المحكمة الدولية ضمير الغرب الذي لا ضمير له

شفيق العبودي

قبل أيام أصدرت محكمة العدل الدولية بلاهاي بياناً أو قل حكما تجاه المجازر التي يرتكبها الكيان الصهيوني بغزة استجابة لدعوة رفعتها دولة جنوب إفريقيا، وقد سبق لمحكمة العدل الدولية أن أصدرت مثل هذا القرار/الإعلان/الحكم في قضايا مختلفة، آخرها القضية المرفوعة ضد سوريا من قبل هولندا وكندا بشأن اتفاقية مناهضة التعذيب، وغيرها من القرارات السابقة، لكن السؤال الذي يطرح الآن هل لهذه القرارات أي تأثير على الأرض؟ وهل هي قابلة للتنفيذ وملزمة للكيان الصهيوني؟ ومن سينفذها إذا كانت فعلا قابلة للتنفيذ؟
أولا، يجب أن نعترف أن العالم يحكمه منطق القوة ولا شيء غير ذلك، لهذا تبقى هذه المنظمات مجرد مساحيق تُجَمِّل بها الإمبريالية العالمية المتحكمة في شعوب الأرض وجهها البشع، لأننا نعيش في عالم متوحش تحت سيطرة القوى الإمبريالية التي تحكم الأمم وتسيطر عليها وتستغل مواردها، وتنهب ثرواتها لصالحها، ومن أجل إيهام الرأي العام العالمي قامت بخلق مجموعة من المنظمات الدولية المرتبطة بعضها ببعض لشرعنة ممارساتها وتعزيز نفوذها العالمي تحت مبررات القانون الدولي وحماية حقوق الإنسان ونشر الديمقراطية، لكن الحقيقة هي أن هذه المنظمات الدولية تنفذ أجندات القوى الإمبريالية وتعزز التقسيم الاقتصادي والسياسي العالمي لتحقيق أقصى استفادة ممكنة من ثروات العالم المنهوبة، وإذا ما سولت لها نفسها الانحراف نوعا ما عن خدمة أجندتها ــ مصدقة الأكذوبة التي يتم الترويج لها بأن هناك شرعية دولية وقانونا دوليا وحقوق الإنسان وديمقراطية ــ فإنها لن تتوانى عن التصدي لها بكل الطرق، وسأعطي مثال عن ذلك من خلال تعامل الولايات المتحدة الأمريكية كقائدة الإمبريالية العالمية مع بعض القرارات، خاصة تلك التي لا تخدم الكيان الصهيوني، فقد سبق لها أن أدانت وهددت السلطة الفلسطينية في حال استمرار سعيها في الانضمام إلى المنظمات الدولية، وتزامن ذلك مع تهديد الاحتلال الصهيوني للسلطة الفلسطينية بوقف إيرادات المقاصة، التي تمثل ركيزة التمويل الأساسية لميزانية السلطة، في حال استمرت الأخيرة في مسعاها. كما قررت أمريكا في أكتوبر 2017 الانسحاب من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة «يونسكو» انحيازاً للكيان الصهيوني، الذي تبعها بالانسحاب، وأوقفت أمريكا مساعداتها المالية للمنظمة، بعد قرار اليونسكو اعتبار مدينة القدس إسلامية، ولا يوجد أي ارتباط لليهود بالمقدسات الدينية فيها.  جاء قرار أمريكا بعدما كانت سابقا قد قررت إيقاف دفع مخصصاتها المالية السنوية التي تمثل 22٪ من ميزانية اليونسكو بعد أن قبلت المنظمة بفلسطين عضواً كامل العضوية فيها. وفي يونيو 2018 انسحبت الولايات المتحدة الأمريكية من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، بعد تصويت المجلس لمصلحة إجراء تحقيق في سقوط قتلى مدنيين في قطاع غزة، متهماً الكيان الصهيوني بالاستخدام المفرط للقوة، وفي أكتوبر من نفس العام انسحبت أمريكا من بروتوكول اتفاقية فيينا الاختياري لحل النزاعات، بعد تقديم السلطة الفلسطينية طعناً على قرار نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس. انطلاقا من هذه الأمثلة وغيرها كثير يتضح أن الإمبريالية العالمية بقيادة أمريكا تعتبر نفوذها المالي داخل المنظمات الدولية جزءاً مهماً من نفوذها السياسي والاقتصادي العالمي، لذلك تعتبر تمويلها لهذه المنظمات مرتبطا أساسا بمدى استجابة الأخيرة لها، ويتعدى الأمر وقف التمويل إلى التهديد ثم الانسحاب رفضاً لأي مشاركة دولية في صناعة السياسات العالمية. وكانت أخطر التهديدات والانسحابات الأمريكية تلك التي أقرت بوقف المساهمات المالية في منظمة الصحة العالمية منتصف أبريل 2020 في أوج انتشار فيروس كوفيد 19 عالمياً، ما اعتبره البعض سقوطاً أخلاقياً للإدارة الأمريكية في أكبر الأزمات العالمية الحاصلة، باعتبارها المساهم المالي الأكبر للمنظمة، بحيث دفعت عام 2019م 400 مليون دولار للمنظمة.
