الدار البيضاء …تلك المدينة 2 : ميناء الدار البيضاء … البحر مصدر كل شيء ..من القنابل والدمار إلى الشاي والسكر

ليست الدار البيضاء مجرد مدينة أو حاضرة من الحواضر العادية، بل هي حكاية من حكايات هذا الزمن..مستمرة في المكان والزمان… لم تحكها شهرزاد ولم يتشوق لنهايتها شهريار .. أبطالها ليسوا جان ولا عفاريت، بل هم مجرد أناس عاديون، قذفتهم أقدارهم ليعيشوا وسط دروبها وليصنعوا تاريخها ..مناضلون ومقاومون للاستعمار دافعوا عنها وصنعوا مجدها، وأولياء صالحون حرسوا أحياءها.. سكان من جاليات مختلفة تلاقحت ثقافاتهم وسط أحيائها وأزقتها، أسوار وأبراج وأبواب دكتها مدافع الغزاة لكنها عادت لتقف شامخة تحيط بها، هي ميناء ومصانع ومعامل وعمران وعمارات باسقة وفن معماري متميز، وفرق كرة قدم ومجموعات موسيقية ومسرحية ومؤسسات علمية ومساجد وبيع وكنائس وأضرحة.. يحكون لنا، خلال هذا الشهر الكريم، شذرات من تاريخها التليد وحاضرها الذي يعد بالكثير …

 

 

