على هامش صدور كتاب «جمال الأدب وجلاله»: عبد اللطيف شهبون ..البهاء وعوارفه

 

صدر خلال سنة 2023 كتاب احتفائي هام بالسيرة الذهنية والثقافية والإنسانية الرائعة للرائد الدكتور عبد اللطيف شهبون، تحت عنوان «جمال الأدب وجلاله- دراسات، وقفات وشهادات في بعض أعمال الدكتور عبد اللطيف شهبون»، في ما مجموعه 230 من الصفحات ذات الحجم الكبير. وقد شاركت في هذا العمل المتميز ثلة من الأسماء المنتمية لعوالم الكتابة والنقد والإبداع، مما يشكل سلوكا رفيعا من نوعه في مجال تكريم رواد العطاء الثقافي والعلمي ببلادنا، وإنصافا لتوهج ذاكرة الزمن الثقافي المغربي الراهن، من خلال واحد من أبرز صناعها بمنطقة الشمال. وبهذه المناسبة، نقترح إعادة نشر نص الكلمة الاحتفائية التي كان لنا شرف المساهمة بها في الكتاب، اعترافا بالوضع الاعتباري للأستاذ عبد اللطيف شهبون، المثقف المتميز والفاعل السياسي والمناضل الحقوقي والأستاذ الجامعي، وقبل ذلك، الإنسان الرائع.
لا يمكن الحديث عن الأستاذ عبد اللطيف شهبون بدون الاصطدام بواقع عنيد ومركب، يجعلنا أمام متاهات متداخلة في سيرة الرجل وفي رصيد عطاءاته وإسهاماته ومبادراته. فهل سنتحدث –داخل مدارات شخصيته– عن عبد اللطيف شهبون الباحث الأكاديمي المرموق، أم عن شخصية المثقف المبادر، أم عن نباهة الإعلامي المتميز، أم عن نضج المناضل الحقوقي الأصيل، أم عن رجاحة عقل الفاعل السياسي الرصين، أم عن حيوية الفاعل الجمعوي النشيط، أم عن نسك المريد الذي سلك طريق الأنوار نحو محبة الخالق ونحو مدارج الوجد والحلول…؟ وقبل كل ذلك، هل سنتحدث عن عبد اللطيف شهبون الإنسان والأخ والصديق والرفيق؟
لا شك أن شخصية الرجل تظل من الخصب ومن التنوع بشكل نكاد نعجز – معها – عن الإمساك بتلابيب مقومات هذه الشخصية وبمقومات العطاء والطراوة داخل مجالات إسهاماتها. ومنذ أن عرفت عبد اللطيف شهبون قبل مدة زمنية لا بأس بها، لم أعرف عنه إلا الثبات في الموقف والرجاحة في التفكير والإخلاص في الحب والصبر في استيعاب إكراهات الواقع. فكان الرجل موضع إكبار بالنسبة لشخصي المتواضع، بدليل أني أصبحت أجد فيه الكثير من عناصر ما كنت أبحث عنه من معالم التميز التي تشبع نهمي في اكتساب عناصر بناء الذات. لقد كان أستاذا لي في الكثير من دواليب الحياة، ومنه تعلمت فضيلة الإنصات وميزة التواضع وقيمة الإخلاص. وهي صفات تمشي على الأرض وتثمر دوحة سامقة اسمها عبد اللطيف شهبون، أثمرت فأينعت الكثير من التجارب والمبادرات التي ارتبطت باسم صاحبها، سياسيا وحقوقيا وأكاديميا وإبداعيا وإعلاميا وجمعويا.
وعندما قرر القطع مع مسارات العمل السياسي في إطار انتكاساته الراهنة، اختار الانزواء بعيدا قصد صقل تجاربه داخل المجالات الأخرى التي ارتبطت باسمه، سواء داخل مدينته طنجة، أم داخل جهة الشمال المغربي، أم داخل الامتدادات الوطنية الواسعة. فعلى المستوى الحقوقي، أضحى عبد اللطيف شهبون أحد أبرز صانعي التوجه العام الذي انتظمت فيه تجربة المنظمة المغربية لحقوق الإنسان، بل وكانت له بصمات واضحة في تجربة هيأة الإنصاف والمصالحة أثناء جلسات تجميع الشهادات وتوثيق الانتهاكات. وقد سمحت له هذه التجربة بخوض غمار العمل الحقوقي وفق رؤى تجديدية لا نملك إلا أن نحترم منطلقاتها وثوابتها في إنصاف ذاكرة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بالمغرب خلال مرحلة ما اصطلح عليه –إعلاميا– بسنوات الجمر والرصاص. وفي المجال الأكاديمي، ظل عبد اللطيف شهبون نموذجا للباحث الرصين والعالم المشارك الذي صنع تألقه داخل رحاب جامعة عبد المالك السعدي، ومن خلال إنجازاته العلمية الرفيعة وعلى رأسها أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه حول شعر التستاوتي، والتي عرفت طريقها للنشر وللتداول كما هو معروف. أضف إلى ذلك، أن الرجل ظل يحمل الكثير من المبادرات المتميزة داخل حقل عطائه