شاعرية الألوان في لوحة الفنان التشكيلي نورالدين برحمة

 

جاءت هذه اللوحة بضربات فرشاة متأنية، على إيقاع نبضات قلب عليل، وقد تم تقديمها للعلن بدون اسم كأخواتها، لتكون مفتوحة على عدة تأويلات، وتأتي كذلك لتنضاف إلى سلسلة من الأعمال الفنية المستلهمة من أشعار غالبا ماتجود بها قريحة مبدعها الشاعر والفنان برحمة نور الدين حين يكون في عزلة، ولذلك تجدها مفعمة بالمشاعر، وأحاسيس  تختزلها مفردات تتجرد من الواقعية، ترتكز أساسا على خطوط لونية ، يطغى عليها  تضارب بين السواد و البياض، وهما لونان لا يلتقيان، ولا يبغيان ، بينهما برزخ يصنع تباينا قائما بذاته، يقلص من قوة  تأثيره أصفر ببعديه الجمالي والزمني ، تنبثق منه بقع كستنائية وحمراء. بقع لا تأخذ مسافات محددة ، ولكنها تبدو وكأنها تتمدد تلقائيا للتعبير عن الإرادة والتشبث بالحياة ، وتضيف الأفق لفضاء بلا خلفية ، تعمد مبدعنا تقديمها بهذه الصورة حتى لا تبدو بفضاءين، سيما وأن هذا العمل يمثل  فضاءه الخاص الذي يشبه قصيدته التي يلقي فيها تفاعله وانفعالاته . فالبعض من أفكاره ونظرته للحياة يتجسد أمامنا، بعد أن تم بناؤهعلى  تدرجات لونية ورسومات تتقمص صورا جسدية تخلت عن أشكالها، مختلفة المنظر والحجم، ولكنها متشابكة يربطها ذلك الخيط الرفيع المتعلق بالوجود، مما يجعل المتلقي ينظر إليها ككتلة واحدة ، تقف على ثلاثة أضلع متعلقة بالشكل واللون والبعد. فطعم الحياة لا يتأتى عنده فقط  إلا بالفرح ، وإنما بالحزن والأسى أيضا، واستمراريتها لا تتوقف عند المصائب . ولقد أشار إلى ذلك بدمج ألوان فاتحة وألوان غامقة لتأخذ حيزا معتبرا إلى جانب أسود بعتمته ، أراده الفنان أن يكون محدودا حتى لا يرخي سدوله على فضاء لا يمثل مكانا معينا، يحتضن ما يشبه شخوصا، تظهر للعيان جوفاء بدون أطراف.فالأطراف كما هو معروف تلعب دورا كبيرا في تجسيد الحركة والمشاعر ، فهي تبدو كالتماثيل مادامت بدون أرجل  وينقصها الإحساس، طالما تنقصها الأيدي التي تصافح وتقدم الورود للأحبة، ولكنها تبقى ، على الرغم من ذلك تتأرجح على إيقاع ألوان  الموت والحياة ، كما هو الحال في هذا العالم، حيث طالما هناك موت ، هناك ولادة . وكل هذه  التناقضات والتقاطعات غير الخاضعة للمقاييس، لكنها جاءت بمعايير فنية، هي التي تجلب النظر إلى جانب ضوء قار يملأ أرجاء القماشة كلها ، يبعث على الأمل ويحيل إلى زمن لا يتغير طالما بقينا أمام هذه اللوحة، وكأننا بالفنان  يعيدنا إلى تلك الليلة التي ألهمته عملا فنيا عبارة عن نافذة مفتوحة على الحياة، خاصة وأنه يعشق السهر الذي تعايش معه منذ شبابه حين بدأ مساره المهني كمدرس للتربية الإسلامية بمنطقة نائية، كانت تغيب فيها أنذاك أبسط الأشياء اليومية للحياة، فكانت الكتابة والرسم متنفسه، حيث كان يجد فيهما ضالته للتعبير عما كان يجول في خاطره وهو بعيد عن وجدة ، مدينته الأصلية.
