نداء السلام ضد الألغام
فاطمة أكلاز فنانة وفدت إلى الحياة السينمائية من المسرح. أخرجت أفلاما سينمائية قصيرة مثل «لعبة الحبل» و«العصا» و«الراعية» و«الوشم»، ومثلت في أفلام طويلة مثل (بولنوار- وغيره) وهي كلها أفلام تكشف عن تناقضات إقطاعية وطبقية تفرز بنيات سلطوية استبدادية في المجتمع المغربي: السلطة الذكورية في الأسرة والكتاب ومؤسسات الدولة المخزنية خاصة في البادية المغربية
هذا التعدد في مقاربة الأعمال الفنية تمثيلا وإخراجا، جعلها تكتسب خبرة في ترشيد اشتغالها التقني وتجويد رؤيتها الفنية والفكرية لعالم سياسي وثقافي واجتماعي يعج بالتناقضات والأسئلة، وهو ما أهلها لارتياد مجال فني مختلف: الفيلم التسجيلي – الوثائقي (اللغم الأخير) الذي حاز على جائزة النقد في المهرجان الوطني للفيلم بطنجة، وحاز على تنويه لجنة الجامعة الوطنية للأندية السينمائية في نفس المهرجان
(اللغم الأخير) رصد لظاهرة ضحايا الألغام في الصحراء المغربية عبر توثيق وقائع عينية جرت في الواقع المعيش أو إعادة تسجيلها بالصوت والصورة لإحيائها وحفظها في الذاكرة المشتركة لتصير مادة تاريخية وسوسيونفسية وسياسية وثقافية.
يتقاطع الفيلم مع سجل حافل بالأفلام الوثائقية والتخييلية تسعى إلى مواجهة الحروب وتجار زراعة الألغام من ذلك على سبيل المثال لا الحصر أفلام:
demineurs – Une terre malade des mines- وافلام عديدة لمنظمات دولية و مؤسسات أممية لحفظ السلام والبيئة
يضيء الفيلم المبادرات المقاومة لآليات القتل، من خلال التوعية والتحسيس عبر تأسيس جمعيات مناهضة للألغام خاصة ضد -بشرية mines anti-personnelles
وتعتبر منطقة شمال افريقيا من أشد المناطق زرعا للألغام حيث النزاعات الحدودية تساهم في هلاك الكثير من الناس خاصة المدنيين من رعاة وفلاحين وعابري سبيل.
فيلم (اللغم الأخير) يوثق سير أشخاص في الصحراء المغربية مدنيين من الفئات الشعبية الدنيا يجدون أجسادهم خارج الحياة، وذلك بالتركيز على شخصيتين هما الشيخ أحمد وبوسيتا: صديقين جمعتهما صدف الحياة، أحدهما مقيم في السمارة بالصحراء المغربية والثاني هاجر اليها منذ ازيد من أربعين عاما، فهما يجسدان الاندماج الاجتماعي بروح صداقة إنسانية طبيعة تيسرت اوصارها لتوافر جسور عديدة منها مرجعية المسيرة الخضراء 1975
أحمد وبوسيتا وجدا نفسيهما يكابدان وضع إعاقة دائمة بسب انفجار ألغام من مخلفات الاستعمار الاسباني للمنطقة وانتهاكات البوليزاريو لحقوق الانسان، وقد بذل الجيش المغربي جهودا وقائية لإبطال مفعول الآلاف منها لكن تلك المنطقة ما تزال تعج بآلاف الألغام. يسجل الفيلم إذن، خروقات تمس الشرعية الدولية ومواثيق حقوق الانسان والسيادة المغربية على صحرائه وينبه الى ما يترصد الأجيال المستقبلية من مخاطر.
