كوابيس سلالة السلمون الأخيرة

 

 

هاهي اليوم، وبعد غياب طويل تتصدر الصفحة الأولى من جريدة الأصداء، بوجهها المتجهّم كالعادة بصورة مكبّرة وبعينيها الوحشيتين، كما لو من هول مفاجأة صادمة فتحتهما جاحظتين على أشدهما، وأنف دقيق كمواعيد الخونة و اللصوص، وفم مزْموم بإحكام، كما لو أنها تعضّ على شيء حامض شربته لحظة التقاط الصورة. عرفتها نعم إنها هي..
أبَعْدَ كل هذه المدة الطويلة جدا، على آخر لقاء لنا ألتقي بها الآن؟ وأنا الذي اعتقدت أنني تخلصت منها نهائيا من خزانة الذاكرة، ودفنتنها بإحكام في قبر الماضي والنسيان. وعلى صفحة جريدة ؟
وما الذي جعلها تتصدّر الصفحة الأولى؟
اختلطت بين عيني الحروف والكلمات، ولم يعد يَعرشُ في ذهني سوى ذاك اليوم المشؤوم، الغارق عميقا في جوف الماضي السحيق من عمري. يوم أخذت بشكل هستيري عنيف، بخناقي وأخبرتني بلهجة حادة أنها ستغادر إلى البرازيل. لم أسالها يومها لماذا البرازيل أساسا ؟ ولمَ copa cabana بالضبط؟؟_ وفي اليوم الموالي – ولأن خلائق الله في كونه تعرج تحت سقف السماء ليلا من عوالم الحمق إلى ملكوت التعقل والإدراك- اتهمتني قائلة بحماس زائد عن اللزوم أنها حبلى، وتحمل بين طيات أحشائها بذرتي. وقد تزرعها، دون إذن مني، هناك في ربوع بلاد السامبا . وتتخلق من سلالتي سلالات. وأنا الذي ما كنت أعتقد أن ابنة آوى المخادعة هذه مازال رحمها المهترئ على كل هذا القدر من الخصوبة كي ينتج بيضا…..فاسدا، ومع ذلك أغرتني وأغوتني فكرة المشروع المروع، فتحمست أنا كذلك زيادة عن اللزوم أن أصبح، مثلا، مثلا ،يعني، رمزا تاريخيا أو امبراطور الله هناك في ما وراء بحر الظلمات. غير مقدّر لحجم الفداحة التي ستحيق بي ولو أن هذا القادم أكيد لا علاقة له بالحظ والصدفة، بل قدرٌ وسر من أسرار الله المكتوبة لي سلفا في اللوح المحفوظ والكتاب المسطور..
جدّدت النظر بدقة لا متناهية في الصحيفة والصورة والعنوان الذي كُتب بخط عريض. لم أفهم. لم أصدق فعلا أنها هي من أقدمت على هذا الجرم المشهود. وبالفعل المشين الشنيع..
هكذا هي إذن ؟ لم تغادر الوطن. وبعد كل تلك المعاناة والتجربة المريرة معها، تعود للظهور من جديد؟ وأنا الذي اعتقدت أنها عبرت البحار والمحيطات، و أنني ذات يوم، طال الزمن أم قصر ،سألحق بها وبسلالتي المرتقبة هناك، وأتوّج حينها في احتفالات رسمية، سلطانا مهاجرا غازيا، استحكم بقوة الأولاد في رقاب العباد، ولم لا ؟ . وهكذا ظللتُ وبتَ سنين طويلة وأنا في دار المغفلين أضرب الأخماس في الأرباع وهي الآن، أكيد تستمتع بوقتها في مكان ما من أرض الله الواسعة..
تنبت اللحظة في ذاكرتي صورتها في مشهد ملحمي غريب مذهل، كيف ذات يوم، ونحن معا في رحلة في ملكوت البراري هناك بمحاذاة جبل أسطوري عظيم، يغمس رجليه على الدوام في بحيرة زرقاء، يتوضأ من مائها العذب الزلال منذ الأزل، ونحن هناك، في جولة استثنائية نمتع النظر في لوحات الطبيعة الساحرة المدهشة. وفي غفلة مني، تاهت غزالة البراري شاردة في خمائل الطبيعة العذراء. ولمّا بدا لي أنها أطالت الغياب، جمعت أشتات قوتي، وطفقت أبحث عنها في كل مكان، متتبعا بادئ الأمر آثار خطواتها، وتارة متشمّما بين الأدغال، ككلب بوليسي مدرب، رائحتها التي تسكن كياني وكل مسامي. وبعد مداهمات بطولية زائفة متخيّلة بين المروج والخمائل، هدّني التعب وانهارت عزيمتي وخارت قواي، وما عدت بقادر على الركض. ولمّا بدأت حافة الشمس تهوي على حافة البحيرة تبتلعها، جارة بتلابيب الظلام، بدأ ينتابني مع كل دقيقة تنساب من الزمن، هلع وقلق فظيعان. تلاحقت أنفاسي وازدادت دقات قلبي حتى خِلت أنه سيقفز من حلقي. جعلت أصرخ أناديها ملء حنجرتي، وما أجابني حينها سوى تردد صدى مخيف يطلع من جوف الجبل الرابض على ضفة البحيرة الأسطورية العظيمة.
