جديد منشورات مؤسسة أبو بكر القادري للفكر والثقافة احتفاء بسيرة الأستاذ أحمد اليبوري

استطاعت مؤسسة أبو بكر القادري للفكر والثقافة ترسيخ نهجها القويم داخل تربة تلقي العطاء الثقافي والإبداعي والمعرفي ببلادنا، عبر الانتقال إلى تعميم نتائج أعمالها ومنتدياتها وندواتها من خلال اقتحام مجال النشر الورقي الواسع. لقد أدركت هذه المؤسسة التي رأت النور سنة 2009، أن تحقيق الإشعاع المعرفي الذي كان يُؤسس له مؤسسها ورائدها الفقيد أبو بكر القادري، لن يتحقق إلا من خلال الانتقال إلى العمل المؤسساتي الكفيل بصيانة ذاكرتها الراهنة المُتجسدة في أعمالها وفي مشاريعها وفي مبادراتها. ونتيجة لذلك، ازداد الوعي ترسخا بمحدودية فعل التقوقع على الذات، حيث يبقى الحوار نخبويا بين الفاعلين بشكل محصور جدا، الأمر الذي لا ينسجم مع أفق تلقي المعرفة الذي اشتغل عليه المجاهد أبو بكر القادري، منذ انطلاق مشروعه التربوي التحرري المتمثل في «مدرسة النهضة» كواجهة مبادِرة ضد مشاريع التدجين الاستعماري، ثم خلال كل مجهوداته خلال مرحلة الاستقلال، من موقعه كفاعل سياسي، وكمثقف أصيل، وكعالم مشارك، وكرجل تربية وتعليم بامتياز.
قد تنعقد ندوات هنا وهناك، وقد تلتقي نخب المجتمع لتدارس هذه القضية أو تلك، وقد تنجح قطاعات المفكرين في توسيع مداركها ومعارفها في هذا المجال أو ذاك. ومع ذلك، تظل حصيلة التراكم المنجز حبيسة ظلام الأرشيف. لذلك، كانت مبادرة مؤسسة أبو بكر القادري للفكر والثقافة بالانتقال إلى النشر الورقي خطوة رائدة، لا شك وأنها تساهم في صيانة ذاكرة حاضر العطاء الثقافي والمعرفي، ومدخلا للإنصات لنبض القارئ والمثقف والطالب وعموم المهتمين والفاعلين في قضايا النشر الثقافي المبادر. ومن هذه الزاوية بالذات، تنبثق الأسس الاحترافية في التوثيق لإبدالات المشهد الثقافي الراهن، وفي تخصيب التراكم البيبليوغرافي الضروري لكتابة حلقات التاريخ الثقافي لمغاربة اللحظة الآنية.
في إطار هذا التصور العام، يندرج صدور كتاب «أحمد اليبوري والأدب المغربي»، ضمن منشورات مؤسسة أبو بكر القادري للفكر والثقافة، سنة 2023، في ما مجموعه 311 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. يحتوي الكتاب على مجموعة من الشهادات ومن الدراسات التي ساهم بها أصحابها في حفل تكريم الأستاذ أحمد اليبوري الذي سبق أن نظمته المؤسسة الناشرة للكتاب. ويحتوي القسم الثاني من الكتاب على سلسلة من المحاضرات التي ساهم بها لفيف من المفكرين المغاربة في أنشطة مختلفة سبق أن نظمتها مؤسسة أبو بكر القادري في مناسبات سابقة، وتناولت قضايا فكرية تأملية متنوعة ذات صلة بتحولات أنساق الحياة العامة بالمغرب، سياسيا واقتصاديا وثقافيا واجتماعيا وفكريا.
ويبدو أن اختيار المؤسسة لسيرة الأستاذ أحمد اليبوري ليكون المحور المركزي لباكورة منشوراتها، اكتسى سمة رفيعة للاعتراف بالقيمة الرمزية وبالوضع الاعتباري لشخصية المحتفى به، من موقعه كأحد خريجي «مدرسة النهضة» وكأحد أكبر رموز العطاء المعرفي الجامعي المغربي المعاصر في مجال الدراسات النقدية الأدبية المتخصصة. ولعل هذا ما اختزلته الكلمة التركيبية التي افتتح بها الأستاذ شعيب حليفي مداخلته، عندما قال: «استطاع أحمد اليبوري، خلال مسيرته الطويلة في الثقافة والبحث العلمي، أن يكون مثقفا متعددا ومؤثرا كما مساهما فاعلا في كل التحولات الأساسية في الثقافة المغربية، بحيث لا يخلو يوم من ذكر اسمه مرتبطا بأفكاره وبحوثه ومواقفه في واحدة أو أكثر من ثلاث عشرة جامعة بالمغرب تدين له بالشيء الكثير، ممن تتلمذوا على يديه بسلا ثم فاس وبالرباط منذ ستينيات القرن الماضي وعلى مدى أزيد من أربعة عقود بشكل مباشر، أو ممن نهلوا من معارف كتبه النقدية ومن مقالاته ومناقشاته ومما نشره طلبته من بحوث أشرف عليها أو ناقشها. إنه مدرسة لنشاط معرفي متوهج، يُحقق فعلا ثقافيا في سيرورة متنامية، لا يخبو أو يتراجع، لذلك لا يحتاج أحمد اليبوري إلى مناسبة للحديث عنه، فهو كتاب مفتوح، صفحاته مشعل للاستنارة والحداثة وسبيل لحرية الفكر وجديته لخدمة الإبداع الحقيقي والجذري المرتبط بالصيرورة الثقافية والتاريخية وبسمو التخييل، ومتصل بالبحث في أصوله العلمية والمنهجية التي لا تفصم عراها عن الإنسان والمجتمع والتاريخ مازالت هي الضوء الذي تستنير به الجامعة المغربية، خصوصا في المنهج والنقد الروائي والدرس الأدبي الحديث…» (ص ص.11-12).
