شركات المحروقات ومجلس المنافسة… نهاية باردة لأزمة ملتهبة
عبد الحليم بنمبارك
وأخيرا، يكون مجلس المنافسة ببلاغه الصادر بتاريخ 23 نونبر 2023 قد طوى صفحة الملف الشائك للمحروقات، معلنا بذلك نهاية مسلسل دام أزيد من 7 سنوات، أثارت أحداثه العديد من الجدل والغموض. طي هذا الملف تم في هدوء، وجاء في إطار مسطرة تسوية تصالحية مع الشركات التسع التي تنشط في أسواق تموين وتخزين وتوزيع الغازوال والبنزين ومنظمتها المهنية، التي أقرت بمؤاخذات ارتكابها ممارسات منافية لقواعد المنافسة في سوق المحروقات.
أشار نص البلاغ إلى موافقة الشركات التسع مجتمعة ومنظمتها المهنية، طبقا لمحاضر الصلح، على أداء مبلغ مليار و 840 مليون درهم مع «التزامها بمجموعة من التعهدات بخصوص تصرفاتها قصد تحسين السير التنافسي لسوق المحروقات مستقبلا والوقاية من مخاطر المساس بالمنافسة لصالح المستهلك».
بلاغ مجلس المنافسة أثار العديد من ردود الأفعال بين مرحب ومستنكر لخلاصاته. فإذا كان هذا المجلس لجأ إلى مبادرة إجراء مسطرة الصلح التي لا تطرح أي إشكال قانوني، فقد عبر بذلك عن عزمه إغلاق هذا الملف المتشعب الذي أصبح قضية رأي عام، ووضع حد لما أصبح يسمى بـ»أزمة سوق المحروقات» وحالة السخط التي أثارها. لكن مبلغ العقوبة المالية المقرر أثار أكثر من علامة استفهام لكونه يظل، حسب العديد من المراقبين والمتتبعين والمهتمين، متواضعا، لم يجبر الضرر ولا يتناسب مع خطورة الأفعال المؤاخذ عليها وحجم المبالغ المالية الطائلة التي راكمتها هذه الشركات طوال هذه السنوات.
فكيف يمكن استيعاب هذا الأمر، والحال أن مجلس المنافسة سبق له أن أوصى، من خلال رأيه الاستشاري السابق حول أسباب الارتفاع الكبير في أسعار مادتي الغازوال والبنزين (31غشت 2022)، بـ: «إقرار ضريبة استثنائية على الأرباح المفرطة لشركات استيراد وتخزين وتوزيع الغازوال والبنزين ….. وبأن المداخيل المستخلصة من هذه التدابير ستساهم في تعزيز البرامج الاجتماعية التي تقررها الحكومة « !!!.
لا جدال في أن خيار اللجوء إلى مسطرة الصلح تعتبر آلية بديلة، مرنة، سريعة وناجعة لتسوية المنازعات، والتي يتم من خلالها تفادي اللجوء إلى المحاكم بمساطرها وآجالها وتكاليفها. لكن في هذه الحالة، هل كان مجلس المنافسة، كهيئة دستورية للرقابة والحكامة الجيدة، في حاجة إلى قبول تفعيل مسطرة الصلح أخذا بعين الاعتبار خطورة هذا الملف وأهمية الضرر الذي ألحقته بالاقتصاد الوطني وبالقدرة الشرائية للمواطنين؟
السيد أحمد رحو رئيس مجلس المنافسة في حوار أجرته معه مجلة ماروك إيبدوMaroc Hebdo أكد أن: «مجلس المنافسة يفضل دائما خيار آلية الصلح لتسوية المشاكل والمنازعات ذات الصلة بالمنافسة عندما تطلبه الأطراف، لأنه يسمح بإغلاق الملفات بسرعة نسبيا دون اللجوء إلى المحاكم»، بما معنى طي هذا الملف !
