أصداء أصوات غافية : «اليومية العصرية»، وسلسلة «اِقرأْ»

إنها يومية الحاج بوعياد، يومية التقويم الهجري والميلادي والفلاحي، ويومية الإنسان المغربي، وكل إنسان رجلا كان أو امرأة، أو طفلا وطفلة. إذا حطت منشرحة، وافترشت أحيازا في الأسواق الأسبوعية، وصُفَّتْ ورُصَّتْ على صدر ألواح المَحَالِّ والدكاكين التجارية، و» الأكشاك « في ظهورها الأول، في هيئتها « المتقشفة « أيامئذ؛ تنفد بسرعة البرق لأنها شكلت غذاء معرفيا، وسندا تعليميا، ومتكأ ومرجعا ثقافيا أنطربولوجيا. وكيف لا تكون كذلك وأوراقها البيضاء تحتضن ـ مجازيا ـ عقارب الزمن، فصولا وشهورا وأسابيع وأياما، وتعرض بكرم آيَ القرآن الكريم، وأحاديث نبوية شريفة، وأقوالا مأثورة، وأمثالا عربية سائرة، وفصوصا من الحِكِم الثمينة، ونُتَفاً منتقاة من الأشعار المشهورة، فضلا عن وصايا وفوائد طبية تتصل بخواص النبات والبقول، والأزهار، والتوابل والأفاويه، والفواكه اليابسة ومقادير تناولها، أوقات نقوعها. كما تُخْبر بدقة حسابية، عن مواسم الفلاحة من بِذار، وحِراثة، وحصاد. وتُذَكِّر بأيام الأعياد الدينية والوطنية عربية وأمازيغية و» عالمية «.
لست أنسى شكلها الأبيض الكارتوني ( الورقي المقَوّى )، الذي وصل إلينا عبر صورتين ثابتتين راسختين تداورهما المطبعة مع كل حلولٍ سنوي جديد، وأعني بهما: اسم الله جلَّ جلاله في الأعلى، وأحيانا على اليمين، واسم النبي الكريم على اليسار، وعلبة الورق الهش السحري الملفوف يتوسط الكارتون الأبيض اللامع. كما كانت تصلنا وفي أعلاها صورة المغفور له الملك محمد الخامس طيب الله ثراه. وفيهما معاً، في الصورتين الأثيرتين ما يملؤنا حبورا واستعدادا للقطف المثمر السخي، قطف ورقة إثر ورقة، كأننا ندحرج ونكور السبحة حبةً.. حبةً، والأيام نقشرها يوما بعد يوم، والفواكه الشهية نجتنيها واحدةً.. واحدةً برفق وحنان خوفا عليها من التمزيق لفرط هشاشتها، محتفظين بما غنمناه من علم وثقافة، وتربية ومعرفة صارت حية متكاملة بعد قطف واجتناء أوراق عديدة، ما يعني: تكوير أيام مديدة. كانت « اليومية « ولا تزال، وإِنْ خفَّ وقلَّ شراؤها لا شأنها، وانكمش اعتمادها في غمرة الزحمة التحديثية التجديدية والرقمية، تُشْعِرنا بمرور الزمان، أكثر مما كانت تشعرنا به الدورات الفصلية، والامتحانات المتوالية، و «زغب « النمو الذي يظهر على وجوهنا ـ فجأة ـ وقد راهَقْنا، وبدايات بروز صدور البنات والتلميذات وقد صِرْنَ كواعبَ أتْراباً.
كنت دائم الرُّنُوِّ والتطلع إلى الحائط حيث علق أبي اليومية الشهيرة « المباركة « تحت المرآة ذات الإطار الأخضر، يملؤني إحساس يند عن الوصف: أيكون حماساً أم التذاذاً، أم تلهفا على قراءة ما تخفيه الورقة بعد نزعها. ولست مبالغاً، بل مُبَلّغاً إنْ قلت إن اليوميةَ شكلت وجداني كما شكلت وجدان جيلي مثلما شكلته وربَّتْهُ سلسلة « اقرأ « للمربي أحمد بوكماخ في خمسة أجزاء ( التحضيري فالابتدائي الأول، والابتداء الثاني، فالمتوسط الأول، والمتوسط الثاني )، و» مطالعة « المربي المنسي محمد محيي الدين المشرفي. فلا أحد ينكر فضل « التلاوة « علينا كما أعدها ونفذها ورعاها المرحوم أحمد بوكماخ، والمربي المرحوم المشرفي، بأريحية، ووطنية، ونكران ذات. فبها، واعتمادا عليها، صرنا أقدرَ على المحادثة بالفصحى. وبفضلها، غدونا نُحَبِّرُ أولى الخربشات الإنشائية، والتي استقامت بعد ذلك فصارت إنشاء بالمعنى المعجمي والوضعي والاصطلاحي لكلمة « إنشاء»، أيْ صارت بناء وتركيبا ذا معنى ودلالة. إذْ كانت النصوص المنتقاة والرسوم المصاحبة لها، على بساطتها، من التفرد والتميز والإمتاع والإفادة والإثارة، ما جعلها تجري على القلم واللسان كما يجري الدهان.
