رحلة العود من المشرق الى المغرب للمؤلف عبد الله رمضون .. القول الجامع في رحلة العود وما وقع فيها من وقائع

يطل علينا الأستاذ والباحث عبد الله رمضون بإصدار جديد، يثري من خلاله رفوف المكتبات الوطنية بواحدة من أهم المؤلفات العلمية الأكاديمية التي عمقت النقاش حول آلة العود.وهو الذي أومأ في توطئة الكتاب بكون هاته الآلةـــ بحسب تعبيره ــ شهدت تطورا ملحوظا ومتواصلا في عصرنا، على مستوى الصناعة وطرائق العزف الشيء الذي يجعلنا نستشعر منذ البداية الدافع الذي جعل المؤلف يتوسل البحث في الموضوع، ويستجمع كل ما استجد حول هاته الآلة على ضوء ما كان حاصلا على مستوى المنهج والصناعة والتطبيق.دون أن يخفي رغبته الحثيثة في أن تدشن آلة العود بالمغرب مرحلة جديدة من تاريخ تطورها على ضوء البحث والتجريب الأكاديميين، الأمر الذي عبر عنه من خلال منهج الكتاب القائم على التحليل، والجمع والاختزال، ثم المطابقة، والاستنباط في بعض فصوله، إضافة الى الحس التوثيقي في جرد المقامات وإيقاعات الموسيقى الشرقية، وطبوع و»ميازين» الموسيقى الأندلسية المغربية، إلى جانب نظيرتها في الموسيقى التراثية الفلكلورية والصوفية. ما يؤكد الخلفية الرمزية التي حركت المؤلف نحو اختيار عنوان «رحلة العود من المشرق الى المغرب»، كصيرورة جدلية تبين كيف كانت للعود حيوات مختلفة ـ باختلاف الموقع الجغرافي، والثقافي، والشرط التاريخي ـ التي تقوم عليها هاته الرحلة. وصولا الى اللحظة التي يعتبر فيها الأستاذ عبد الله رمضون سباقا للبحث في أصول صناعة آلة العود بالمغرب والوقوف على أدق التفاصيل الحسابية والمقاسية ـ إن صح التعبير- المرتبطة بها.وتوثيقها من خلال بحث ميداني تطلب منه التردد على أوراش صناع هاته الآلة على امتداد المعمور.الشيء الذي يجعل من مؤلفه دعامة أكاديمية شاملة لطلبة المعاهد الموسيقية والمهتمين يضم بين دفتيه حصيلة علمية، ومعرفية رصينة تناولت جهازا مفاهيميا قويا للموسيقى الشرقية والمغربية على أرضية ما يقتضيه البحث فيهما من ضبط للتصورات والمفاهيم ولمناهج القراءة.
فما كان في البداية إلا أن بسط للقارئ عند الفصل الأول من الباب الأول نبذة تاريخية عن أصول آلة العود، بداية من ذكر المصادر التي أرجعت ظهور هاته الآلة الى سنة 2350 قبل الميلاد بالحضارات المشرقية القديمة وعلى وجه التحديد الأكاديين، مرورا بذكر السياقات التي عرف فيها العرب آلة العود قبل وبعد الإسلام استناداإلى عدة مرجعية كان في مقدمتها كتاب»الأغاني» لأبي فرج،إلى جانب مراجع اهتمت بالتأريخ للموسيقى العربية كالدراسة التي قام بها المستشرق الألماني جورج هينري فارمر بعنوان تاريخ الموسيقى العربية كما سلط الضوء على رحلة زرياب إلى تونس، و بعدها الأندلس وما لها من أثر ثوري في دخول الموسيقى العربية وعلى رأسها آلة العود الى منطقة الغرب الإسلامي. علاوة على ذكر دورفيلسوف الأندلس وإمامها في الألحان «ابن باجة الأندلسي» في دخول العود الزريابي للمغرب فترة إقامته بمدينة فاس سنة 512 هجرية .. وصولا الى وقوف المؤلف في فقرة وجيزة على تحديد مصادر الموسيقى المغربية، على ضوء ترسانة من المراجع التي تناول أصحابها موضوع الموسيقى الأندلسية المغربية، وكان بعضهم ممارسا لها كابن الدراج السبتي وأبو عبيد الله محمد البوعصامي المكناسي، ليختم بالصورة التي ارتسم فيها العود المشرقي بالمغرب مع ازدهار موسيقى طرب الآلة المغربية على صورة «عود الرمل»، أو كما يحب تسميته أشقاؤنا بشرق الجزائر»الكويترة» وتونس وليبيا ب «العود العرْبي».
