إذا كان باسترناك، في ما أحسب، قد قال:»إن الكتابة ألم، والاسترسال فيها عذاب ولذة»، فإن القراءة كذلك، لأنها الوجه أو القفا للكتابة أو هي إياها. وبَدَهٍي أن القراءة، منظوراً إليها من منطق هذا الفهم، لا تنفصل، البتة، عن عذاب الكتابة، أو لذتها الممزوجة بالألم. وهل هناك لذة بدون ألم؟، أقصد أن مفهوم القراءة الحق يتنزل ميدان الأجناس الأدبية مسلحا بذخيرة ومرجعيات فيتماهى مع الكتابة/الكتاب، أيّا كان لبوسها وهو يتلقاها ويستقبلها لأنه يمنحها من دمه مابه تتحقق، فيملأ البياضات، ويسد الشقوق. ومن ثمة، فالقراءة صنو الكتابة، ومنتج للنص الموازي.
تقصدت هذه التوطئة لأقول بأن القراءة انكتابٌ في الصيرورة الحياتية، وانوجادٌ في السيرورة الوجودية؛ بها يكون معنى الكينونة، والتوازن أو مابه نستقوي على الفراغ والضحالة باللون والماء والامتلاء. وبها نحيا متعددين، متكثرين تخترقنا جغرافيات وسلالات ولغات وآلام وآمال ومصائر.
وليس من شك في أن الكتب التي تستهوينا، وتستقطب اهتمامنا، وتَسْترْعي انتباهنا، وتَخُضُّ دمنا، هي أكثر من أن تحصى، وأكثر من أن تأتي عليها الأماني والرغائب، فالعمر قصير، والمرء مشتت بين أكثر من اهتمام واشتغال وانشغال. ومع ذلك، فإننا نهوى ما تَشُوقُه وتسعى إليه الروح، وما يدخل في صميم النزوع والتوجه الذي ارتضيناه مسلكا، وامتطيناه سبيلا لاَحِباً إلى ما نروم، وما نشأت عليه النفس، ورَغَّبْناها فيه، علما كان أم أدبا أم نقدا أم مجالا آخر يعتبر من مشمولات المعرفة والثقافة.
وعليه، فقد انخرطت منذ فترة مديدة بكل الطلب والتلمذة في قراءة كتب في الميثولوجيا والتاريخ، لما لذلك من عُلْقة متينة، وعُرْوة وطيدة بالشعر والإبداع.
هكذا قادتني يدي المرتعشة إلى كتاب:»أهل الكهف». ومثلما شدني قبل سنوات، كتاب بالغ الأهمية ذو صلة بالأدب الأوغاريتي القديم ذي العلاقة الضاربة بالكنعانية كأُسٍّ ميثي وتاريخي لشعب سوريا وفلسطين، قبل ظهور العبرانيين، شدني الكتاب المومأ إليه:»أهل الكهف، قراءة في مخطوطات البحر الميت، أو لفائف قمران».
إن العثور على تلك اللفائف/الرمائم، أحدث ما يشبه الزلزال في العالم اليهودي والمسيحي. فالأمر مشابه إلى حد بعيد، لما وقع في شتنبر 1872 حيث تم اكتشاف الأصل البابلي لسِفْر التكوين في بلاد الرافدين من لدن العالم ج سميث.
ومن ثَمَّ، يمكن اعتبار»أهل الكهف» ، لصاحبته الباحثة الفلسطينية هالة العوري، كتابا استثنائيا قمينا بالقراءة، جديرا بالاقتناء، لأنله صلة وثقى بما نحن فيه من صراع حضاري بَلْهَ وجودي مع الصهيونية.
ومن جهة أخرى، فإن الوثائق المذكورة المكتشفة ليست نصوصا دينية بالمعنى الحرفي، ولكنها تضع الدين في سياقه التاريخي، وتضيء أحداثا عُتٍّمَ عليها لقرون استطالت. ويشار إلى أن المؤسسات العلمية الغربية العتيدة التي نفضت الغبار عن هذه الوثائق منذ أواخر الأربعينيات من القرن المنصرم، فرضت حصارا محكما على حقيقتها لقرابة أربعة عقود، ربما لأنها تكشف عن التحالفات المضادة في مواجهة ما جاء به السيد المسيح من تعاليم، ومثل وقيم رفيعة.