وبالعودة إلى موضوعنا عن محكمة العدل الدولية نسجل أولا أن هذه المؤسسة ليست نشازا عن باقي المنظمات الدولية التي تخدم أجندة الإمبريالية، ولنا في ما وقع بصربيا ويوغوسلافيا في تسعينيات القرن الماضي بين 1992م و1996م، وما تلاها من محاكمات انطلقت بداية الألفية الثالثة، وأشرفت عليها هذه المحكمة التي أدت إلى الحكم على زعيم صرب البوسنة رادوفان كراديتش يوم 20 مارس 2019م بالسجن مدى الحياة ولمساعده العسكري الجنرال راتكو ملاديتش بتهمة الإبادة الجماعية عبر حصار سراييفو وارتكاب مجزرة سريبرينتشا في 1995م، وذلك بعد استئناف قدمه كرادزيتش عام 2016 للطعن في حكم سابق بسجنه مدى الحياة، وهي واقعة تؤكد كيفية توظيف هذه المؤسسة لتصفية الحساب السياسي مع الاتحاد السوفياتي السابق ومع المعسكر الاشتراكي الذي كان قائما بشرق أوروبا،  بغض النظر عن مشروعية المحاكمة والأحكام الصادرة. إذن ما الذي جاء به الحكم بخصوص القضية الفلسطينية وخاصة غزة؟
أولا، يحسب لدولة جنوب إفريقيا كدولة موقعة على اتفاقية منع الإبادة الجماعية هذه الجرأة السياسية التي لم ولن يتجرأ عليها أي من الدول العربية، برفع شكوى ضد الكيان الصهيوني، يوم الخميس 11 يناير 2024م، تتهمه فيها بارتكاب «إبادة جماعية في حق الشعب الفلسطيني» في غزة، وتسعى جنوب إفريقيا من خلال هذه الخطوة إلى الحصول على أمر عاجل من أعلى هيئة قضائية أممية والقاضي بـ»التعليق الفوري لعملياتها العسكرية في غزة»، لكن للأسف محكمة العدل الدولية ليست سلطة تنفيذية بل من عليه تنفيذ قراراتها هو مجلس الأمن وبعد جلسات الاستماع والمرافعات، جاء منطوق الحكم أو القرار متضمنا ما يلي :
ــ اتخاذ جميع التدابير لمنع أي أعمال يمكن اعتبارها إبادة جماعية.
ــ ضمان عدم قيام الجيش الإسرائيلي/الصهيوني بأي أعمال إبادة .
ــ منع ومعاقبة أي تصريحات أو تعليقات عامة يمكن أن تحرض على ارتكاب إبادة جماعية في غزة.
ــ اتخاذ جميع الإجراءات لضمان وصول المساعدات الإنسانية.
ــ عدم التخلص من أي دليل يمكن أن يستخدم في القضية المرفوعة ضدها.
إذن كل هذه القرارات مجرد حديث عن منع وقوع الإبادة، وضمان عدم وقوعها، والتهديد بالمعاقبة، واتخاذ إجراءات إلى غيرها من الكلمات الجميلة المنمقة، التي ترقى إلى أن تكون مجرد نصائح لا حكما قانونيا، وكلها تتعلق بالمستقبل، وما يمكن أن يحدث لاحقا، وليس عن الماضي وما حدث بالفعل.
صحيح أن القرارات بمجملها لصالح المقاومة في غزة والشعب الفلسطيني والأدلة واضحة، وكل القرارات موجهة ضد الكيان الصهيوني كلها تقريبا، والأهم من ذلك كله أن المحكمة طالبت الكيان بـ:
– وقف القتل العمد ضد سكان غزة فورا
– وقف تدمير البنية التحتية
– إدخال المساعدات بكل سهولة وحرية لغزة
– اعترفت المحكمة في قراراتها بأن كل ما جاء به تقرير جنوب إفريقيا حول الإبادة الجماعية في غزة فيه أدلة واقعية
– ذكر تقرير المحكمة عدد القتلى والجرحى في غزة والتصريحات اللا إنسانية لقادة الكيان العنصري حول سكان غزة وإبادتهم وتهجيرهم، وبأنها أصبحت في وضع كارثي، وذكر التقرير بالاسم التصريحات الوحشية لوزير العدوان والطاقة الصهيوني ..