تمكن الإخراج من اقتراح صورة موازية لقتل البشر او حشرهم في وضعيات إعاقة حيث موت إنسان ليس لعبة تمثيل، ولا بتر رجل مجرد خداع ماكياج، فعلى امتداد الصحراء الساكنة الشاسعة: (يجب الحذر من ظلال الأشجار -الإنسان يموت فالخلا يبقى-الألغام مزروعة أكثر من الأشجار)، لتفتك بأواصر أسرية وقيم إنسانية: تلك الأم التي جفت عينها بكاء على ابنها المغدور، او البكاء على فقدان اخ عاشق لكرة القدم صرعه لغم قبيل الدخول المدرسي. ناهيك عن جروح فقدان أب أو خال أو قريب وصديق، شظايا لا تكف عن إلهاب الذكرى بآيات العرفان والحنين والشوق والحب والوفاء
الفلم توثيق حي لإرادة الرجلين في التحسيس بالقضية، من خلال تجميع السكان والسفر إلى قراهم ومدنهم، وتوعيتهم بل والنضال لتأسيس جمعيات تدافع عن ضحايا الألغام وعن الحق في الحياة وحرية التنقل والأمن، مطالبة مؤسسات الدولة بجبر الأضرار، لكن لا حياة لمن تنادي لأن جمعيتهم طرقت أبواب مؤسسة الانصاف والمصالحة والمجلس الوطني لحقوق الإنسان والترافع في المحاكم ولو من أجل دعم للعلاج لكن لا شيء تحقق :
يحكي ولد بوعبيد ( الشرقي جئت ولد17 عام سرقت لخوي بهيمة باش عربت تعرضت علي الوظيفة ماكنت عوال على الدولة خدام على راسي ..اسرح الغنم والماعز حتى وقعت ضحية مينة لغم في وادي عنقة مع التاسعة صباحا ولم يحضروا الا مع التاسعة ليلا حزمت رجلي دوزت فالعيون سبعة اشهر ونصف بلا خبزة مشيت لاكادير بلا جدوى ومراكش مادارو معي والو ومريزكو مادارو والو وللسويسي هبطوني للكاب المش غليظ ، مشيت لخريبكة مادارو والو دزت للعيادة الخاصة صرفت 82000 د.. بعت الدويرة لي كنكساب )
هكذا يعيدنا الفيلم الى عوالم حكائية مأساوية منتزعة من نسغ الحياة ومرارة الفقدان وتواطؤ مؤسسات في أجهزة الدولة
الفيلم يقترح مادة معرفية خصبة تتعلق بالإنسان عبر امتداده الطبيعي والثقافي لكنه لا يخلو من لمسات جماليات فنية من خلال الخيال الذي يتخلل الخطاب الفيلمي، باعتباره «إعادة انتاج الوقائع» وفق سردية فيلمية تخفي تدخل السارد الواصف (والفاعلين الفنيين) في منطق الاحداث بحذف لقطات أو تلخيص مشاهد أو توظيف الاسترجاع والتذكر أو الاستباق بدءا من العنوان (اللغم الأخير) الذي يؤشر على حلم وامنية استشرافية لوضع حد للألغام وانتهاء بانتقاء مشهد الضحية ولد بجعد في لحظة وجد غنائية قبيل الجنريك النهائي
وقد ساهمت الموسيقى بفاعليتها الإبداعية في استجلاء كثير من مباهج الحياة وألامها، في تناغم مع المونطاج عبر تقنيات القطع/ الوصل من لقطة إلى أخرى أو مشهد إلى آخر بدءا من اليافع اللاهي المشاء في الصحراء وانتهاء به قادما بعكازتيه مجبرا على وضعيات إعاقة متعددة
الفيلم الوثائقي مبني على أسلوب جمالي ورية فنية تسعى الى توثيق الفراغات التي يسكنها الصمت من خلال الإيحاء الرمزي إلى لحظات الخلوة الروحية بالصلاة أو في اختيار زوايا التقاط الصحراء في امتداداتها بكرة وأصيلا، والسكون المخيم على صور «سيارة-لاندروفير مدمرة ومتهالكة «فقدت عجلاتها/ أرجلها» أو جمل نافق أو بقايا عظام لا تختلط فيها أرجل البشر بالحيوان، أو تكبير صور نعال مفردة وتكثير «العكاكيز» الخ.
في «اللغم الاخير» لم نكن أمام سيناريو جاهز بل مشروع-سيناريو ظل يتغير ويتطور مع تعاقب محطات التصوير وما تفترضه من احتمالات القاعدة والإستثناء تيسيرا لمونطاج وميكساج أكثر إتقانا وإجادة مع انتقاء شهادات مكتوبة تتعلق بإحصاءات وطنية مغربية وأخرى دولية عن ظاهرة الألغام او عتبات إبداعية مكتوبة لابراهيم الكوني ودوستويفسكي تمزج بين التوثيقي والفني التخييلي لتشرع الفيلم على العمق البشري بثقافاته وفنونه وزخمه الانساني
تاريخ مرير عانته البشرية خاصة خلال القرن العشرين المطبوع بحربين عالميتين وما تلاهما من حرب باردة ضاعفت من مساحات زرع الألغام سواء ضد الأفراد أو المركبات، ورغم ذلك فإن الأمم المتحدة لم توقع على حظر زراعة الألغام إلا سنة 1997، لذلك يأتي الفيلم ليدق ناقوس الخطر ويبث نداء إنسانيا لبذل مزيد من الجهود محليا وجهويا ودوليا لمواجهة تجار الحروب وإقرار القوانين المانعة لزراعة الألغام من أجل فتح الجسور الاجتماعية والثقافية وزرع حقول بديلة مفعمة بالقيم الإنسانية للعيش بأمن ومحبة وسلام.