تعب اللغة .. الأسماء والأشياء

إذا لم تتقدم اللغة أو تنتمي إلى أحد ما، أو تتوقف عن الانتماء إلى حَدٍّ ما، فلن تعرف طريقها إلى المعنى بوصفه دليلا حاسما على الأكوان المتعددة، واتجاها آخر يقع خارج الأبعاد الفيزيائية الشائعة. المكان الوحيد الذي تتحرر فيه اللغة هو حين يتحول هذا المكان إلى «فخ» يحتاج إلى تكسير كي لا يتراجع المعنى، ويكون قادرا على الوجود. وتبعا لذلك، فإن اللغة تحتاج إلى أبواب كثيرة، إن لم أقل إلى أبواب لانهائية، تُفضي كلها إلى إتمام الأسماء، وابتكار اسماء أخرى على وجوه الحقيقة والمجاز.
تكف اللغة عن البحث عن التقدير الذي يجدر بها أن تتغلف به حين يدرك الآخرون أن الكلمات تخفي موجودات وأسرارا لا حصر لها، وأن القاموس يفتح بكل انتباه ذراعيه كل يوم لاستقبال كلمات أخرى تومئ وتفسر. لن تبحث عن هذا التقدير، لأنها تدرك أن الأسماء، وليس العكس كما يبدو في الواقع، هي التي تحدد مسارات الوجود الجديدة دون تعجل أو ارتباك. ذلك أن الأشياء تندفع خارجة من الأسماء التي تراها تقترب منها بوصفها احتمالا موجودا على نحو مسبق، كل شيء مربوط إلى اسمه أو أسمائه. وحين يُسَمَّى ترتعش الإضاءة، فيعلو ويكتظ بالصور، بل يصير جسدا.
غير أن محنة اللغة تبدأ حين تواجه عدم الكفاءة، أي عدم القدرة على ابتكار الأشياء. وهنا يمكن الحديث عن جمود الاسم، ما دام الشيء لا يوجد، ولا يمكنه أن يوجد، دون اسمه. وبتعبير آخر، تميل اللغة نحو الانقراض حين تتنازل عن كبريائها تجاه ما يوجد، أي حين تصاب بالعمى عن «التسمية» ويصيبها العيُّ، ويكون مقام الوجود أكبر منها.
لم توجد اللغة لتصحيح خطأ قديم ارتكبه صانع ما، كما لا تسعى للسير وفق إيقاع ثابت يفضي إلى تطابق الأسماء والأشياء، بل على العكس من ذلك تعلمنا أن نملأ بها ثغرة الموجودات وهي تتزاحم في أرحام العالم لِتَكُونَ وتتدفق. لا يمكن السيطرة على العالم سيطرة تامة دون لغة، فهي المكون الجوهري للوجود، وهي التي تتحكم في مقاساته وأبعاده، وأيضا في نظام الكون المتعدد الذي تأتينا منه أشياء يستعيدها وجودنا من الماضي أو المستقبل، وأيضا ربما من العوالم الموازية المنفصلة عن وجودنا الذي نعرفه ونؤثر فيه، كما يؤثر فينا. الأمر شبيه بيد تمتد بمهارة في الظلام لتمسك بشيء ثم تخرجه وقد أصبح له اسم. الاسم موجود لكنه يحتاج إلى صوت يجعله يتحرك بسعادة أيا كان هذا الاسم، وأيا كان هذا الشيء. يحتاج الموجود إلى اتصال، أي إلى لغة تربطه باسمه وتأخذه إليه.
كل الأسماء محمية في مكان ما، وكل لغة تنافس اللغات الأخرى من أجل إضاءة الموجودات وجرها نحو أسمائها. وعليه، يمكننا القول إن توقف اللغة عن التنافس يشير إلى تعب اللغة، أو ربما دخولها إلى النفق الذي يجعل منها «لغة مغلوبة»، أي عاجزة عن استدعاء أسماء لأشياء تلح على الظهور، أو على الأقل محتملة الوجود على وجه من الوجوه، في زمان أو مكان آخر.
قد يدفعنا هذا التفسير إلى التفكير في معضلة أفلاطونية قديمة تتصل بجدلية الفكر والوجود، أو ثنائيات العلة والمعلول، الفعل والاسم، الشيء والحركة، عالم الظلال وعالم المثل. بل قد يفضي بنا الأمر إلى الاصطدام بسؤال قديم: هل الوجود يسبق اللغة أم العكس؟
وإذا كانت اللغة هي الوجود في لحظة تكلم، فإن الأشياء، بما فيها المبتكرة، تعيش حالة غمغمة صامتة وخفية ما لم يخترقها لسان ما. يقول هايدغر: «ليس المسكوت عنه هو الذي حُرِمَ التلفظ بالصوت البشري فقط، ولكنه الذي لم يُنْطَقْ به بعد، أي الذي حُرِمَ خصيصة البيان، أي الذي لم يظهر على المسرح بعد أيضًا، وكلُّ ما تدعو الحاجةُ إلى عدم النطق به يظل كامنًا في المسكوت عنه، أي إنه سوف يظل قائمًا خِفْيَةً أو مختبئًا باعتباره شيئًا لا يمكن بيانه. إنه لغز». ولعل هذا ما يسميه ميلان كونديرا «صدفة ناطقة»، إذ يعتبرها (الصدفة) ذات مغزى، خاصة أن «ما هو متوقع ويتكرر يوميا يبقى أبكم» ما لم تأت صدفة ما لتجعله «ناطقا» و»ظاهرا». والصدفة هنا باختصار ترجمة واضحة للابتكار اللغوي، وإخراج للاسم من مكمنه ليكون الشيء جديرا بحياته. وما يثير الانتباه هنا هو تبعية الشيء للاسم الذي كان متسلحا بالترك والإهمال والنسيان.
لا أدري حقا إن كانت الأسماء هي التي تصنع الوجود، لكن ذلك سيكون وهمًا جميلًا غير قابل للانتهاء. وهم الأسماء العائمة في غربتها المريحة، مع تلك الإمكانية الهائلة لعودتها إلى الضوء، إلى الشيء النابع من الماضي الذي يتكرر باستمرار بالصيغة نفسها. أليس هذا ما يسميه كونديرا «حقل الإمكانات»، أي كل مع يعمل ضد المتتاليات السببية وقوانينها.
قد يبدو هذا الطرح ساذجا، ومرتفعا عن الواقع كثيرا، وعن تقلبات اللغة وتضاعف اتساقها، أنثروبولجيا وفلسفيا وفيلولوجيا وصواتيا وسيميائيا. غير أن مبدأ الأكوان المتعددة يفيد هنا كثيرا في النظر إلى علاقة الأسماء بالأشياء، وما تطرحه الترجمة أو ما يرتبط بالابتكار من اقتراض ونحت واشتقاق وقياس، ذلك أن «الوهم» يعلمنا أن الأسماء كلها تعيش لحظة استجواب دائمة للوجود وممكناته، وأن هذا الأخير مجرد فك لتشفير موقف الاسم الذي يقف دائما على الجانب الآخر، أو على الأقل مجرد اختبار يجري في حقل احتمالات واسع وأكثر رحابة.


الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 12/01/2024