هبّت في ذهنه فكرة عنيفة زوْبعت ذاكرته، فتذكر يوم أن أشاعت عنه أمام الملإ أنه يأكل اللحم نيئا. بدأ يستعيد سلسلة من الأحداث الموغلة في الغرابة التي لم ينتبه لها وقتئذ. إذ كيف أمكنها أن تزجٓ به في بئر عميقة لا قرار لها، طافحة بالغريب والعجيب من المواقف ولا يبالي؟. الآن فقط بدأت تتضح له الرؤية. وأنا أطل عليها مختبئا ذات مساء غريب، من نافذة خلفية في المنزل، حصلتها تقجّ بجمع يديها قطتها المدللة حتى جحظت عيناها، فتدخلت على الفور قبل أن تلفظ المسكينة رمقها الأخير. ولما انكشف أمرها اعترفت لي أنها انتهت للتو من حفر حفرة عميقة في باحة المنزل. وهلمّ طقوس روحانية غريبة.
هل تذكرون يوم أن تاهت وضلت طريقها ونحن في نزهة الجبل؟ ما فقدت الطريق ولا تاهت بها السبل، وإنما والشمس تزورَ جهة الغروب، ولما فقدت الأمل في العثور عليها، سمعت صوتها يأتيني عمييييقا من أين؟ الله أعلم. سمعتها تناديني، أجل باسمي تناديني، ويا ليتها يومئذ ما نادت ولا تناهى لمسمعي نداؤها. ركضت في كل اتجاه حتى أنني رفعت عيني عاليا هناك جهة الله أبحث عنها كما لو كنت أنتظر هبوطها من قبة السماء . وأنا أجول بناظري بين السماء والأرض، فإذا بي أراها بأم عيني اللتين سيأكلهما الدود، تخرج من أعماق البحيرة سابحة بمهارة وبراعة ما عهدتها فيها باسمة قائلة: “لقد عاركت رسول الموت طويييلا، فصرعته قبل أن أعود إليك. واعلم أيها الوغد، أنني أنا ابنة سلالة السلمون الأخيرة. أنا سيدة الأعالي الشامخة..
والله ما فهمت شيئا، لكن ما حّيرني آنئذ، أنها وهي تتجه نحوي، ألفيت ملابسها يابسة، غير مبللة، وكأنها ما طلعت للتو من الماء، وما أن هممت بأن أسألها حتى أردفت قائلة: أنا ابنة الشمس . أيها الغر البليد.فانخسفت بي الأرض وكأني أغوص في مهوى سحيق، فصررْتُ كل ذلك في قلبي ولم أعقَب، وما أضفت على ما قالت ولا كلمة، وحُزتُ أمري لله خوفا من مغبة السقوط في فخ أو مقلب من مقالبها الجنونية المذهلة. هي تعرف أنني رجل مسالم ودود، لأنني ما دخلت مركز البوليس مرة، ولا دهست بالصدفة نملة، ولا هشمت جناح فراشة خطأ، ولا دعسْت بين أناملي بَتَلة زهرة عُنوة. تعرف أنني كما النملة، كلما وجدت قطعة خبز قبلتها ووضعتها في مكان آمن قصي، وتعرف أيضا أنني في كل مناسبة وبدون مناسبة ابني الفخاخ الوهمية لاقتناص لحظة أمل في العيش الكريم. هي تعرف كل هذا وأكثر. ومع ذلك تمعن في الدّوْس كلما واتتها الفرصة على ما تبقى لي من شهامة رجل، كلما هممت بإبداء رأي أو فكرة. فتشتُ عن كلمة صائبة رابحة لكن تخبّلت لدي كبة الكلام وألفيتني أجتر مرارة سنين عددا من الخنوع. رفعت رأسي، ويا ليتني ما فعلت، فقد هرول الدم راكضا كالجياد في أوردتي وكوموندو البوليس السري يضع الأصفاد في معصمي .قال قائدهم : أأنت هو إذن ؟؟ خذوووووه.


الكاتب : عبد الواحد كفيح

  

بتاريخ : 12/01/2024