انطلقت بقاعة سينما كاميرا بمكناس، العروض التجارية للفيلم المغربي الجديد “عصابات”، المتوج سنة 2023 بمهرجان بروكسيل الدولي للفيلم بالجائزة الكبرى وبمهرجاني “كان” (نظرة ما) و”مراكش” الدوليين بجائزة لجنة التحكيم الخاصة. وقد استقبلت نفس القاعة الأربعاء الماضي، مخرج الفيلم كمال لزرق وبطليه عبد اللطيف المستوري وأيوب العايد ومعهما الكوتش المساعد للمخرج في إدارتهما محمد أزنديك (أحد بطلي فيلم لزرق الأول “دراري”) في عرض افتتاحي تلاه نقاش مع المخرج ومن معه أداره المدير الفني لقاعة سينما كاميرا السينفيلي محمد بيوض.
شاهدت فيلم “عصابات”، الذي يعرض حاليا في القاعات السينمائية الوطنية منذ 31 يناير 2024 وعبر شبكة المعاهد الفرنسية بالمغرب، بعد عروض له بفرنسا في صيف 2023 ومشاركات في مجموعة من المهرجانات الدولية، وأعجبت بشكل خاص بالأداء القوي والتلقائي لبعض الممثلين فيه، سواء غير المحترفين، وعلى رأسهم عبد اللطيف المستوري في دور الأب، أو المحترفين، ومن بينهم بالخصوص عبد الله لبكيري في دور الديب ومحمد خربوشي في دور جلوطة.
هذا الفيلم عبارة عن دراما اجتماعية لا تخلو من إثارة وعنف وتشويق، فهو أقرب إلى أفلام الطريق، التي تقطع أنفاس المتلقي من خلال أحداثها المتتالية والمفاجئة، عبر تجوال ليلي داخل أعماق الدار البيضاء وأحيائها الشعبية الهامشية وفضاءاتها المختلفة، وهو تجوال نكتشف من خلاله العلاقة الإنسانية المركبة بين أب (حسن) وإبنه (عصام). فرغم شح الكلمات استطاعت كاميرا المخرج، من خلال لقطات مقربة تركز بالخصوص على وجهي الأب والإبن وتقاسيمهما، أن تكشف لنا عن معاناة ودواخل الأب الذي لم يعش طفولة عادية وهادئة في صغره وعن رغبة دفينة لدى الإبن في أن يكون له أب أفضل من والده الحالي.
الفيلم وهو يحكي على امتداد 94 دقيقة قصة حسن وعصام، اللذين وجدا نفسيهما في موقف صعب بعد اكتشافهما لموت الشخص الذي كلفا باختطافه من طرف رئيس عصابة مقابل مبلغ مالي مغري، وبحثهما الدؤوب عن طريقة للتخلص من جثته، تتخلله لحظات تساؤل حول الذات وحول الوضعية الإجتماعية للإنسان المقهور والآفاق المغلقة أمامه وحول واقع مدينة “غول” أصبحت تبتعد تدريجيا عن هويتها الحضارية الإنسانية. فطيلة الليلة الطويلة التي قضياها في التجوال بين الأحياء الشعبية الفقيرة للمدينة، التي تسيطر عليها عصابات متنافسة على النفوذ فيها، ودخولهما اللاإرادي في دوامة حرب قائمة بين هذه العصابات بغية التخلص من الجثة التي في حوزتهما، انتابتهما مشاعر من الخوف والإرتباك وتأنيب الضمير. وهنا يكمن العمق الإنساني للفيلم الذي أضفى على موضوعه طابعا كونيا.
فيلم “عصابات” يمكن اعتباره امتدادا نوعيا لفيلمي المخرج السابقين، المتوسطي الطول، وخصوصا منهما “مول الكلب” (2013)، الذي حصد العديد من الجوائز داخل المغرب وخارجه، وتمحور موضوعه حول شخص هامشي ضاع منه كلبه وقرر الذهاب للبحث عنه، وذلك لأن كمال لزرق أثناء بحثه عن الأماكن المناسبة لتصويره انبهر بما تزخر به الدار البيضاء ليلا من فضاءات وشخصيات وديكورات طبيعية وغير ذلك وقرر أن يكتب سيناريو أول أفلامه الروائية الطويلة (عصابات) بأحداثه المشوقة التي تجري في عوالم ليلية مشابهة إلى حد كبير لعوالم “مول الكلب”.