إن  الحنين لبلدته والشعور بالاغتراب بقيا يلازمانه إلى الآن، حتى وهو مستقر مع أسرته الصغيرة بالقنيطرة ، مما ينعكس على أشعاره وكتاباته النثرية ، وكذلك على أعمال فنية عميقة  ترسخ  غموض شخصيته بما تختزله من إيحاءات وإشارات  تجعله يحرص من خلالها على ألا يطلق العنان لعاطفته المطلقة، فهو لا يقوم بكبت جماحها، ولكنه يتجنب فتح  باب عالمه الخاص على مصراعيه، فهو رجل كتوم بطبعه ، فنادرا ما يعرض أعماله، سيما السطحية منها والواقعية ، لكن تجده في بعض الأحيان لا يبخل بجواب عن سؤال، كما يحصل الآن من خلال قماشة تستمد شاعريتها من إحدى قصائده التي تتجسد أمامنا فضائيا ومكانيا، فأضحت  عملا إبداعيا شاملا منفتحا على إيقاعات بصرية جديدة وغير سماعية، تنقل المتلقي من وضع السماع إلى وضع المشاهدة والتأمل والإدراك البصري، مما يحتم التمعن في البنيات والأشكال البصرية للوصول إلى مخرج تلك المتاهة التي تحيل إليها تلك المنعرجات المشكلة بواسطة خطوط متوازية ومتشابكة ، تحيط بما يشبه مخلوقات، يتم تصورها بفعل ذلك أيضا وكأنها في قبضة أخطبوط.يحضر هذا الكائن البحري  في صورة وشم  ليخلق الإثارة بأطرافه المتعددة التي ترمز للأخذ والعطاء والتشبث بالمكان، ويذكر كذلك ببعده العاطفي .فالأشخاص الذين ولدوا تحت هذا الطوطم هم أناس أذكياء ومرهفو الإحساس، وهذا الأمر المرتبط منذ القدم  عند الهنود الحمر،   يطبع شخصية  فنان عصامي مثقف ومتزن، يستلهم الرجوع إلى الذات من عزلة المتصوفين والنساك.
يبدو جليا أن الأستاذ نور الدين برحمة  يسعى  إلى تحقيق أسس فنية غير عشوائية، تتسم بالعمق والجمالية، من شأنها أن تخلق صلة وصل بينه وبين المتلقي، عمادها توازن بصري بين الألوان والأشكال في خدمة الموضوع ، ولذلك يلاحظ أن هناك تركيزا كبيرا على اللون بالدرجة الأولى قبل الشكل لما يحمله من أبعاد في حد ذاته ، ومن ثمة تحميله تلك التعبيرات القيمة والأصيلة عن طريق عملية التكثيف والتخفيف التي تصنع التنوع اللوني.
وما يلفت الانتباه أيضا  أن لهذا العمل شخصية تامة بدون نقص. فيه بحث و إبداع  يستمد متانته وقوته التعبيرية من التضاد والاختلافات ، أساسها ألوان بدرجاتها ، وبواسطتها  تم اكتساح  الأرجاء ، وحتى الحواشي، يلاحظ ذلك على الخصوص ، من خلال أصفر باهت، غير مشع ، يستمد ضوءه من نور شمعة في مرحلتها الأخيرة . يحضر هذا اللون بقوة لما له من بعد تعييني وآخر تضميني، ويمنح اللوحة أيضا  بعدا جماليا، سيما و أن مبدعنا هذه المرة آثر التواصل بلغة بصرية عوض لغة سمعية شعرية، لم تأته جزافا، بفعل تمكنه من الرموز التي تقابله في حياته وتفسيرها، تم استخدامها إبداعيا في تواصله مع الآخرين، فطول الإمعان هو الذي يسهل ذلك التواصل، وإيجاد مخرج للمتاهة تلك. وإذا تم أخذه بمنظور واقعي تلك الخطوط المنحنية تارة ، والمستقيمة تارة أخرى، يتضح بأنها تحاكي كشوفات طبية قد خضع إليها حتما هذا الرسام العصامي قبل وبعد عمليتين جراحيتين على القلب، ومعارفه على علم  بذلك طبعا ، فقد قام إذن بلفظ معاناته  مع المرض، وقذفها على قماش جاء لينا وأملس، بفعل مادة الصباغة الزيتية ليمتص الألم ،  ويقلل من أثره وتأثيره.هذا الألم الذي تحول إلى رسومات معبّرة ، تخفي وراءها أشياء مركبة، يصعب انتهاك خصوصيتها بسهولة ، وتتقمص ألوانا اصطلاحية وأخرى صريحة، دوام تأثيرها يأتي من تجربته مع جرح  يحمله معه إلى الآن ، يلهمه  أشعارا وصورا موجعة، تبوح بمحنته الجسدية  من خلال تلك الندوب التي تظهر على القماش.


الكاتب : عبد السلام صديقي

  

بتاريخ : 11/01/2024