194) ، (نال من المعارف العقلية التي كانت تزجى في قرطاج، وينظر باستهزاء إلى المتشددين …يولي وجهته إلى روما، ويحل بها ليشبع نهمه في المعرفة والحياة. الطرق إلى الله ليست طريقه. وفجأة يتحول الفتى إذ يكتشف الله )(ص195) ؛ وبقراءته لأغسطين يخلص (أمين) في تقديره إلى الكتب التي صاغت رؤية الغرب في الشأن العام، وهي في اعتباره ثلاثة: (المدينة الفاضلة لأفلاطون، ومدينة الله لأغسطين، والمواطن لهوبز) (ص 195) ؛ ولكن، ما علاقة أغسطين بغير العربي ؟ ؛ يتذكر أمين التعليق الذي قرأه بقلم الرصاص، في النسخة التي وجدها عند نعيمة لشخص مجهول ( ألا يكون تعبيرا عن العبقرية الأمازيغية ؟ …هل يمكن أن نفهم أغسطين من دون سابقة أفولاي ؟ يدين أغسطين بالولاء لأفولاي …هي التربة ذاتها التي أنجبت في ما بعد ابن خلدون …) (ص196) ؛ ويبدو السارد مهموما بما يسمى الحس النقدي الذي ينبني رأسا على القراءة، ويورد في ثنايا هذه الرواية نقاشا لأمين حول مسألة الكتاب في علاقة بالفضاء الأزرق، تعليقا على كلام للكاتب (ريجيس دوبري ) (ص222). يقول السارد: (القفز على الكتاب لمرحلة الشاشة سيفضي إلى أذهان ضاوية ، … ينعدم فيها ما يمنح القوة للعضلات، الحس النقدي، من العسير القول بحركة إصلاح في الأفق ( (ص222).
خامسا : معاناة المثقف المناضل
الحديث عن الثقافة يقتضي الحديث عن شجونها، ومصاعبها وهمومها التي تتعدد وتختلف ولا تنتهي، وتعرض الرواية لصور من معاناة المثقفين المناضلين، وأصحاب الرأي الحر أو الذين يريدون أن يكونوا أحرارا، ويمثل (أمين )أحد هذه النماذج ، إلى جانب نماذج أخرى تعرض لها الرواية . ومنذ بداية الحكي تقدم الرواية صورا لمعاناة (أمين) الفكرية داخل الجريدة التي يشتغل بها، والفرق بين طموحاته الفكرية والخط التحريري لمن يقفون وراءها ، (ص13-14)، وكيف تعرض مقاله للسحب، بأمر من مدير الجريدة (ص33) ، ما أدى إلى إثارة نقاش بينه وبين رئيس التحرير حول حدود الكتابة الصحفية في بلادنا، لا سيما بعد الربيع العربي (ص34-35) ، لينتهي الأمر بفصله عن الجريدة (ص60) ، وفي جدال ل(امحند) مع لأمين يقول : (شراوهم …شكون ؟ ..اللي كتسميهم أنت الثورة المضادة… أصحاب الحال(الأجهزة) …إلا بغاو فيك الخدمة يلقاوها لك…) (ص38) ؛ ومن وجهة أخرى ، لا يزال (أمين )يتذكر كيف حدثه (بنيس ) عن مثقف مغربي يدعى (أحمد بناني) الذي ارتحل إلى سويسرا، واتخذها مستقرا، كان من الوجوه اللامعة والمزعجة، وتساءل أمين : ( ألكي يحافظ المرء على شعلة الفكر، عليه أن يلجأ إلى النفي ؟ ، أيستحيل على تربتنا أن تحضن أبناءها المزعجين، من يطرحون الأسئلة ، ويبصرون ذويهم بما يعمى عليهم، بسبب العادة والخوف والمصلحة.) (ص154) ؛ أيضا ، تورد الرواية حدث تصفية الصحفي السعودي (جمال خاشقجي ) (ص137) ، ويعلق السارد قائلا : (هل يمكن للتحامل على معارضأن يبلغ هذا الحد من الهمجية ؟ ) (ص140) ، ثم يضيف على سبيل التفسير : (لم تكن حرب الخليج لتقع، تلك التي أجهزت على المنظومة العربية ، وأدخلته في الثقب الأسود، وحكمت على العراق بالتجويع ، لولا تواطؤ القوى المحافظة برعاية أمريكية ) (ص143-144) ، ويؤكد في مكان آخر، أنها نفس المنظومة (… التي قطعت أوصال الصحافي خاشقجي إربا إربا ، وهي التي اختطفت معارضا مغربيا ، من دون أثر…هي المنظومة التي أقبرت سجناء أحياء في سجن تازمامرت الرهيب..) (ص182) .
