حكايات تروى لأول مرة على لسان رواد «الغيوان» 2 : محمد سوسدي يحكي عن « الشمس الطالعة »

نعود بجمهورنا الكريم في هذه السلسلة الرمضانية، إلى بعض من المسارات التي عاشتها الأغنية الغيوانية، والتي إما مرت دون انتباه أو ستسرد لأول مرة، وهي مسارات ومحطات ندونها على لسان رواد المجموعات، والذين منهم من انتقل إلى دار البقاء ومنهم من مازال
بين ظهرانينا يتمم الرسالة والمسير…

 

معلوم لدى المهتمين بالفن الغنائي المغربي خلال فترته الذهبية، أن المجموعة الغنائية التي تعرضت للتعسف والتهديد والوعيد وحتى الاستنطاق بشكل أو بآخر، هي الفرقة الرائدة مجموعة لمشاهب. ففي السياق الزمني اعتبرت لمشاهب في الأوساط السياسية وغيرها، الابن الشرعي لليسار المغربي، بل لسان حاله في المجال الفني، هذا الأمر كان يزعج السلطات كثيرا، ولعل سفر محمد باطما ومحمد سوسدي رفقة الشبيبة الاتحادية إلى جانب أحزاب اليسار المغربي إلى روسيا، في الثمانينيات من القرن الماضي للمشاركة في مهرجان كبير يضم كل ألوان الأدب والفنون، زاد من شكوك السلطات إزاء لمشاهب، خاصة وأن لنجميها علاقات صداقة مع أعضاء في اليسار، وحتى إن كان الأمر عاديا بالنسبة للمشاهب واليساريين، فإن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة للسلطة التي تعرف دورها جيدا وتعلم أن الفنانين، خاصة النجوم منهم، يجب أن تكون دوائرهم محدودة جدا وليس عليهم تجاوز بعض الخطوط في العلاقات، لذلك وفي فترات طويلة من زمن الفن المغربي، كانت المؤسسات المسؤولة عن الثقافة والفنون، تقدم معظم الفنانين، حتى المسرحيين منهم، في المنتديات الفنية المقدمة خارج أرض الوطن، على أساس أنهم مجرد فولكلور وبالمعنى السلبي للفولكلور، لكن جل المجموعات الغنائية كانت ترفض هذا المنطق وهذا التعامل، لذلك نجد أن الغيوان ـ جيل جيلالة ـ لمشاهب …اعتمدت على إمكاناتها الذاتية للسير قُدما في مشوارها ولم تكن تنتظر أي شيء سواء من هذه المؤسسات أو من التلفزيون…
لمشاهب عانت كثيرا من التضييق لكنها كانت تحرج أصحاب فكرة التضييق، ففي الوقت الذي عملت فيه السلطات في أحايين كثيرة على عرقلة المجموعة وأصدرت تقارير سوداء في حقها ومنعت الترخيص لها لإحياء العروض، على غرار باقي الفنانين، يأتيك سوسدي من هناك من بلاد بعيدة فائزا بجائزة عالمية كأحسن صوت في مهرجان موسكو للموسيقى العالمية، عندما غنى أغنية حمودة لوحده حاملا معه فقط البندير للمسابقة التي شارك فيها فنانون محترفون من كل أقطار العالم، وكان سوسدي ضمن وفد من الفنانين الذين دعتهم الشبيبة الاتحادية بهذا المهرجان كي يمثلوا المغرب من جهة وللتعريف بفنوننا من جهة أخرى، وكان ضمن الوفد الفني محمد باطما وأحمد السنوسي بزيز والحاج يونس وسعيد هبال وآخرون … المبعد هنا بمعية رفاقه يحصل لبلده على جائزة كبيرة ومشرفة، ومن أين؟ من بلد يقود المعسكر الشرقي ألا وهو الاتحاد السوفياتي. لم يكن سوسدي ينوي المشاركة في المسابقة لولا تشجيع أصدقائه الفنانين على ذلك في اللحظات الأخيرة قبل انطلاقها. يقول سوسدي في الفصلين التاسع والعاشر من سيرته الذاتية التي أصدرتها بجريدة الاتحاد الاشتراكي:
«لقد عانينا كثيرا، ففي كل مرة هناك حرمان من تنظيم حفل خاص بالمجموعة وتارة يواجهك مسؤول بتهديد أو بالمنع من السفر، وهنا أستحضر طرفة أتذكرها دائما، كنا سنسافر إلى الديار الهولندية للمشاركة في حفل هناك، وكان سيشاركنا فيه الحاج الدمسيري والحاجة الدمسيرية، لكننا سنفاجأ في المطار برجال الأمن يأخذون منا جوازات سفرنا، بمن فينا الحاج الدمسيري، اقتادونا بعدها إلى الحديقة المجاورة للمطار وطلبوا منا المكوث هناك وعدم المغادرة إلى حين إشعارنا، فات موعد رحلتنا وبقينا في ذلك المكان إلى أن أخذ منا الضجر