من نقط القوة في هذا الفيلم، الذي صورت أغلب مشاهده بكاميرا محمولة على الكتف في ستة أسابيع أواخر سنة 2022 وبطاقم تقني محدود، الكاستينغ والتشخيص والمونتاج والتصوير والموسيقى وإدارة الممثلين والنهاية المفتوحة وتماسك البناء الدرامي للسيناريو. ففيما يتعلق، مثلا، بالمقاطع الموسيقية المصاحبة لبعض المشاهد لاحظت أن اختيارها كان موفقا إلى حد كبير لأنها أضافت إلى الصورة والإنارة وأداء الممثلين بعدا مكملا في التعبير عن حالات نفسية معينة، خصوصا وأن التي وضعت هذه المقاطع، وهي مخرجة ومؤلفة موسيقية في آن واحد، نجحت في استيعاب عمق الشخصيات والحالات النفسية التي عاشوها أثناء رحلتهم الليلية، حيث اكتفت بآلتين موسيقيتين فقط في إنجازها لموسيقى تصويرية أصلية بسيطة، بساطة بطلي الفيلم، وعميقة ومنسجمة مع ما مرا به من أحداث وتجارب.
ورغم تمطيط بعض المشاهد، يمكن القول إجمالا أن مونطاج الفيلم فيه توازن مقبول لأن إيقاعه سريع أحيانا وأقل سرعة أحيانا أخرى، تتحكم في ذلك طبيعة الأحداث وكثافتها، ولعل هذا ما يشد انتباه المتلقي ويبعد عنه الشعور بالملل. أما نهاية الفيلم فهي مفتوحة على مشهد كلب يعثر في القمامة داخل أكياس سوداء من البلاستيك على ذراع آدمي مفحم، يحتمل أن يكون ذراع قاتل كلب الديب، رئيس العصابة الذي لجأ إليه حسن وعصام في الأخير ليجد لهما طريقة مناسبة لإخفاء الجثة تتمثل في تقطيعها ورميها في فرن. فمشهد هذا الكلب في نهاية الفيلم وهو يمشي في الشارع وبين فكيه هذا الذراع له أكثر من دلالة، وقد يثير جملة من التساؤلات لدى المتلقي اليقظ من قبيل: أليس هناك عقاب للمشاركين في عملية التنكيل بجثة إنسان ميت عبر تقطيعها وحرقها؟ من يتحمل حقا مسؤولية هذا العمل الإجرامي الشنيع؟ ألا يمكن اعتبار كل المحاولات في إخفاء الجثة محاولات فاشلة نتج عن إحداها اختفاء أو موت بحار شيخ في البحر؟…
يبدو أن المخرج كمال لزرق، من خلال مشاهدتي لفيلميه “مول الكلب” و”عصابات” قد وجد الأسلوب المناسب له في إخراج الأفلام، وهو أسلوب يميزه عن غيره، رغم أن فيلموغرافيته لا تتكون لحد اليوم إلا من ثلاثة أفلام فقط هي تباعا: “دراري” (2011) و”مول الكلب” (2013) و”عصابات” (2023). ففي كل هذه الأفلام يحضر البعد الوثائقي بقوة في مقاربته السينمائية للمواضيع التي اشتغل عليها. ولعل من تجليات هذا البعد اعتماده الأساسي على ممثلين غير محترفين في الأدوار الرئيسية مع الإستعانة بممثلين محترفين في الأدوار الثانوية، كما حصل مع حسن بديدة وعبد الله بنسعيد وصالح بن صالح وعبد الله لبكيري ومحمد خربوشي ومحمد احميمصة وغيرهم في فيلم “عصابات”. ففي تصريحاته الصحافية، التي واكبت العروض المختلفة لهذا الفيلم الأخير، أكد لزرق على أنه يجد مساحة حرية كبيرة في تعامله مع الممثلين غير المحترفين لا يجدها في تعامله مع ممثلين محترفين، وذلك لأنه يقوم ببناء شخصيات أفلامه من الصفر عند مرافقته لأناس عاديين (عبد اللطيف المستوري وأيوب العايد نموذجان)، حيث يمنحهم الحرية ليعبروا عن أنفسهم بطريقتهم الخاصة، التي لا تكون أحيانا بعض تفاصيلها مكتوبة على الورق بل معاشة من طرفهم في محيطهم الإجتماعي، ومن هنا تظهر تلقائيتهم في الأداء وحواراتهم العفوية المناسبة لوضعيتهم الإجتماعية أكثر صدقا وإقناعا للمتلقي من الحوارات المكتوبة التي لا تخلو أحيانا من تصنع وبعد عن الواقع الملموس.