الأكاديمي، من خلال إصدارته المتواترة ومن خلال إشرافه على العديد من الندوات العلمية داخل كلية الآداب بتطوان وخارجها، ثم من خلال تأطيره لأفواج الطلبة والباحثين، بل إنه تحول إلى مرجع لكل باحث في خبايا التراث المغربي الأندلسي والشعر المغربي وعموم أجناس الإبداع التي راكمها مغاربة المرحلة الراهنة بوجه خاص. وقد عزز ذلك، بانخراط كلي في تجارب الكتابة الإبداعية، من خلال إصداراته الشعرية المتواترة، وعلى رأسها ديوانه «كما لو رآني…» (2007) الذي فتح المجال واسعا أمام تبلور رؤى مغايرة للذات وللوجود، ثم في تجارب الإعلام الثقافي الراشد المحتفي بالذات في تفاعلها مع ملكوت الخلق والوجود، السمو والرقي، العرفان والوجد. وقد جسدت دورية «عوارف» التي يشرف الأستاذ شهبون على هيأة تحريرها منبرا متميزا لتصريف انشغالات الذات بروحانية الوجود، وللتأصيل للرؤى الصوفية المنبثقة عن هذه الانشغالات. وفي المجال الجمعوي، أصبح اسم عبد اللطيف شهبون علامة فارقة داخل زوايا المشهد الثقافي المحلي بمدينة طنجة وبجهة الشمال، من خلال انخراطه في دهاليز المغامرة الجميلة للفعل الجمعوي، عبر إطارات عدة، لن نجد صعوبة كبرى في القبض بتلابيب إسهاماته في نظيمة العطاء والتجديد الجمعويين داخلها، بمدن متعددة من منطقة الشمال. وأستحضر – في هذا الإطار – مستويات دعمه المتواصل لتجربتنا المتواضعة داخل جمعية ابنخلدون للبحث التاريخي والاجتماعي بأصيلا، حيث ظل دائم الإسهام والحضور، بالمشاركة الفعلية وبالتوجيه وبالتقويم. وفي كل مرة كنا نطرق –فيها– باب عبد اللطيف شهبون، كانت إسهاماته تسبق رده، وكانت ابتسامته تؤثث للحظة البهاء الذي ظل ينثره من حوله. هي –إذن– تجارب كثيرة، ربما تستحق أن تكون موضوع تجميع وتأمل وتفكيك، إكراما للرجل وإنصافا لجهوده وتوثيقا لعطاءاته.
وعندما قررنا قبل أكثر من خمس عشرة سنة إطلاق تجربة جريدة «الشمال»، بإسهام ثلة من مبدعي المنطقة وكتابها ومثقفيها من أمثال الأساتذة خالد مشبال وعبد الصمد العشاب وعبد العزيز خلوق التمسماني ورضوان احدادو والبشير المسري والعياشي الحمدوني، كان حضور اسم عبد اللطيف شهبون محوريا في كل ما حققته الجريدة منذ انطلاقتها سنة 1999 وإلى يومنا هذا. ظل عبد اللطيف شهبون يتابع التفاصيل ويقف عند الجزئيات، بل ومارس سلطة الضمير علينا، نحن كتاب الجريدة وأعضاء هيأتها التحريرية. والحقيقة، أنني أعترف أن عبد اللطيف شهبون يظل أستاذي الأول في كل إسهاماتي الإعلامية والثقافية المتواضعة، ويعود له الفضل/كل الفضل في تخصيب هذه الاهتمامات وفي تقويمها وفي تمكينها من عناصر التطور والتميز. ولازلت–إلى الآن– أنفتح على صوت عبد اللطيف شهبون في كل مشاريعي الفكرية والثقافية، ولازلت أستلهم الدروس والقيم التي صنعت/وتصنع كل عناصر البهاء داخل السيرة الذهنية والثقافية لعبد اللطيف شهبون، الإنسان أولا وأخيرا. وأكاد أجزم أنه لم يتحقق إجماع حول الريادة، داخل حضن منطقة الشمال الثقافي، لأحد مثلما حدث مع الأستاذ عبد اللطيف شهبون، حسب ما أكدته مضامين الكتاب الاحتفائي بسيرة أستاذنا الكبير والذي صدر سنة 2008، تحت عنوان «أحاديث على هامش الرؤيا»، تحت إشراف الأستاذين خالد سليكي والزبير بنبوشتى، بمشاركة ثلة من مثقفي منطقة الشمال وكتابها، من أمثال بهاء الدين الطود، وإدريس علوش، ومزوار الإدريسي، وأحمد هاشم الريسوني، وخالد الريسوني، وحسن بيريش، وعبد الواحد الطريس، وفاطمة الميموني، وعلي الورياغلي،…
..وبعد، فلا شك أن شهادتي المتواضعة هاته لا تروم إلا تكريس قيمة الوفاء في التعامل مع ذوي الفضل داخل حقلنا الثقافي الراهن. إنه الوفاء الذي تشربته مع جيل العطاء بلا حدود، جيل الثبات في الموقف، جيل الإخلاص في الانتماء، جيل الحلم المتجدد. باختصار، جيل عبد اللطيف شهبون، المثقف والإنسان.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 14/03/2024