ومهما يكن، فإن «مخطوطات البحر الميت»، هي عبارة عن مكتبة عامرة تحتوي على نصوص توارتية، فضلا عن كتابات تلك الجماعة الخاصة تاريخئذ، التي تساعد على إيضاح ما شهدته أرض فلسطين من أحداث لفها الغموض والتلبيس. كما تقدم الوثائق/المخطوطات، فلسطين كوجود تاريخي حقيقي، وتضع الشخصيات – أيا كانت مكانتها الدينية- في سياقها التاريخي، وفي مواجهة الشخصيات والمؤسسات الفاعلة في القرن الأول للميلاد- مما ساعد على تشكيل نسيج تاريخي بالمعنى الدقيق.
فهذه المخطوطات البالغة الأهمية، جزء من إرثنا الثقافي العربي، كما تقول هالة العوري، وجزء من تاريخ المنطقة. وما تدفق من الكهوف ولا سيما الكهف رقم أربعة، يشكل تحديا لدراسات العهد القديم.
والحقيقة السافرة، الآن، بناء على ما كشفته الوثائق، أن نسخة العهد القديم سواء التوراة العبرية المعروفة بالسبعينية، والماسورا اليونانية، قد جاءتا بالاختيار الذاتي والحر، مما يفسر اختلافهما، ويقود بالحتم، إلى مساءلة حقيقة العهد القديم، ومدى صدقيته ووفائه للحظته الزمنية، ونسقه اللساني، ونظامه اللغوي-الفكري، وتحريف رؤى أنبيائه؟. ويقود من ناحية ثانية، إلى القول بأن العهد القديم بجمال بنيانه الاستعاري، ولغته الشعرية الفاتنة، لم يكن سوى أمشاج من نطف الكنعانية والبابلية والسومرية والمصرية، تَخَلقَتْ على يد العبرانيين بعد السبي البابلي، وبعد زمن التيه .
أما مكان العثور على هذا الكنز الأثمن، فيقع بمحاذاة البحر الميت على بعد بضعة أميال من أريحا، تعرف حاليا بقُمْران.
وأما أبطال واقعة الاكتشاف، فهم من عرب التعامرة، وقد حدث ذلك بالصدفة المحض عام 1947 و 1948م.
وأما بعد، فإن الكتاب ذو أهمية قصوى. وأما طريقة بسط موضوعه ففادحة العمق، مشرقة البيان، ناصعة الديباجة، يسيرة المأتى، تضع صُوى شديدة الإضاءة والإشعاع في الطريق لمن يريد أن يتعرف على اكتشاف خطير، أحدث زلزالا في مؤسسات الغرب قاطبة.
ففي هذا الكتاب – وكما يقول قفاه:لأول مرة في اللغة العربية، سوف يعثر القارئ على عرض عميق وشامل لسيرة هذه المخطوطات ومحتوياتها منذ واقعة الاكتشاف المثيرة الأولى، والحصار الذي ضرب حولها، وصولا إلى ما فجرته محتوياتها من خلافات حادة في الأوساط الدينية انطلاقا من حقيقة: «تهويد المسيحية»، في بلاد الغرب.
إشـارة
ــ كتاب (أهل الكهف) صدر عن دار رياض الريس العام 2000 م. وهو كتاب لا غنى عنه، للوقوف على أراجيف الصهاينة والمستشرقين الكولونياليين، في إدعاء سَبْقِهِمْ إلى الأرض الفلسطينية تاريخيا ودينيا.
فالكتاب يسقط هذه التُّرَّهة ويدحضها بالحجة التاريخية، وباللفائف البالغة الأهمية التي عثر عليها بمحض المصادفة. ولعل بعض مفاصل التاريخ الانعطافية، كما لا نحتاج إلى بيان، هي من صنع الصدف !.