أثار انتباهي عنوان محاضرة تحت عنوانين مختلفين، واحد بلغة الضاد: „قيم الطهارة والنجاسة ومعيار التنظيم القانوني للآداب العامة. نماذج فلسفية أنجلوساكسونية وأمثلة تطبيقية من المغرب“، والآخر بلغة فولتير: „ Le profane et le sacré. Régulation juridique des moeurs et de la morale publique». والمحاضرة من تنظيم المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون، قسم الدراسات الإسلامية، بتاريخ 4 مارس 2024.
استدعي للمحاضرة أستاذ مغربي يدرِّس الفلسفة – أتورع عن ذكر أسماء هنا، ولا حتى اسم المؤسسة الجامعية التي يشتغل فيها-. وسبب إثارة انتباهي هو أن دخول مشتغل بالفلسفة مغربي في مستنقع جريمة ذبح الفلسفة المغربية على محراب الرذالة اللغوية والترجمة، قد يكون دخولا لسبب في نفس يعقوب. والأمر لا يتعلق بمضمون المحاضرة وما جادت به قريحة السيد المحاضر على مسامع الحضور، بل بسمعة الفلسفة المغربية المعاصرة، واجتهادات فيالق من المفكرين المغاربة للذود على الفلسفة وتطويرها في المغرب، إلى درجة اعتبارها حاليا رائدة الفكر الفلسفي العربي بكل المقاييس وعلى كل الأصعدة، وبشهادة إخواننا في المشرق العربي، بما فيهم التونسيين أنفسهم؛ الذين اندهشوا لا محالة للطريقة المنحطة التي قدمت بها الفلسفة المغربية بقسم الدراسات الإسلامية، بالمجمع الآنف الذكر.
لا يمكن أن تمر هذه «الجريمة» في حق الفلسفة المغربية في صمت، لأنها لم «تُقترف» من طرف متطرف إسلاموي أو هاو للفلسفة أو متطفل عليها، بل من طرف متمرن عليها لأكثر من 40 سنة، وفاعل فيها، منذ خطواته الأولى في مدرجات كليات الفلسفة في المغرب. والعنوان في حد ذاته، وبغض النظر عن الفرق الظاهر بين الصيغة العربية له والصيغة الفرنسية، مستفز لكل مفكر حر: فالطهارة تقابل النجاسة في العنوان بالعربية، ومن تعلم ولو بصيصا من تحليل الخطاب والعمق السيميائي للأمور، لا يمكن ألا يستنتج – بمراعاة الجهة المنظمة- بأن استعمال هذين المصطلحين هو استعمال غير بريئ بالمرة، لأنه يصب من جهة في خانة الفكر اللاهوتي، ومن جهة أخرى يوصل التقابل بين هذا الأخير والفكر الفلسفي إلى أوجه، إذا اعتبرنا بأن التقابل المذكور أعلاه يعني اعتبار الفكر الديني «طهارة» – وهذا أمر وارد في أدبيات فقهاء الحيض والنفاس-، واعتبار الفكر الفلسفي «نجاسة»، وهذا هو التوصيف الذي يطلقه عليه «أعداؤها»، وبالخصوص ممن ينتمي إلى مستنقعات الفكر الديني المتطرف.
يعبر العنوان الفرعي الأول في العنوان العام للمحاضرة: «معيار التنظيم القانوني للآداب العامة» عن إقحام الفلسفة في بحر الخيال، بل يلمس المرء مدى كارثية الأمر، بالحديث عن معيار تنظيم قانوني للآداب العامة، وكأن هذه الأخيرة موضوع رجال قانون متخصصين، وضعوا بنودا قانونية لتحديد الآداب العامة، أي «غمزة» دينية أرثدوكسية محافظة، ولربما متطرفة، لما يعرف بشرطة الأخلاق، كما نعرفها في بعض الدول الإسلامية – وهنا أيضا لا داعي لذكر أسماء-. يكفي هذا الشطر من العنوان للبرهنة على أن المُحاضر يضرب في العمق الفكر الفلسفي المغربي والعربي الإسلامي برمته، لأنه يُرجعه علانية، وبطريقة ملتوية إلى الوراء. فالقانون الوضعي، وهذا ما يوحي به هذا العنوان الفرعي، يصبح خادما، بل حارسا لأخلاق عامة تحلل ما تريد تحليله وتحرم ما تريد تحريمه.
في الشطر الثالث والأخير لعنوان محاضرة لم تعرف البرية نظيرا له في التاريخ الطويل للفلسفة الإنسانية: « نماذج فلسفية أنجلوساكسونية وأمثلة تطبيقية من المغرب»، تتضح الأمور أكثر، ولا يكون في وسع المتمعن لعنوان المحاضرة بالعربية إلا الصبر والسلوان، فقد «نحرت» الفلسفة المغربية على حجر صلب، بل يشعر المرء، بأن الرسالة الأهم في المحاضرة -على الأقل من خلال عنوانها- هي الانتقام من الفلسفة المغربية.
يتحدث المحاضر في هذا الجزء من العنوان عن فلسفة أنجلوساكسونية، ويقزم المغرب في أمثلة تطبيقية، وكأنه مصلح اجتماعي معروف باحتكاكه بالواقع المغربي، للحكم موضوعيا على الآداب العامة التي تحكمه. يعترف للأنجلوكاسونية بالفلسفة، ويمرر مديته الحادة على رقبة الفلسفة المغربية، ويتفرج على رأسها يتدحرج في رمال «الآداب العامة». بكلمة مختصرة ينفي المحاضر في هذا المقطع من العنوان على المغرب «هبة» التفلسف، ويعترف بها للأنجلوساكسونيين فقط.
يسقط عنوان المحاضرة بالفرنسية كالصاعقة على رأس المتمعن فيه، بل تقشعر الأبدان للهوة السحيقة بين العنوان بالعربية ونظيره بالفرنسية. فالمصطلح الفرنسي le profane حمال لمعان مختلفة: الدنيوي، المدنّس، غير الديني، العلماني، رأي غير متخصص إلخ. أما كلمة le sacré فإنها تعني من بين ما تعنيه المقدس، الجليل إلخ. ليس هناك إذن لا نجاسة ولا طهارة في العنوان الفرنسي، وبالتالي نجد أنفسنا أمام افتراض مفاده أن المحاضر قدم محاضرتين مختلفتين في الآن نفسه وفي نفس المكان، يدنس الفلسفة المغربية بيد ويطهر فلسفة أجنبية بعينها بيد أخرى، وكأن لسان حاله يقول: «لا توجد فلسفة في المغرب».
إن الطهارة الفكرية والفلسفية تفرض على المهتم بالفلسفة، كتخصص، أن يكون أيضا طاهرا في فكره ومواقفه وذوده على صرح الفلسفة المغربية، الذي بُني بسواعد رجال أكفاء، ضحوا من أجلها وأوصلوها إلى باب العالمية بمثابرة ونكران للذات قل نظيرهما في مجموع العالم العربي، سواء تأليفا أو ترجمة. أما إذا كان المعني بالأمر من المنتمين إلى حزب «الزردة قريبة ولو في قرطاج»، ولو بتدنيس سمعة الفلسفة المغربية، وسماع أنين أرواح الحبابي والجابري وسبيلا وغيرهم كثير في قبورهم، فإن التاريخ المنير للفلسفة المغربية المعاصرة يرمي بمثل هؤلاء المشتغلين بالفلسفة في سلة المهملات.