من الواضح أن العلاقة بين القارئ والكاتب شديدة التعقيد؛ ذلك أن لا أحد منهما يثق في الآخر ثقة سميكة، وما ينبغي له. كما أن علاقتهما مبنية أساسا على الندية ولزوم التكافؤ. فالقارئ يُشغِّل كل معرفته من أجل كشف لعبة الكاتب ومناوراته، بينما يسعى الكاتب إلى الطمس وزرع الفخاخ وإقامة ستائر الدخان وصنع المتاهات.
يساور القارئ دائما الشك في الكاتب، لكنهما معا يتذكران جيدا ألا وجود لأحدهما دون الآخر، وألا شيء يستمر في الوضوح إلا هذه الخصومة الحيوية. لا أحد منهما يمكنه التخفيف من هذا الأمر، وهما عكس ما يراه الكثير من الدارسين ليسا متكاملين على النحو الذي يمكن أن يصنعه الضد بضده، لأن الخصومة بينهما اقتضائية في العمق، ولا تقوم على التنافر.
ليست مهمة القارئ، تبعا لذلك، جلب المعنى الحرفي إلى رحاب الحياة وترجمة ما يرمي إليه الكاتب أو ما يقصده، بل مهمته هو إضفاء حياة أخرى على هذا المعنى، وتوسيع نطاقه على النحو الذي يمكن للقراءة أن تتفوق على النص، بل أن تصير نصا آخر يحتاج إلى قراء آخرين.
القراءة بهذا المعنى ليست جلبا لمكان مشترك يتعايش فيه القارئ والكاتب، بل هي حرب استراتيجيات، وإقامة لممكنات واحتمالات، أو بمعنى أدق هي اختبار قوة. وتبعا لذلك ليس من المنطقي الافتراض بأنهما توأم، وأن علاقتهما مبنية على التكامل. إنهما يعملان ضد بعضهما البعض بخداع مزدوج المعنى. كما أن الصراع بينهما ليس حول «تطابق القول» أو «الشكل الأكمل»، بل حول من ينجح في فتح الممرات الغامضة، وإضاءة الأدراج المعتمة، والميل الرشيق مع الانعطافات، التي تتحقق، على الأرجح، خارج رغبات الكاتب نفسه.
إننا أمام موقع أصلي للمواجهة، أي نقطة الارتكاز التي يقوم عليها كل نص جدير بهذا النوع من القراءة التي تقوم على «تمرين» طويل (قد يستغرق أعواما) لإفشال كل كتابة تستخدم الطمس لإخفاء الأمور، خاصة إذا كانت تلك الأمور هي ما يشكل «الحقائق الجوهرية» للنص.
إن القارئ حين يدخل النص لا ينسى كل شيء كان يعرفه، بل يقرأ بكل شيء يعرفه، بكل خبراته وحواسه واتقاده الذهني وخيالاته وأحلامه وتطلعاته. وبتعبير آخر إنه ينازل الكاتب في عقر نصه بكامل عدته وعتاده. فالكاتب يصمم اختفاءاته، ويصنع في النص حفرا وتجويفات، ويقيم حواجز يغمرها الظلام، ويقيس ردات فعل القارئ ونباهته، لا ليتواطأ معه، بل ليضلله بكل اللؤم الممكن، ويدفعه دفعا إلى التيه في ليل الصحراء البهيم. ومع ذلك، لا ينبغي أن يفهم من هذا الكلام بأن تأثير هذا «التضليل» سيء، ذلك أن فعل القراءة لا ينبغي أن يعلق الآمال على اليُسر. فالنصوص التي يسهل اختراقها نصوص ميتة. بينما النصوص العسيرة هي التي تحتاج إلى الخطط البديلة، لأنها غير معفية من الدفاع عن نفسها في مواجهة القارئ المفترس.
فإذا لم يساور القارئ شعور بالانفعال الحاد أثناء القراءة، فثمة شيء خاطئ. وإذا لم يغرق في التفكير ويمعن في ملاحظة كل الأشياء التي تنزلق يمينا ويسارا تحت عينيه، فيختار الانطلاق على النحو نفسه يمنة ويسرة ليحاصر المعنى ويقبض عليه، فثمة أيضا شيء خاطئ ينبغي الإلمام بطرق تصحيحه وإعادته إلى جادة المعنى. وأيا كان الخيار الذي سيختاره القارئ لاقتحام النص، فإن الغاية ليست هي الوصول إلى المعنى القصدي فقط (التفسير)، بل الإحاطة على نحو يكاد شاملا بالعلامات التي يحملها النص على مستوى اللاوعي. ذلك أن اللغة تلعب أيضا على أوسع نطاق في الذاكرة المخفية، مما يعني أن فعل القراءة ينبغي أن ينصب على تحقيق عوامل انحسار المعنى، خاصة أن القارئ يمضي قدما، وعلى نحو متقطع، في مساحة تُضيِّق عليه الخناق، فيما هو مطالب بتوسيعها وملء تثغيراتها وإضاءة تجاويفها وإطلاق محادثات مع دوافعها ومنطلقاتها، وأيضا مع بنياتها النظيرة وسياقاتها العامة. وبهذا المعنى، يقتضي نزال القراءة ألا نتعامل مع الكاتب وسيرته بوصفهما قشرة خارجية بلا مضمون.
إن المهم في القراءة ليس هو المعنى الذي يشيح بوجهه لِيُغري، أو ليسلي، بل الأهم هو الاهتمام بالأصوات والإيماءات والظلال النائمة في أغوار النص الذي لا يكف إطلاقا عن العمل والمضي بعيدا في اتجاه «اللامفكر فيه»، بل الأهم أيضا هو عدم النظر إلى الكلمات على أنها أحجارا صماء غير خاضعة للتخلي عن حالتها الصلبة. لاشيء مع الكلمات يوحي بأنه يصل إلى نهايته، ما دام دام لا أحد يستوقفها ويعترض على تدفقها السائل الذي يحمل القارئ إلى قارات أخرى.
صحيح أن كل نص يتحدث بشكل زائف، ومن ثم، فمهمة القارئ هي أن يواجه التشوه وكشفه وإظهاره باتخاذ إجراءات متشددة، أولها عدم الثقة في ما يطفو على السطح من كلمات ومعاني وإشارات تتشح كلها بألوان مغرية (الكاتب لا يمنح الهدايا)؛ وثانيها: الاهتمام بالرمادي بوصفه حاملا للممكن والمبهم؛ وثالثها: اختراق واجهة الكلمات، والتعامل معها بوصفها آلة لإضفاء الغموض على الأشياء التي تريد قولها. باختصار، ينبغي التعامل مع النص كموضوع للتحري ليس فقط بالمفهوم البوليسي الذي يقوم على تطابق ذهن القارئ مع ذهن خصمه (الكاتب)، بل أكثر من ذلك باستعمال هذا المفهوم بغاية استرجاع كل شيء جرى تبديده في النص، ذلك أنه ليست هناك «جملة واحدة أو كلمة واحدة تفتقر إلى الأهمية. وحتى إذا لم تكن لها أهميتها، فإنها تحظى بإمكانية أن تكون لها أهمية»، كما يقول بول أوستر. ويجري هذا الاستعمال للتمكن من محاصرة النص وتقطيره وإجباره على إخراج أسراره، ثم الذهاب بعيدا في إرجاع الكلمات إلى منابعها ونقلها إلى مناطق أخرى لم تكن لتخطر بأي حال على الكاتب.
عُدَّة القارئ
الكاتب : سعيد منتسب
بتاريخ : 26/01/2024