يمكن اعتبار الفترة الفاصلة بين الثورة الفرنسية إلى غاية الاحتلال الجزائري، الفترة التي كانت فيها أفكار لويس دوشينيي الإطار الفكري الوحيد للتفكير في المغرب
لا يخرج
دوشينيي عن أفكار مجايليه من فلاسفة القرن الثامن عشر.
تظهر أفكاره كما لو أنها جزء من نظرية العصر الذهبي ونظرتها إلى «المتوحش الطيب».
يكاد القرن الثامن عشر يكون قرن القرصنة البحرية في مُجمله. ومعلوم أن هذا الملف أضفى نوعا من التقلب الديبلوماسي على أجواء العلاقات الثنائية بين المغرب وفرنسا في مناخ جيو إقليمي اخترقته العديد من المنعرجات الصعبة. في سياق ذلك، أوفدت فرنسا عام 1765، زمن حكم الملك لويس الخامس عشر، قطعا حربية إلى ساحلي العرائش وسلا لقصفهما جراء تداعيات القرصنة، تلتها بعد ذلك سفارة فرنسية إلى مراكش سنة 1767 لتوقيع معاهدة السلام. تهمنا السفارة الثانية بحكم أنها ضمَّت ضمن مبعوثيها لويس دوشينيي الذي سيعين في ما بعد قنصلا عاما في المغرب نهاية القرن الثامن عشر.
على مدار الخمس عشرة سنة التي قضاها دوشينيي ما بين 1767-1782، والتي تخللتها عدة محطات من التنقل في كل من آسفي، سلا، مكناس، مراكش…خلَّف مؤلفا ثريا يمكن أن يُدرج ضمن تصنيف الأدب الغرائبي. يلقي فيه دوشينيي أضواء تاريخية عن فترة السلطان سيدي محمد بن عبد الله.
والواقع أنه، من حيث الامتداد الزمني، لا يزال هذا المؤلف يجذب إليه عديد الباحثين والمهتمين بالتفاصيل الأخيرة للقرن الثامن عشر إلى غاية احتلال الجزائر 1830م. بله يحظى بامتياز خاص في التأليف الفرنسي، ويكاد يكون آخر عمل أنجز عن مغرب نهاية القرن الثامن عشر بعد لم تُفض محاولات البحث عن عملي النائب بروصوني وعالم النبات القس دورانـ عن جديد يذكر.
عودة إلى مضامين الرحلة، يبدي التأليف انشغاله بالمسائل الاقتصادية لمغرب القرن الثامن عشر، ويحيط ببعض من أقاليمه ومدنه، ويُمعن النظر في ملاحته ومراسيه مثلما يعاين بدقة واقع إنتاجه الزراعي والرعوي، كما يتنبأ بمستقبل المغرب انطلاقا من مواقعه الاستراتيجية…تتم هذه الانشغالات في إطار قالب كلاسيكي جعله يهتدي إلى تدوين ملاحظاته في أسلوب بسيط، لكنه في المقابل مثخن بالأحكام والتصنيفات والكليشيهات.
منذ أول لقاء بمجال المغرب، لا يبدي لويس دوشينيي انطباعا طيبا بخصوص جغرافيته. يعمد إلى إشراك القارئ في تخيل مشاهد رتيبة من الأراضي الجرداء، وأخرى من الفروسية الفوضوية التي تجري على شاطئ آسفي ترحيبا بقدوم البعثة الرسمية، وثالثة من الأراضي القاحلة الممتدة من مكناس إلى مراكش وكأن حرائق قد أتت عليها، مُبديا أسفه من تركها عارية من أي مزروعات. ففي ضواحي آسفي، تبدو الأراضي الشاسعة كئيبة وقاحلة، تفتقر إلى الماء والزراعة، وسكانها يتميزون بالفظاظة والتمسك بالخرافات والتقاليد، وأحيانا قد يغير دوشيني من لعبة الوصف حينما ينتقل إلى الحديث عن سهل الشاوية المسمى بتامسنا، حيث «حقول القمح الشاسعة، تجعل السنبلة الواحدة في المعتاد تحتوي على سبعين حبة».