تجدر الإشارة، في الأخير، إلى أن كمال لزرق، المزداد سنة 1984 بالدار البيضاء والمتخرج من المدرسة الوطنية العليا لمهن الصورة والصوت (La Fémis) بباريس سنة 2011 (شعبة الإخراج) بعد أربع سنوات (2008- 2011) من التكوين العملي (أساسا) والنظري، مخرج سينمائي واعد يمكن المراهنة عليه مستقبلا للدفع بالتجربة السينمائية المغربية إبداعيا إلى الأمام. فهو لم يدخل عالم السينما بالصدفة، كما فعل البعض، وإنما كانت له رغبة سابقة لممارسة مهنة فنية لم تكن واضحة في ذهنه من قبل. مارس الكتابة في بداية الأمر والتصوير الفوتوغرافي أيضا، وعندما قدم إلى باريس وعمره 18 سنة، بعد حصوله على البكالوريا الفرنسية (تخصص علوم اقتصادية واجتماعية) بمسقط رأسه، فتحت أمامه إمكانيات أوسع لمشاهدة أفلام سينمائية مختلفة، خصوصا أفلام سينما المؤلف والأفلام التجريبية، في قاعات “فن وتجربة” والخزانة السينمائية وغيرها. وفي إطار البحث عن الذات اكتشف أن السينما هي الفن الذي يناسب ميولاته وقدراته الإبداعية الكامنة التي كانت في حاجة إلى انبثاق، ومن هنا غير اتجاه دراسته الجامعية من العلوم القانونية والسياسية إلى مهن الصورة والصوت. ولعل أول تكوين سينمائي مكثف تلقاه كان إبان مرحلة استعداده لاجتياز مباراة الدخول إلى مدرسة “لا فيميس”، وهي المرحلة التي استغرقت نصف سنة قريبا آل على نفسه خلالها أن يشاهد أكبر عدد من الأفلام من مدارس سينمائية مختلفة وقراءة ما أمكنه من أدبيات السينما وكتابة محاولات سيناريستية. ولعل المشاهد لفيلمه “عصابات” يعثر على مرجعيات سينمائية تنم عن تأثره ببعض الأفلام والتجارب، من قبيل فيلم “سارق الدراجة” لفيتوريو دي سيكا، أحد رواد الواقعية الجديدة في السينما الإيطالية. لقد لفت كمال لزرق الأنظار إلى موهبته في الكتابة والإخراج منذ فيلمه الأول “دراري” (41 دقيقة)، فيلم التخرج من المدرسة المذكورة، الذي يحكي عن يوميات صداقة بين شابين ينحدران من وسطين اجتماعيين متباينين: غالي من أسرة بورجوازية ومحمد إبن بستاني، حيث مثل به “لا فيميس” في مسابقة “سيني فونداسيون” بمهرجان “كان” وحصل على الجائزة الثانية. كما حصل به أيضا على الجائزة الكبرى للفيلم القصير بالمهرجان الدولي للفيلم “Entrevues” ببلفورت (Belfort) بفرنسا سنة 2011.