لم يتحرر الأستاذ عبد الله رمضون في الفصل الثاني والثالث، وعلى امتداد فصول الباب الثاني، من صفته الأكاديمية، كعازف على آلة العود وكأستاذ لها بالمعهد الموسيقي حيث أفرد كما هائلا من المعلومات اكتنزها على طول تجربته الميدانية، بدءا من تحديد أنواع العود بما في ذلك النسخة الأوروبية المعدلة للعود الغربي، إضافة لوقوفه على المسميات التي اكتسبتها آلة العود عبر العصور مع ذكر أسماء وأجزاء وأصوات العود كما ورد ذكرها في أدبيات من اهتموا بعلم الموسيقى وعلاقتها بعلوم التعاليم،من فلاسفة وحكماء كصفي الدين الأرموي في كتابه «الأدوار في معرفة النغم و الأدوار» وأبي إسحاق الكندي وإخوان الصفاء في رسالتهم الخامسة، بالإضافة إلى ذهابه في إرساء أهم أساسيات الموسيقى النظريةمن مفاهيم ومصطلحات وخاصيات مع تدوين علمي رصين للإيقاعات الشرقية و»الميازين» المغربية، الشيء الذي أكسب مؤلفه صفة الدعامة الأكاديمية سيجد فيه الطالب المغربي والعربي بدون شك ضالته لدعم مكتسباته بهذا الشأن، أما في الباب الثاني فقد قدم المؤلف منهجية علمية رصينة لتعليم العزف على آلة العود تعتمد بحسب تعبيره على التحليل والجمع، والاختزال، والتقدم بالمتعلم من البسيط إلى المركب، ومن السهل الى الصعب تضم تمارين ودراسات تهم حركة الريشة وحركة الأوضاع على زند العود صيغت على مقاس كل مستوى بطريقة تستهدف الرفع من مستوى كفاءة كل دارس لها.
وقد ذهب المؤلف الأستاذ عبد الله رمضون في الفصل الأول من الباب الثالث مذهب من سبقه من الرواد الذين ألفوا عدة رسائل،ومصنفات في الموسيقى العربية.أخضعوا مقاماتها على أرضية التحليل والضبط المفاهيمي للمسافات والأبعاد بين الدرجات الصوتية للمقام وفي مقدمتهم الفيلسوف صفي الدين الأرموي الذي ترجع له رسالة تعتبر من أهم الوثائق المرجعية للدارسين بعلم الموسيقى وهي «الرسالة الشرفية في النسب التأليفية». إضافة الى أبي نصر الفارابي في كتابه الشهير «كتاب الموسيقى الكبير»، حيث خضع في الفصل الأول ثمانون مقاما شرقيا للتدوين، والتحليل على ضوء نظرية الأجناس المقامية. مع ذكر تسميات الدرجات بمسمياتها الشرقية. إضافة الى 25 طبع من طبوع الموسيقى الاندلسية المغربية دون أن تفوته الإشارة الى كون هاته الأخيرة يجري العمل بها على نظام خاص، يعتمد على موقع الغماز غير الثابت، واختلاف مواقع مراكز قفلات الجمل اللحنية. علاوة على الخلفية الفلسفية او بالأحرى الميتافزيقية كما عبر عنها المؤلف، والتي تحرك منهج العمل بهاته الطبوع، كما تناول سبعة عشر مقاما خماسيا من مكنوز موسيقانا الامازيغية والحسانية بنفس الطريقة.
أما في الفصل الثاني والثالث من الباب الأخير، فقد خصصه المؤلف لجرد شامل للمعاهد الموسيقية على امتداد أرض الوطن، مع التعريف بمن يديرها ومن يستأثر بتدريس آلة العود بها مرفوقة بعناوين وأرقام هواتفهم،كما أفرد فصلا لفن صناعة العود بالمغرب يعتبر فيها الأستاذ عبد الله رمضون سباقا للبحث في أصول هاته الصناعة حيث الوقوف على تفاصيلها الحسابية والمقاسية المرتبطة بها مع ذكر أكثر أنواع الخشب المستعمل في أجزائه وتوثيقها والتعريف بأهم الصناع المغاربة دون ان يغفل شرط المناسبة للحديث عن «عود الرمل» المغربي في حوار مع الصانع المعلم حميد الهري، حيث سلطا الضوء على الفروقات التي تميز العودين على مستوى الشكل ونوع الخشب المستعمل والنسب المقاسية إضافة إلى عدد الأوتار وطريقة دوزنتها.
وعلى ضوء كل ماسبق، فلا يمكن أن ننظر الى هذا المؤلف إلا بوصفه وثيقة مرجعية على درجة كبيرة من الأهمية، تنتقى منها الجواهر انتقاء. خصوصا إذا تعلق الأمر بدارس لآلة العود أو مهتم بالموسيقى العربية والمغربية على حد سواء، حيث سيجد بين دفتي هذا الكتاب ما يشبع فضوله ويجيب عن تساؤلاته بهذا الشأن ويدعم تعلماته نظريا وتطبيقيا. من خلال ما بثه الأستاذ عبد الله رمضون من دراسات وتمارين ستبقى شاهدة على استمرار مسيرة الرجل ولخطه التحريري، في مقاربة الموسيقى بالمغرب بحثيا ونظريا وتربويا وتطبيقيا كإجابة موضوعية لحالة الفراغ التي يعرفها البحث الموسيقي بالمغرب، وأمام التراجع الخطير للمستأثرين بالشأن الثقافي في الاهتمام بكل مساعي الارتقاء بالتعليم الفني والثقافي، سواء بالمدرسة المغربية العمومية، أو في بنيات الاستقبال الثقافية على امتداد أرض الوطن.


الكاتب : ذ. عمر أبوكاض

  

بتاريخ : 12/12/2023