بحكم خلفيته الكلاسيكية، وجفاء أسلوبه في الوصف، يمكن أن نفهم إدراج ملاحظات خالية من أي حس أدبي، وفاترة من أي إحساس جمالي. هناك فقط تعبيرات تتألف من جمل بسيطة وُظفت من أجل تصوير مشاهد من الطبيعة والعمران المغربي. في شأن ذلك، نقتبس منه وصفا عن عاصمة الجنوب مراكش بالقول: «تقع المدينة في سهل منبسط مزروع بأشجار النخيل، وتحيط بها جبال الأطلس التي تعطيها مظهرا جذابا «. ومع ذلك، يمكن أن نُقر له بميزة خاصة من حيث تدقيق الوصف في نقل الجزئيات التي تميز المشاهد بمنهج مقارن لا يخلو من إفادة. يقول في شأن ذلك عن مكناس: «في مكناس، بساتين مغروسة بأشجار الزيتون التي تسقيها جداول الماء الوفير، وهضاب مزروعة تملأ الضواحي، وتقدم خضرا وفواكه ذات مذاق سائغ»، بينما مراكش «مدينة مهملة ذات أحياء متباعدة عن بعضها البعض، وبيوتها مقفرة ومتسخة حتى صارت ملجأ للعقارب والثعابين والذباب «.
وفي وصفه لمظاهر الحياة القروية في المغرب، لا يخرج دوشينيي عن أفكار مجايليه من فلاسفة القرن الثامن عشر. تظهر أفكاره كما لو أنها جزء من نظرية العصر الذهبي ونظرتها إلى «المتوحش الطيب». لننصت بتمعن إلى هذا المقطع: «يعيش المغاربة الذين يقيمون في البادية حياة غاية في البساطة أشبه ما تكون بحياة الإنسان في عهوده الأولى، وتعمل التربية والمناخ وصرامة الدولة على التقليص من حاجات السكان الذين تمدهم أراضيهم بحليب وصوف قطعانهم، وكل ما يحتاجونه من مأكل وملبس». وفي مقطع آخر: «يتميز المغاربة بحرارة استقبال ضيوفهم من الأجانب، يهيئون قضبان الخراف المشوية، ثم يقدمونها في صحون من خشب، وقد أتيح لي أكثر من مرة أن أدعى لمثل هذه الولائم التي تحظى عندي بساطتها بكل الاحترام، وتجعلني أحلم بأني في خيمة أحد شيوخ القبائل البدائية».
وحتى إذا ما أردنا أن نُحاكم أفكار لويس دوشينيي، علينا أن نضع أنفسنا زمنيا في أفكار عصره. إذ لا معنى لأوصاف من قبيل: «حكومة المغرب مستبدة لا تعمل سوى وفق ما يمليه عليها مزاجها، فهي تأمر وتقرر وتجزم من دون أن تستشير في ذلك أحدا»، من دون أن توضع في سياق مناخها الفكري وعصرها الكلاسيكي وفق التحقيب الفلسفي المعروف.
وعلى العموم، يمكن اعتبار الفترة الفاصلة بين الثورة الفرنسية إلى غاية الاحتلال الجزائري، الفترة التي كانت فيها أفكار لويس دوشينيي الإطار الفكري الوحيد للتفكير في المغرب، إذا استحضرنا أن الاتجاه الغرائبي في الأدب الفرنسي سيعرف انزياحا في التحول صوب المجتمعات الشرقية مثل تركيا، فارس والهند…من هنا تتأتى قيمة دوشيني، لأن توصيفاته غطَّت مساحة الفراغ هاته. وقد كان لزاما انتظار الثلث الثاني من القرن التاسع عشر لاستئناف مسيرة الرحلات الفرنسية إلى المغرب، لكن في قالب مغاير.