وحول تعليل قرار العقوبة المالية أوضح أحمد رحو أن: «الحد الأقصى للعقوبة الواجب دفعها برسم النزاع لا يتجاوز 10 في المائة من رقم معاملات سنة واحدة وليس كل السنوات المعنية. ومن الطبيعي أن لا يتم في مسطرة تصالحية تطبيق الحد الأقصى للمبلغ»، مضيفا أنه: «لا يؤخذ بعين الاعتبار سوى رقم معاملات الأنشطة المعنية، وهي في هذه الحالة الغازوال والبنزين، لهذا كان من الضروري أن يتم خصم الأنشطة التي لا علاقة لها بالموضوع المعني من رقم المعاملات الإجمالي لشركات المحروقات. وبعد حساب الحد الأقصى للغرامة على أساس كل هذه المعايير يبدأ التفاوض. وقد تم التفاوض بشكل منفصل مع كل فاعل على حدة».
وهنا نجد أنفسنا أمام تساؤل عريض، حول كلفة وآثار هذه التسوية؟. فمن خلال استقراء منطوق بلاغ مجلس المنافسة يبدو أن صياغة مقتضياته ومخرجاته قد تمت بهدوء وطبخت على نار رماد. فصياغته لم تتأثر بالصعوبات والمشاكل الجمة التي رافقت هذا الملف طوال سنوات، ولم تأخذ بعين الاعتبار النقاش السياسي والبرلماني والشعبي الصاخب الذي أثير حوله، ويشار هنا، على سبيل الذكر، إلى الخلاصات الصادمة لتقرير اللجنة البرلمانية المكلفة بالمهمة الاستطلاعية حول أسعار بيع المحروقات السائلة (2018)، والتي خلصت إلى وجود تواطؤات بين الشركات وتحقيقها لأرباح غير مشروعة بعد تحرير القطاع سنة2015 ، تجاوزت 17 مليار درهم، وهناك تقديرات لتقارير دراسية أخرى تشير إلى تحقيق هذه الشركات لأرباح فاحشة/ خيالية بقيمة 45 مليار درهم ما بين سنة 2016 و 2023. وربما أكثر.
ما من شك أن مجلس المنافسة، خلال سعيه تصفية ملف المحروقات، قد استحضر مخرجات الحدث البارز المتمثل في تعيين لجنة خاصة مكلفة من قبل جلالة الملك بإجراء التحريات اللازمة لتوضيح وضعية الارتباك الناتج عن القرارات المتضاربة لمجلس المنافسة حول ملف المحروقات والتي كان من نتائجها إقالة رئيسه ادريس الكراوي (مارس 2021).
الصيغة البسيطة التي جاء بها نص بلاغ مجلس المنافسة جاءت لتؤكد رغبة هذه المؤسسة الدستورية، وعن سبق إصرار، في الإغلاق النهائي والتام لملف المحروقات وإعلانه لتحمل كافة مسؤولياته بالانتقال إلى مباشرة صلاحياته الكاملة في التحقيق وردع الاحتكار والممارسات المنافية للمنافسة والأعمال التجارية غير المشروعة.
وترجمة لهذا الاختيار ولتجاوز أي نقاش أو جدل، نجد أن المجلس تفادى توضيح الكيفية التي تأتى له بها تحديد المبلغ الأساسي للعقوبة المالية (الغرامة التصالحية)، علما أنه في بلاغه لم يشر إلى حجم الأرباح المالية الطائلة غير المشروعة التي حققتها هذه الشركات وتحديد السنوات المعنية بهذه المخالفات، بما يمكن المتتبع من الوقوف على مدى أحقية مبلغ الغرامة التصالحية مقارنة بحجم الأرباح غير المشروعة المكتسبة، وذلك تجنبا لكل تأويل أو مزايدات، وبما يضفي على عمل وأداء مجلس المنافسة الشفافية والمصداقية في معالجة هذا النوع من القضايا.
وعلى نفس المنوال، نجد أن نص البلاغ تجنب الإشارة إلى أسماء الشركات المعنية بقرار المصالحة ودرجة تورط كل واحدة منها في تنظيم ارتكاب المخالفة. وهي إحدى انتظارات الرأي العام الوطني.
يجب التذكير بهذه المناسبة أن مجلس المنافسة، من خلال رأيه الاستشاري المشار إليه أعلاه، قد أقر باستفادة شركات التوزيع من تهاوي الأسعار في السوق الدولية لمضاعفة هوامش أرباحها الصافية. فخلال سنتي 2020 و 2021 ، شهدت هوامش ربح جميع الفاعلين زيادات حادة متجاوزة سنة 2020، سقف درهم واحد للتر، فيما انفردت شركات أخرى بتسجيل 1،25 درهم للتر وأخرى 1،40 درهم للتر.