مأخذه، في لحظة من اللحظات تمددنا تحت الشمس وسط الحديقة التي احتجزنا فيها، فهمس الدمسيري في أذني قائلا «وصلنا للمطار وما طرناش» أضحكني قوله رغم ذلك الظرف، لقد نطق العبارة انطلاقا من امتعاض ممزوج بالسخرية … لبثنا بتلك الحديقة من العاشرة صباحا إلى غاية التاسعة مساء، مترقبين ومتسائلين في ما بيننا عن الجرم الذي قد نكون اقترفناه دون أن نشعر به، إلى أن جاء أحدهم وخاطبنا بلغة آمرة: «يالاه سيروا لديوركم» … لم يشرح لنا أحد لماذا منعنا من السفر أو لماذا احتجزنا كل تلك المدة في تلك الحديقة؟ بل اكتفى محدثنا فقط بالعبارة التي أسلفت … عشنا على هذه الحال مدة ليست يسيرة، إلى أن دعانا الملك الحسن الثاني إلى القصر لنغني أمامه، وقد استمتعنا فعلا برفقته، فالرجل تعامل معنا معاملة الأب للأبناء وتجاذب معنا أطراف الحديث وتناقشنا حول الأغاني وقدمنا أمامه من بين ما قدمناه مقطوعة «أمانة» و»مجمع العرب» و»بغيت بلادي» التي طلب منا إعادتها أكثر من مرة، قبل أن يطلب من التقنيين تسجيلها كاملة، لكن المفاجأة هي حين طلب منا غناء أغنية من التراث الصحراوي ! لقد فاجأنا طلبه وأحرجنا، إلا أننا كنا نحفظ، ولحسن الحظ، أغنية أهدتها لنا إحدى الفرق الموريتانية بعنوان «كبايلي الدحميس»، بعدها سألنا عن أحوالنا فحكينا له ما نتعرض له من تضييق، فاستغرب قبل أن يقول « بلادكم هادى تحركوا وتساراو فيها كيف ما بغيتو ما كاينش للي يمنعكم «، فهمنا آنذاك أن اجتهادات فارغة لبعض المسؤولين كانت وراء ما تعرضنا له …
بعد اللقاء بالملك عدنا إلى نشاطنا السابق دون عراقيل، نظمنا جولة في المغرب وأحيينا بعض الحفلات وما إلى ذلك كما سافرنا إلى بعض الدول للمشاركة في حفلات… أذكر أننا سافرنا إلى ليبيا وتلك قصة أخرى، وبعد عودتنا منها كان علينا السفر رفقة ناس الغيوان إلى مدينة غرونوبل الفرنسية للمشاركة في مهرجان دولي ضد العنصرية، وهو المهرجان الذي أقيم في معرض كبير، وقد شارك فيه مشاهير الفنانين من مختلف قارات العالم، دام المهرجان مدة ثلاثة أيام، بدون أدنى توقف ليل نهار وبحضور جماهيري يقدر بالآلاف، لقد كانت لمشاهب متألقة جدا وندا لكل الفرق العالمية، وهذا بشهادة الصحافة الدولية التي غطت فقرات المهرجان، وهنا لن أتحدث عما فعلته الغيوان بالجمهور الحاضر ومدى التألق الذي كانت عليه، سأتحدث عن العربي باطما، فقد صادف أن دور ناس الغيوان حان بعد الفجر بقليل، أي مع بداية طلوع الشمس، كان الصمت يخيم على أركان المعرض وبدأت الشمس تكشف عن ضوئها، ووحده صوت العربي يتجاوب مع هذا الضوء الذي أخذ يسطع باحتشام ويؤنس صوت العربي في تكسير الصمت المخيم على غرونوبل برمتها، وهو يصيح: واه ياديك الشمس الطالعة .. وايلا شفتي ماما حنا .. واكوليها وليدك دموعو ضارعة … الجمهور تجاوب مع موال العربي بتفاعل مع الجو الطبيعي للحظة شمس بدأت في الإعلان عن نفسها وصوت دافئ يفرض الاسترخاء والتتبع لأنه يشد الانتباه، جحظت معظم العيون متتبعة المغني وجمال القائه، ومن جانبي قابلت منظر سطوع الشمس متمعنا في الكلام الذي يلقيه «با عروب» وأنا أفسره في السياق الذي أنا فيه ورفاقي في تلك المرحلة، فنحن قد خرجنا للتو من معاناة التضييق وما رافقها من ترسبات، وكأني بـ «باعروب» كان يغني لنا في تلك الليلة، وكأني به يحتفي بنا ويريد أن يزرع الأمل فينا، وأنا أجزم أنه غنى هذه الأغنية لأجلنا، لأنه كان يعرف ما تكبدناه وماعانيناه، وكان يتألم كثيرا من أجلنا…
كلام سوسدي كان صائبا، فالعربي صرح مرة للإعلام قائلا: « لمشاهب قصة عميقة، عاشوا مراحل متعددة، أنا عندما أسمع للمشاهب أبكي، قد لا يبكي شخص آخر عندما ينصت لأغانيهم لكني أنا أبكي لأني أعرف معاناتهم ومشاكلهم …».


الكاتب : العربي رياض

  

بتاريخ : 13/03/2024