نظمت مكتبة الموكَار بمدينة أكادير يوم السبت 2 مارس الجاري، لقاء لتقديم وتوقيع الجزء الثاني من كتاب « بوح الذاكرة وإشهاد الوثيقة، من مذكرات امبارك بودرقة (عباس) بحضور المؤلف امبارك بودرقة».
وفي ما يلي ننشر الورقة التقديمية التي قدمت خلال هذا اللقاء من طرف الدكتور عبد القادر ملوك نائب عميد كلية اللغات والفنون والعلوم الانسانية بأيت ملول جامعة ابن زهر.

«بداية أتوجه بجزيل الشكر وعظيم الامتنان لمكتبة الموكَار وللقائمين عليها، من جهة، على حفاوة الاستقبال وطِيب اللقاء في مكان عَبِقَ برائحة الكتب قدِيمها وجديدها، في مبادرة لابد أن تُذكر فتُشكر لأن من شأنها أن تذكي جذوة العلم والمعرفة وترفع من رصيد الثقافة وتزيد من منسوبها في هذه المدينة العامرة؛ ومن جهة ثانية، لأنها منحتني شخصيا فرصة تجديد اللقاء بالأستاذ امبارك بودرقة الذي جالستُه من قبل غير ما مرة رفقة الصديق العزيز المؤرخ الطيب بياض، كان آخرها بمكتب السيد عميد كلية اللغات والفنون والعلوم الإنسانية بأيت ملول.
لهذه الأسباب مجتمعة، أجدني سعيدا بأن نلتئم في هذه الأمسية الطيبة لتقديم كتابٍ والاحتفاء بصاحبه؛ أما الكتاب فهو كما تعلمون يستكمل مسار بوح الذاكرة وإشهاد الوثيقة في جزئه الأول الذي جاء بعنوان «أحداث 03 مارس 1973»، بجزء ثان يحمل عنوان: من حلم الثورة إلى فضاء حقوق الإنسان». وأما صاحب الكتاب فهو، كما لا يخفى عليكم، إحدى القامات السامقة في عالم السياسة والنضال، يتعلق الأمر بالفاعل السياسي والمناضل الحقوقي امبارك بودرقة (عباس)، العضو السابق بالمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان وكذا بهيئة الإنصاف والمصالحة ورئيس فريق التحريات داخلها وعضو لجنة تنفيذ توصياتها.
الأستاذ بودرقة في مسعاه النبيل لحفظ ذاكرة المغرب الراهن في جوانبها وأبعادها المتعددة، آثرَ الوفاء لذكرى وذاكرة رفاقه في النضال قبل نفسه؛ فرصد في البداية ذاكرة الصحافة المغربية عبر تجميعه وإصداره، منذ سنة 2016، لملحمة «رسالة باريس» (سبعة أجزاء حتى الآن) التي تمثل إرث وتراث الصحافي الكبير والكاتب الألمعي الراحل محمد باهي حرمة؛ ثم أتبعها بذاكرة العدالة الانتقالية من خلال إصداره سنة 2017، بالاشتراك مع المرحوم الأستاذ أحمد شوقي بنيوب، لكتاب «كذلك كان» الذي تضمَّن معطيات مهمة عن تجربتهما داخل هيئة الإنصاف والمصالحة بما لها وما عليها.
ولم يتوقف الأستاذ بودرقة عند هذا الحد، بل استمر في إلحاحه على المرحوم الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي لإقناعه بإصدار مذكراته، وهو ما تم بالفعل، حيث خرجت هذه المذكرات إلى النور سنة 2018 تحت عنوان معبِّر: «أحاديث في ما جرى». ههنا أدرك الأستاذ «عباس» أنه قد آن الأوان ليتفرغ لذاكرته الخاصة، بأن يُفرغ ما اكتنز بداخلها من أحداث وما تراكم على جدرانها من وقائع على مدار عمر مديد من النضال السياسي والحقوقي ليجعله مشاعا بين الناس، وعيا منه بأن هذه الذاكرة هي في النهاية جزء من الذاكرة الجمعية للمغاربة حتى وإن عيشت بضمير المفرد. وقد حملَ هذه التجربة الغنية والمهمة من تاريخ المغرب سِفران كبيران، يؤشران على تجربة غير مسبوقة في تاريخ المذكرات بالمغرب، جاء أولهما بعنوان «بوح الذاكرة وإشهاد الوثيقة: أحداث 3 مارس 1973» نُشر سنة 2020، وجاء الثاني بعنوان «بوح الذاكرة وإشهاد الوثيقة: «من حلم الثورة إلى فضاء حقوق الإنسان»، خرج إلى المكتبات سنة 2023.
هذا البوح الأخير هو الذي سيكون موضوع حديثنا في هذه الأمسية الطيبة، وعنه يمكنني القول، باقتضاب شديد، بأنه يرصد المسار الحقوقي بالمغرب الراهن من زوايا ثلاث:
زاوية الفاعل السياسي: عبر رصد جملة التحولات والتقلبات التي طرأت على مواقف ثلة من الفاعلين السياسيين إثْر ما توارد من أحداث في تاريخ المغرب؛
زاوية المؤسسات والهيئات الحقوقية: من خلال تتبع مسار تطورها، وتسليط الضوء على جملة العوامل والدوافع التي كانت وراء الانتقال من المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان إلى هيئة الإنصاف والمصالحة؛
زاوية السياسة الحقوقية في المغرب: عبر رصد مسار تطور الحقوق والمكتسبات المرتبطة بالحريات السياسية والنقابية.
ولعل ما يستوقفنا في العرض الذي قدمه الأستاذ امبارك بودرقة لهذا المسار الثلاثي الأبعاد في كتابه، فضلا عن عمق المضمون وجزالة اللغة وانسيابية الأسلوب، والتي هي عناصر يقف وراءها مناضل موثوق يتمتع بذاكرة قوية (عباس) ومؤرخ يتقن صنعة الكتابة ويمتلك قلما مميزا ودقة في التدبيج (بيّاض)، أقول إن ما يستوقفنا في الكتاب موضوع الحديث، هو منسوب الجرأة المدعوم بإشهاد الوثيقة وتأطير المؤرخ، احتراما للتاريخ واقترابا به من العلمية والموضوعية اللتين ترفعان الكتاب إلى مقام الوثيقة التاريخية التي يمكن الركون إليها في تفسير الكثير من الأحداث والوقائع التي شهدتها فترة معلومة من تاريخ المغرب ومن ذاكرة المغاربة».