قبل الغوص في دروب مدينتها القديمة» أو «المْدينة» كما يسميها البيضاويون، والتغلغل وسط أزقتها التي تمتد مثل متاهة لا نهاية لها، لا بد من  الحديث في البدء عن ميناء الدار البيضاء الذي كان ولا يزال حجر الزاوية الذي انطلقت منه نهضتها، فهو سر انبعاثها، وسبب حملها مشعل التقدم الذي تنير به طريق باقي مدن المغرب، كما كان في أواخر القرن التاسع عشر محط الأطماع الأجنبية ومدخلا للاستيلاء عليها وعلى باقي مدن البلاد.
مرسى أنفا الذي كان منشأة مغربية يسيرها مغاربة ومصدرا لمداخيل الدولة في أواخر القرن 19، سيتم ربطه في سنة 1862 بخط بحري قار مع مدينة مارسيليا الفرنسية.. ليتحول في سنة 1880 إلى قطب اقتصادي كبير، وفي سنة 1904  كان مرسى الدار البيضاء الأكثر استقبالا للسفن في السواحل الغربية المغربية، حيث سيقرر السلطان المولى عبد العزيز تشييد ميناء صغير للمراكب والقاطرات مع رصيف ومحلات، لكن بعد مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906 حين ظهرت أطماع القوى العظمى في البلدان الإفريقية ومنهم الفرنسيون الذين كانوا يخططون للاستيلاء على الميناء كمدخل للاستيلاء على المغرب، سيقترحون إصلاحه، وذلك كي يضمنوا استرداد الديون التي أثقلوا بها كاهل البلاد، ومنها القرض الذي قدمته فرنسا للمغرب بموجب اتفاق في 29 ربيع الأول 1322 /12 يونيو 1904 بمبلغ 62500000 بفائدة 5% ، وهو قرض مضمون بمدخول الجمارك المغربية بنسبة اقتطاع قدرها 60%، إلا أن الشروط المجحفة للاقتراض أدت إلى استفحال الأزمة المالية بالمغرب كما أن شرط مراقبة إدارة الجمارك من قبل الدولة الدائنة انتقص من السيادة المغربية مما جعل المغاربة يتماطلون في تنفيذ هذا الشرط إلى سنة  1907، وهو ما أدى إلى حوادث الدار البيضاء، ذلك أن الأهالي رفضوا جلوس المراقبين الأجانب (الكفار) مع الأمناء فنشبت انتفاضة قتل أثناءها تسعة أوروبيين يعملون بالمراسي، وتم طرد الفرنسيين العاملين بها، لكن فرنسا انتقاما لمواطنيها ستعيث فسادا في الأرض وستقتل الآلاف من أهالي المدينة وقبائلها الذين ملأت جثثهم الطرقات، في معركة غير متوازنة وغير متكافئة، استعملت فيها فرنسا أسلحتها المتطورة وبارجاتها الحربية وجنودها المدربين، وسيتحول الميناء القديم إلى أطلال ودمار إثر القصف الدامي،  ال ال  وستستولي فرنسا على الميناء وبالتالي على المدينة.
في سنة 1912 سيبدأ تشييد أكبر ميناء حديث بالمملكة المغربية على الطراز الفرنسي، والذي سيساهم بعد ذلك في ازدهار النشاط الاقتصادي للمدينة متحكما في مستقبلها ليجعل منها أكبر مركز اقتصادي وتجاري ومالي بالبلاد، «كانت أولى رعاية الفرنسيين هي بناء ميناء كبير ..(…) ..كان على البحر أن يلعب دوره الأساسي في تحول المغرب..حيث هو ما حمل للمغرب الرجال والأفكار والأشياء. به ترسخت المبادلات التجارية التي أحيت الاقتصاد الغافي .عبره نقلوا السلع والبضائع وحتى الطاقة (الفحم والنفط)التي كان البلد يفتقدها إلى أبعد الحدود.. كان البحر فعلا مغذي الورش كله».( آندري آدم «الدار البيضاء.. تحول المجتمع المغربي في احتكاكه بالغرب») .
قرار بناء ميناء الدار البيضاء وتجهيزه وجعله أكبر ميناء في البلاد كان سببا في انخراط المغرب في مسار حتمي لفترة طويلة نحو الانفتاح والتطور.. لقد نشط فيه أو بينه وبين المدينة تمركز الصناعات بسبب وجود مركز صناعي اجتذب اليد العاملة الوفيرة مما أدى إلى نمو المدينة  مساهما بذلك في ارتفاع نسبة تمركز السكان وشجع الصناعات على الاستقرار بها والتي ساهمت بدورها في حركية المرفأ..
لقد تم تـأسيس الميناء في مرسى طبيعي يحده من الغرب الحافة الصخرية لرأس العنق ومن الشرق عكاشة، يؤمنه من التضخم رصيف دولور»jetée DELURE «، البالغ طوله 3100 متر، والذي يتمدد وراءه ميناء شبه محمي من حوالي 100 هكتار ..الميناء يحده رصيف دولور ثم رصيف عرضي أو رصيف الفوسفاط طوله 1545 مترا .إن مساحة المياه المحمية من قبل الرصيفين تصل إلى مليون متر مربع، وكان بداية يحتوي على حوضين هما حوض ديلان (DELANE) وحوض (ديلبيط) وهذا الأخير تم تكبيره عام  1950بانشاء ثلاثة حواجز للأمواج: حاجز  صغير اسمه «شي»( Chaix)واثنان رئيسيان هما رصيف التجارة Le) (mole de commerce وحاجز آخر اسمه الحاجز الوسيط.
الكثير من المنتجات المستوردة كانت تهيمن عليها حاجيات ورغبات وعادات وأذواق الجالية الأوروبية المتمركزة بالمغرب، وخصوصا في الدار البيضاء، لقد كانت لهم متطلبات استهلاكية لم تكن متاحة بالبلاد مثل الخمور، السيارات الخاصة،  تجهيزات التبريد المنزلية، كما عكست الصادرات الحضور الأوربي،  فالمستعمرون الأولون غرسوا الكروم لسد حاجيات مواطنيهم كما كان يتم تصدير براميل الخمور ومشتقاتها والشعير والقمح الطري ومعلبات السمك…
في سنة 1926 سيتم استيراد 4700 طن من الشاي الذي عرفه المغاربة قبل الحماية، بعدما كانت الكمية المستوردة 12 طنا سنة 1842 وكان ميناء الدار البيضاء يستقبل قرابة ربع كمية الشاي المستهلكة في المغرب كما ارتفعت واردات السكر من 240 طنا سنة 1869 إلى 136000 طن سنة 1926.
خلال الحرب العالمية الثانية الممتدة بين 1939و1945 سيعرف الميناء جمودا كبيرا بل إنه تعرض للقصف الجوي في العملية المسماة «الشعلة» ما تسبب في تعطيل الحركة التجارية به، غير أن أهم حدث عرفه خلال هذه الفترة وبالضبط  في سنة 1942 الإنزال الأمريكي العسكري بالدار البيضاء وعملية «تورشي»  التي شكلت منعطفا حاسما في مسار الحرب العالمية الثانية…
لقد كان تصميمه ذو الطابع التطوري والحديث سببا في جعل ميناء الدار البيضاء يندمج بسهولة في ما عرفه عالم النقل البحري من تغيرات كبيرة آنذاك ليستمر طوال فترة القرن العشرين وإلى غاية اليوم، خلال القرن الواحد والعشرين، في لعب دوره المحوري، ولا يزال قاطرة التقدم التي بفضلها انبعثت العاصمة الاقتصادية للمغرب.

 


الكاتب : خديجة مشتري

  

بتاريخ : 13/03/2024