سادسا : الحكاية
إلى جانب الحكاية الرئيسة ، أو التي يمكن اعتبارها كذلك ، يعمد السارد إلى تأثيث هذا النص بحكايات عابرة، أو عاطفة ، أو هكذا تبدو ؛ يوردها ليعبر من خلالها، عن موقف معين يهم مسألة معينة ، ويمكن رصد هذه الحكايات كما يلي : حكاية أمين مع نادلة البار الفرنسية (كريستين) (ص235 وما بعدها )، حكايته مع اللص الذي أراد سرقته واعتدى عليه بالضرب ، (ص248_249_250) ، ومن خلال هذه الحكاية ، يعرض الراوي صورة عن عالم الإجرام والاعتداء والمخدرات ، وما يسميه بشريحة الجانحين الصغار في مقابل الجانحين (الكبار الذين يسلبون ضحاياهم بكياسة وشطارة ، ومعرفة . باسم القانون ، ومن منطلق أوضاعهم .) (ص252) – حكاية أمين مع حارس العمارة (بابوشعيب) واهتمامه بما سيقوله للمقدم حين سيسأله (ص193) ، (قل لي فين كنت باش إلا سولني المقدم ) (ص278) ، (نقولها للمقدم ؟)(ص294).
الشكل :
يقول الناقد الفرنسي (رولان بارت) : (إن البعد الاجتماعي للأدب لا يدرك إلا لحظة نفهم أن الأدب لغة ، وليس مطلقا وسيلة لنقل المعاني والمضامين والتمثلات ) .
إذا جاز لنا أن نرصد بعض العناصر التي تهم الشكل الذي انبنى عليه هذا النص الروائي، يمكن أن نشير إجمالا إلى ما يلي :
-الإستهلال : اختار الروائي استهلال هذا النص بشعر مترجم عن اللغة الإنجليزية لكاتبه (كولريدج ) (ص5)، ويشير إلى معنى تحول الحلم إلى حقيقة، الأمر الذي سيبحث عنه سارد هذا النص، دون أن يتأكد من وجوده في النهاية .
– تقديم الشخصيات: يتم تقديم الشخصيات بحسب موقعها في الحكي، مع تركيز واضح على الشخصيات الرئيسة ، أو التي تبدو كذلك ؛ كانت البداية بتقديم صحفيي الجريدة التي يشتغل بها (أمين) (ص8-9-10) ، يتلوها الحديث عن شخصية (أمين). ويلاحظ تركيز السارد على الوجهة الفكرية للشخوص ، ف(أمين) (لم يكن إسلاميا ، بيد أن ما سمح له بالاشتغال في الجريدة ، انضواؤه في حركة 20 فبراير في خضم (الربيع العربي) … وبرز في عمود الرأي كأحد الأقلام المتميزة … كان مزدوج الثقافة والتكوين …كان الحدث الذي شحذ وعيه هو حرب الولايات المتحدة على العراق في 2003 … كان أمين يبين عن نهم معرفي ، وشغف بالقراءة ..) (ص11) .
-اللغة : تبدو هذه الرواية مهمومة بمسألة اللغة ، سواء من حيث كتابتها، أومن حيث التفكير في إشكالاتها وأسئلتها، على اختلافها وتنوعها، ويبدي الراوي الكثير من الانضباط في توظيفه للغة ، بما هي أداة للتعبير الذي يروم الكشف عن الأحوال والأفكار والتوجهات، ولا يتردد في تصحيح ما يراه غلطا لا يستقيم، ولا يجد حرجا في استعمال اللسان الدارج، بما يقتضيه المقام، مثال : (ص8-9) و(ص246-247) و(ص254-255) ، أو بما يقتضيه الشخص المتحدث، لغة أهل فاس، أو اللاشون، اللسان العبري، بالنسبة لزوجة (بنيس) مثلا :(ص87) ، ودارجة أم أمين (ص360-361) ، ودارجة (ريبيكا) بلكنتها العبرية (ص334) ، وقريبا منها دارجة (موشي زروال) مقدم الضريح (ص374) ؛ وقد يستعمل اللسان الدارج دون وضع الكلمات بين قوسين، مثال ذلك كلمات في (ص253) ، كما قد يعمد الراوي إلى ترجمة الكلمات الدارجة أو الفرنسية إلى العربية ، (ص10) ، أو إيراد حوار باللغة الفرنسية ، إذا تعلق الأمر بمتحدث فرنسي، كشأن الكاتب الفرنسي (برنارهنري ليفي) في (ص199إلى 202) ، كما لا يجد الراوي حرجا في إجراء تدقيق لغوي، يهم كلمة أو تعبيرا معينا، فكلمة (الريت) أصلها أمازيغي، كما يقول في (ص250).
– المكان : يتجه الراوي إلى وصف الأماكن التي تتواجد بها شخصيات النص، في علاقة بالبعد التاريخي والاجتماعي الذي يريده منها، الرباط المدينة القديمة، باب الحد ، شارع محمد الخامس ، شارع النصر، أكدال، شارع عقبة (ص75-76) ، مع الحرص كعادة الراوي ، على تصحيح ما يراه يتطلب التصحيح ، من أسماء ونعوت ، (إنزارن بدل أنزاران ) (ص231) ؛ ولأن (أمين ) ثم (نعيمة) هما الشخصيتان الرئيستان في النص، أو هكذا يمكن أن نقرأ، فالأماكن التي يمران بها أو يتواجدان بها، هي المعنية أساسا بالوصف والرصد، (ص248) بالنسبة لأمين، و(ص383-405-406) بالنسبة لنعيمة مثلا .