وقد كان لهذه الممارسات أثرها المباشر على الحركة التجارية والخدمات وكذا أسعار مجموعة من المواد والمنتوجات الغذائية ذات الاستهلاك الواسع، هذا إضافة إلى الزيادة في التحملات المالية للدولة، والتي نلمسها من خلال الإجراءات المتخذة من طرف الحكومة للتخفيف من آثار ارتفاع أسعار المحروقات بالسوق الداخلي والحفاظ على مستوى مقبول للأسعار حرصا على القدرة الشرائية للمواطنين. ولعل من بين هذه التدابير، إطلاق الحكومة، منذ مارس 2022، لعملية تقديم الدعم المباشر الاستثنائي لمهنيي قطاع النقل الطرقي. ففي تصريح لمصطفى بايتاس الناطق الرسمي باسم الحكومة (20 أبريل 2023) أشار إلى أن قيمة دعم مهنيي قطاع النقل بلغت 5,2مليار درهم. فأين نحن من مبلغ التسوية التصالحية؟
وهنا وجب لفت الانتباه لمسألة في غاية الأهمية تتعلق بكيفية تحديد وتدقيق قواعد العقوبات المالية، التي تنص عليها المادة 39 من قانون حرية الأسعار والمنافسة (25 نونبر2022 ) نذكر منها:
رقم المعاملات ذو الصلة بالمخالفة ومبيعات السلع أو الخدمات التي أنجزها مرتكب المخالفة خلال السنة المالية المختتمة في السوق الجغرافي المعني؛
خطورة الأفعال المؤاخذ عليها وأهمية الضرر الذي ألحقه بالاقتصاد؛
مدة ارتكاب المخالفة محسوبة بعدد السنين؛
الإثراء والمبالغ المحصل عليها دون وجه حق من خلال المخالفة؛
الأخذ بعين الاعتبار وجود ظروف مخففة أو مشددة.
وهنا يبرز أمامنا تساؤل جديد، حول مدى مراعاة هذه القواعد عند تحديد العقوبة المالية وتوثيقها في محضر الصلح، وفيما إذا كان من المنطقي اعتماد ظروف التخفيف في نازلة بهذا الحجم والاهتمام الوطني. وهذا ما يثير المخاوف من أن يكون المجلس قد خلف بحكمه هذا وباعتماده آلية الصلح سابقة ينتقل بها كعرف في التعامل مع مثل هذه النوازل مستقبلا.
تساؤلات واستفهامات يطرحها العديد من المراقبين والمتتبعين والمواطنين، والتي لا جدال في أن الغاية منها الحرص على تحقيق العدل وجبر الضرر وضمان قيم وأحكام ممارسة مشروعة والوقاية من المساس بقواعد المنافسة وبعث الاطمئنان لدى المواطن بأن مجلس المنافسة يقوم بدوره المنصف بين المستهلك والتاجر، ويؤدي مهامه الدستورية وفق غايات تأسيسه.
أسئلة أخرى تحاصرنا أمام عزم وإصرار السلطة العليا في البلاد على تحسين وتطوير أداء هذه المؤسسة وغيرها من المؤسسات الدستورية لاكتساب ثقة المستثمر الوطني والأجنبي على حد سواء، والارتقاء بالاستثمار بالمغرب إلى مستويات متقدمة، مشجعة، محفزة، جاذبة ومستقطبة لرؤوس الأموال ورجال المال والأعمال والمشاريع الضخمة. وهذه الحظوة لن تتأتى إلا بضمان مقومات العدالة والإنصاف والمنافسة الشريفة والنزاهة والشفافية، لاسيما من قبل مجلس المنافسة، مبادئ دون شك سيكون لها الأثر الايجابي والفعال على الرفع من وتيرة نمو الاقتصاد الوطني.
*باحث مختص في شؤون ضبط ومراقبة السوق
الكاتب : عبد الحليم بنمبارك - بتاريخ : 15/12/2023