ولسائل أن يسألَ: لِمَ تثير نوستالجيا « اليومية «، و» التلاوة « وقد فات ما فات، وتطور الزمن، وتحولت الفهوم والرغائب، والأماني والتطلعات؟. ولي أَنْ أردَّ بأن في الإثارة والاستذكار والبعث والإحياء، ما يجعلنا نستعيد ابتهاجا وانشراحا وفرحا عشناه، ونسترجع ما كنَّاهُ أطفالا ومراهقين (ات)، ينوس سلوكهم وتصرفهم وعملهم بين الطيش والعقل، وبين الكد والصفاء، وبين الشقاء والنعيم. قَوَّمنا معلمونا كمربين بعد آبائنا ـ بطبيعة الحال ـ وقوَّمَ الجميعَ أحمدُ بوكماخ، ومحمد محيي الدين المشرفي، والحاج بوعياد، والإعلامي الكبير محمد عبد الرحمن برادة مَدَّ الله في عمره، وآخرين بما قدموه كمعلمين ومربين ووطنيين أجلاَّءَ فضلاءَ، من علم وثقافة وتربية، ومعلومات، وإمتاع وإفادة على محدودية ذلك، إذ لا ينبغي أن نغفل أو نتغافل عن شروط المرحلة ومنطقها، وسياقها الاجتماعي والسياسي، وظروفها الحافة التي يمكن اختزال طابعها وطبيعتها في النزر اليسير والكفاف، وفي ضمور الحوافز « الرسمية « فترتئذ، وفي « غياب» التحديث والعصرنة بمفهومهما الراهن، أيْ في ندرة مساقات العلوم، وفتوحات العصر أوروبيا وأمريكيا على مستوى البيداغوجيا المعاصرة، واستغلال ثمرات البحث العلمي، ونتائج التكنولوجيا التي أزهرت في ما وراء البحار. زِدْ على ذلك، حداثة العهد بالاستقلال، وبناء المجتمع والذات، والشروع « المحتشم « في تحرير الطاقات، وإطلاق القدرات الكامنة التي عمل الاستعمار على كبتها وكبحها، والتضييق عليها وعلى أصحابها. وبهذه المعاني، لم تكن « اليومية العصرية «، فَلْتَةً أو سلوةً، اقترحها مزاج الحاج بوعياد غِبَّ حلم من أحلام اليقظة. كما لم تكن أُلْهيَّةً من الأُلهيات، ولا مادة معروضة في الأسواق بغية تحقيق الثروة والأرباح لصاحبها، وإنما كانت ـ بشكل من الأشكال ـ مساهمة ذكية في معركة الاستقلال التي كان الشعب المغربي يخوضها ضد « الحماية « الفرنسية، ضد « الأقدام السوداء « بتعبير فرانز فانونْ. وما ذكر الله والبسملة، والتأكيد على السنة الهجرية في كل ورقة ورقة، ومقابلها الميلادي، ثم تثبيت صورة محمد الخامس بطل التحرير، ورمز المقاومة، في أعلاها، سوى انخراط ضمني معلن وغير معلن في وطيس المعركة، ودعم معنوي لها. وإذا عرفنا ( ما لم يحصل التباس )، أن المرحوم الحاج بوعياد هو أحد الموقعين الأبرار على وثيقة المطالبة بالاستقلال المقدمة لفرنسا بتاريخ 11 يناير 1944م في المنزل التاريخي للمجاهد الأستاذ أحمد مكوار، الموجود بساحة البطحاء بفاس، تزداد حقيقة ما ذهبنا إليه، سطوعا ونصوعا. كما أن المربي الجليل أحمد بوكماخ والمربي الجليل محمد محيي الدين المشرفي، يستحقان الإكبار والتبجيل والاستذكار في كل وقت وحين، لِما قدماه من نصوص أدبية ودينية، وتثقيفية وتربوية، صبَّتْ، في تقديري، ضمن المجهود الوطني لنشر الوعي، وإذْكاء الحماس، والإعلاء من شأن وقيمة اللغة العربية التي كان يتهددها التشكيك في قوتها وتاريخها، وبراغماتيتها، وقيمتها الوجودية. فما الاختيارات البيداغوجية والأدبية المدروسة التي نَمَّتْ عن حذق وذكاء، ومعرفة بالأولويات والأسبقيات التي تليق بالناشئة إبان تلك اللحظة « الساخنة « المشرئبة نحو الغد المنير، ما هي إلا مساهمة توعوية تربوية سياسية بتأويل ما، واجهت بإصرار وعناد وتصَدٍّ ما كان يهيئه ويبيته الاستعمار الفرنسي، ويسعى إليه في سحب سُجُف الظلام والتعمية على وجود مغربي أمازيغي وعربي وإسلامي في أفق تَشْتيتِه وتغريبه ثم استلحاقه.
رحم الله الفضلاء المربين: الحاج بوعياد، ومحيي الدين المشرفي، وأحمد بوكماخ، وباقي الفضلاء الأبرار الذين خدموا الوطنَ وصنعوا مجده بكفاحهم الميداني، والعلمي، والتربوي، والأدبي، والتوعوي، ما أفضى، حثيثاً، إلى الاستقلال، وبناء الذات، والسيادة الوطنية.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 19/01/2024