-الوصف : يعتمد الراوي ما يمكن نعته باللغة الكاشفة التي تميل إلى رصد الكثير من التفاصيل التي يجري توظيفها في عرض المشاهد، وكذا بناء المواقف والرؤى، وهذه أمثلة للتدليل: -وصف لصورة نعيمة وملامحها الخارجية(ص97) ؛ ثم وصف للعلاقة الحميمية التي تجمعها بأمين ، في الكثير من صورها التي بدت مرتبكة ، بين البداية، حيث اللهفة (145_146_147) ، والشوق إلى اللقاء (ص 288)، وبين صورتها الأخيرة حين اعتراها الغموض، بعد أن كشفت لأمين عن جوانب بدت غامضة من حياتها الشخصية (ص394-395) ؛ من جهة أخرى، تبدو هذه العلاقات الحميمية ، بمعناها الجنسي، مع ما يصاحبها من معاقرة للخمور، بمثابة هوامش حيوية يلجأ إليها (أمين) ، ليداري بها حرقة الأسئلة التي يجدها تطارده باستمرار.
-تدخل السارد : يقول الناقد البلغاري (تزفيطان تودوروف ) 🙁 فالسارد هو الذي يجسد المبادئ التي ينطلق منها إطلاق الأحكام التقويمية، وهو الذي يخفي أفكار الشخصيات أو يجلوها …وهو الذي يختار الخطاب المباشر أو الخطاب المحكي ويختار التتالي الزمني أو الإنقلابات الزمنية .. ) ، (والسارد ليس هو الكاتب).
يلاحظ، أنه بين حين وآخر، وأثناء الحكي، يتدخل السارد من خلف ، إما مباشرة ، أو عن طريق إحدى شخصياته، ليعلن عن موقف معين، يهم مسألة معينة ، أو ليعضد قراءة ما، أو ليطرح مزيدا من الأسئلة ، أو ليوسع مجال المقاربات التي تهم قضية من القضايا، وهذه أمثلة لذلك : يقول منتقدا ما آل إليه وضع الصحافة، في نظر أمين، أو الراوي : ( لم تعد في دائرة التحليل ولا التحرير، فبالأحرى التنوير، بل سقطت في الهراش والتشهير، فضلا عن الاختراق …) (ص206) ، ويقول في موضع آخر، عن علاقة الشرق بالغرب : (العالم أكثر تعقيدا مما انتهى إليه المجهول، العالم ليس أنا وآخر متقابلين، الأنا والآخر أصبحا متداخلين، الشرق في الغرب والغرب في الشرق، امتزجت الأمشاج . لا يمكن فهم الواحد من دون الآخر(ص238)…لكن هناك ما هو أعمق من منظورالغرب، الحاجة إلى عدو. إلى عدو حميم .. إلى عدو ضروري ) (ص239) ؛ وقد يتخذ تدخل السارد شكل تأمل فلسفي ، يقول بإسناد الكلام لنعيمة :(كانت نعيمة قد حذرته مرة أن من يدخل الجنان يطرد منها. يطرد منها حين تمتد يده إلى الشجرة المحرمة، إلى المعرفة . لم يكن عليه أن يفعل.)(ص263) ، وفي مكان آخر، يوظف السارد تقنية التذكر، في جرده لبعض الأحداث ، من ذلك حدث تازمامرت ، يقول : (لم يثبت من المعتقلين إلا قليلون … هناك جرد أناس من إنسانيتهم، كي يحالوا للاشيء . القتل أرحم بهم . ولكن القتل لم يكن كافيا .. كان ينبغي أن ينطفئوا رويدا رويدا …) (369) .
بدا لي بعد الانتهاء من قراءة هذا النص الروائي، أنه يغامر أدبيا ، بمطارحة العديد من القضايا التي تبدو آنية ورئيسة ، بلغة المفكر الذي يكتب الأدب، وبلغة الأديب الذي يحمل هموم المفكر؛ ويبدو الروائي عبر سارده، منشغلا بإعادة طرح الأسئلة، وبالبحث عن توسيعات جديدة لهذه الأسئلة، أكثر من اهتمامه بتقديم أجوبة، فهو في النهاية يكتب الرواية، والرواية تحكي رؤيتها، بلغتها التي تختارها وعبر شخوصها، ولا تعرض أجوبة، ولا ترغب في ذلك . وأخيرا، وعلى رأي رولان بارط ، كل (ما يستطيعه الناقد هو أن (يولد) معنى معينا، مشتقا إياه من شكل هو الأثر الأدبي) .