– وكل المطالب موجهة لكيان الاحتلال ولم يذكر كلمة واحدة ضد المقاومة أو سلوكها أو أنها قامت بقطع رؤوس الأطفال وقتلهم … أو بأنهم إرهابيون …
صحيح أيضا أن قرارات المحكمة جعلت الكيان الصهيوني في قفص الاتهام مما جعل رد فعل قادته على القرارات استفزازيا، إلا أن السؤال المطروح الآن هو: هل سيتم تطبيق هذه القرارات على علتها؟
للأسف، ما دامت هذه المؤسسة بيد الإمبريالية فلا يمكن أن ننتظر تطبيق قراراتها مهما كانت إلا إذا كانت في مصلحة من يتحكم بها، وبالتالي لا تعدو أن تكون مجرد تطمين وإراحة لضمير الغرب المهتز جراء صور المجازر والقتل الممنهج الذي يقدم عليه الكيان الصهيوني بغزة، وصور الدمار الذي أتى على أكثر من 80% من البنية التحتية لقطاع غزة، ناهيك عن صور التهجير القسري ومئات الآلاف من اللاجئين الصامدين والرافضين للتهجير مهما ازداد الوضع سوءا، وصور المستشفيات التي تقصف والتدمير الذي طال ويطال الحجر والشجر، وأطفال خدج يعدمون بدم بارد، التي تنقلها وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي إن كان للغرب ضمير أصلا.
لهذا فإن المحكمة الدولية حقيقة تكتفي بالنظر في النزاعات بين الدول الأعضاء، وتعتبر أحكامها مبرمة وملزمة قانونا لكن لا تملك سلطة لفرض تطبيقها، ومثال ذلك أنه في مارس 2022، أمرت المحكمة روسيا «بتعليق فوري» لحربها على أوكرانيا إلا أن موسكو تجاهلت هذا الأمر بالكامل، وبقي قرارها حبرا على ورق، كباقي القرارات التي صدرت عن منظمات ومؤسسات دولية أخرى وأبرزها قرار 194 بخصوص القضية الفلسطينية الصادر يوم 11 دجنبر 1948، الذي أقر «إنشاء لجنة للتوفيق، حماية وحرية الوصول إلى القدس والأماكن المقدسة الأخرى، وقرر السماح للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم بالقيام بذلك في أقرب وقت ممكن عمليا، ومنح تعويضات عن ممتلكات الذين يختارون عدم العودة، وأنه يجب دفع تعويضات عن ممتلكات الذين يختارون عدم العودة وعن فقدان أو تلف الممتلكات التي توجبها مبادئ القانون الدولي أو الإنصاف، وينبغي أن تكون الحكومات أو السلطات مسؤولة عن ذلك»، وأيضا القرار242 كذلك اللذين لم ينفذا لحد الآن، وبغض النظر عما إذا كانت قرارات المحكمة ستطبق أم لا، فإنها لم توجه أي إدانة صريحة ومباشرة للاحتلال، وبالتالي فهي لاتزال تنتظر جمع الأدلة، وكأن المجازر التي تنقلها القنوات على الهواء مباشرة لا تكفيها، وكأن المحكمة ترسل رسائل مشفرة للاحتلال قصد إتلاف كل الأدلة التي يمكن أن تدينه، وعلى ذلك يحسب لجنوب إفريقيا أنها أول دولة ترفع دعوى ضد الاحتلال، وهذا من شأنه أن يشجع دولا أخرى على رفع دعاوى مماثلة.
لكن تبقى الخلاصة الأهم من خطوة كهذه من قبل جنوب إفريقيا هو أهمية التعويل على التضامن الأممي وضرورة إعادة الاعتبار للأممية البروليتارية وشعاراتها المنحازة إلى الشعوب المضطهدة والمستعمرة من قبل الإمبريالية العالمية، وضرورة إعادة صياغة وراهنية شعار : يا عمال العالم اتحدوا، ويا أيتها الشعوب المضطهدة اتحدي، عوض الانكفاء والتعويل على قوى مهزومة، مطبعة ومستسلمة، فالمسيرات التي خرجت في عديد الدول العالمية المنظمة من قبل أحزاب اشتراكية وشيوعية ويسارية أكثر مما هو عليه حال الدول التي تدعي زورا أنها تقتسم مع الشعب الفلسطيني الانتماء للعروبة والإسلام، لذلك لم يكن مفاجئا أن تنضم نيكاراجوا للقضية وللتضامن مع الشعب الفلسطيني إلى جانب باقي حركات التحرر في العالم من جنوب إفريقيا إلى كوبا وتشيلي وفنزويلا وحركات التحرر بإيرلندا، مما يعني أن عالما جديدا يتشكل، وعلينا أن نكون جزءا منه، وإلا فإننا نخلف موعدنا مع التاريخ إلى زمن لاحق وفرص أخرى قد لا تتكرر.

الكاتب : شفيق العبودي - بتاريخ : 02/02/2024