وبهذه الصفة، أصبح الأستاذ أحمد اليبوري رائدا بامتياز في مجالاته المخصوصة، إذ برزت قيمة وضعه الاعتباري في مستويات ثلاثة متداخلة، جمعت بين البعد الإنساني في شخصيته أولا، وبين البعد الأكاديمي التخصصي ثانيا، ثم بين البعد النضالي عبر واجهة عطائه كمثقف عضوي منخرط بالكامل في تحولات اللحظة المغربية ومنعرجاتها الحاسمة ثالثا. ولعل هذا ما أدركت أبعاده مجمل المداخلات والكلمات المدرجة في الكتاب، والتي استطاعت الاحتفاء بطريقتها الخاصة بسيرة الأستاذ اليبوري، ناقدا وأديبا وفاعلا مدنيا، وقبل ذلك، إنسانا بأخلاق سامية وبنبوغ سير ذاتي ترك بصمات ناصعة على الكثير من مجالات تلقي الآداب والمعارف ببلادنا. ولعل هذا ما أبرزت تفاصيله مداخلات الأساتذة شعيب حليفي، وإبراهيم السولامي، وعبد الفتاح الحجمري، وسعيد جبار، ونجيب العوفي، وأحمد بوحسن، وسعيد بنكراد.
وفي القسم الثاني من الكتاب، نشرت مؤسسة أبو بكر القادري للفكر والثقافة، سلسلة محاضرات سبق لأصحابها أن ساهموا بها في منتديات سابقة للمؤسسة. في هذا الإطار، نجد دراسة لمحمد الإدريسي العلمي المشيشي حول مفهوم المواطنة، وأخرى لمحمد سبيلا حول نفس الموضوع، ومداخلة لأحمد بوكوس حول موقع الأمازيغية داخل خطابات الهوية والمواطنة، ثم مداخلة لعبد السلام الشدادي حول الإشكالات الراهنة بالمغرب المرتبطة بقضايا الهوية والمواطنة. وقدم محمد ضريف مساهمة حول العلاقة بين السلفية والسياسة من خلال التجربة المغربية. وتوقف عبد السلام الشدادي عند المنعطفات الثلاثة في بناء الدولة الحديثة بالبلاد العربية. وفي نفس السياق، اهتم أحمد الخمليشي بالبحث في جذور عوامل تعذر بناء الدولة الحديثة في العالم الإسلامي. وتوقف عياض بن عاشور عند مشروعية الناموس الديمقراطي في مواجهة التطرف الديني. وتناول محمد الصغير جنجار معالم أزمة التعليم الديني وتحديات تدريس الدين في المجتمع المغربي المعاصر. وفي نفس السياق، سعى عبد السلام بنعبد العالي إلى مقاربة أبعاد التطابق المفترض بين المنظومة التعليمية وتطور المعرفة. وتوقفت منية بناني الشرايبي عند الابتكارات السياسية للوطنيين الشباب المغاربة في ثلاثينيات القرن الماضي. وفي مداخلة تشريحية، اهتم خالد القادري بالبحث في معيقات التطور بين انعدام مصداقية النخب الفاعلة وبين «الوعكة المؤسساتية» القائمة. وعاد عبده الفيلالي الأنصاري لتقديم مقاربته لمسألة التعدد اللغوي بالمغرب. وسعى خالد القادري – في مداخلته الثانية – إلى رصد التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العالم العربي بين إعادة إنتاج الأزمات والتشكيك في الخيارات البديلة. وفي سياق موازٍ، قدمت المداخلة الثالثة للأستاذ خالد القادري رؤية تركيبية مستلهمة لتجارب الجهاد الوطني من أجل المعرفة، في سياق واقع التدافع الذي ميز أداء الحركة الوطنية في سعيها لمواجهة غطرسة التدجين الاستعماري، تعليميا ومؤسساتيا واجتماعيا وسياسيا.
وبهذه المواد الثرية والمتنوعة، وضعت مؤسسة أبو بكر القادري للفكر والثقافة، أرضية صلبة لتحقيق الإشعاع المعرفي المنشود، بعيدا عن التباسات خطابات الصالونات المغلقة، وقريبا من عمق تجربة التأصيل التربوي والتجديد المعرفي والسلوك المواطناتي. وهي صفات تشكل منطلقات أساسية لترشيد الفعل المدني المعطاء والمنتج داخل مجالات الاشتغال المعرفي والثقافي لمغاربة الزمن الراهن.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 16/02/2024