بفضل إضاءات «إدوارد سناودن/Edward Snowden «، سنة 2013، أَحَدُ فاضِحي السِّرِ بِشَأْنِ المراقبة الجماعيَّة الَّتي بَاشَرَتْهَا « الوكالة الوطنيَّة للأمن/ La NSA»، نَعلم أنَّ الملايين من الحسابات البريديَّة الإلكترونيَّة الأمريكيَّة»Messageries»، خَضَعَت لقرصنةٍ مِنْ قِبَلِ هذه الوكالة بتواطؤٍ مِنَ الشَّركات الرقميَّة، «ميكروسوفت» و»آپل» و»غوغل» و» فايسبوك» وأُخريات.
لقد أصبحت « الڭافام «بُوفِيهاً مفتوحاً /Open Bar « للبياناتِ الشخصيَّة أمام الوكالة الوطنية للأمن (صور، مراسلات، فيديوهات، وثائق،)، حيثُ بِمَقدور الوكالة استخدامُ كلِّ ذلك، بكيفيَّة طافحةٍ، شرهة.
وعند التَّدقيقِ في الأمر، أي عند التنبُّهِ، نجد أنَّ الحياة الشَّخصيَّة للجمهورِ العريض، هي من يؤدِّي تكاليف هذا النَّخْب.
لكن، بعد سبع سنوات، ما الوضع الذي نَشْغَلُهُ داخل هذه الثٌّمالة؟ إذا كان الأكثرمعرفةً لا يستطيع أن يُنْكِرَ أنَّه واقعٌ في أيِّ لحظةٍ تحت المراقبة المحتملة، فهل غيَّرت مع ذلك إضاءاتُ «سناودن» عاداتِ الجمهورِ العريض، مُعَزِّزَةً حِسَّ اليقظةِ لديه؟
يتأتَّى سِحْرُ»الڭافام» من إقناعِها للشَّخص بتسليم نفسه إلى المراقبة، مع مَنْحِهِ لذَّةَ التَّلَصُّصِ على الآخرين.
أبداً لم نُخَلِّف آثاراً بمثل هذا القدر داخل الفضاءيْن، العمومي والخاصّ، إلاّ في سنة 2020، والمساعِداتُ الصوتيَّة «كأمازون-إيكو»، أو «غوغل-هوم»، والَّتي كانت لاتزال داخل الدُّولاب وفي مراحل بواكيرها الأولى سنة 2013، باتت مِنَ الآن وصاعداً جزءاً من الأثاث، ما الَّذي يحُولُ دون أنْ نتصوَّرَ أن هذه الأدوات، قد تغدو يوماً مُدْمَجَةً داخل فضاء المنازلِ، شأنُها في ذلك شأن إنذار الحريق، أو مصباح الصَّالون؟
قد أَكُونُ إنساناً فائقَ-الاتِّصال، لكنِّي رَفَضْتُ دوماً الانقيادَ لإغراءِ هذه الأدوات، ودائماً لستُ أفهمُ كيف يمكن أن نَقْبَلَ باقتحامها لنا.
حتَّى لو كانت على هذا القَدْرِ من الجماليَّة، فهي ليست سوى ميكروفوناتٍ غافيَّةٍ، يُفْترضُ فيها أنْ تَشتغل حَالَمَا نُشَغِّلُهَا، وحتَّى نتصدَّى بدقَّة، يَتَعَيّنَ أنْ نتوجَّسَ بشأنها، كيف لا نخشى تنصُّتَها الدَّائم؟ أكثر من ذلك، وَجِّهَتْ في الولاياتِ المتَّحدةِ الأمريكيَّة، تهمةُ التجسُّس والغدر، في أكثر من مناسبةٍ، لهذه « المُساعِدات «. ففي شهر أبريل من سنة 2019، وبعد فضائح وكالة «بلومبرغ / Blommberg»، اعترفَت «أمازون» بتشغيل آلاف الأشخاص عبر العالم للتنصُّت وفكِّ شيفراتِ محادثاتِ المستَخْدِمين، بدعوى تمرين الآلة وتعويدِها على اللّغة الإنسانيَّة.
مع ذلك، يُحمِّل الآلافُ مِنَ الأشخاص كُلَّ يومٍ هذه المُساعِدات الصَّوتيَّة على هواتفِهم، مُسْكِتِينَ صوتَهُم الدَّاخليّ لفائدة صوت « أليكسا « الآليّ، أو أيّ صوتٍ نظيرٍ.
هؤلاء الزَّائراتُ الجُدُد، بأصواتِهنَّ الجذَّابةِ والعذْبة، جاهزاتٌ للارتجالِ في شكل برجٍ للمراقبة خاصٍّ بمنزلنا المتَّصِل.
هل أُرِيكُمْ إيَّاها؟ لنبدأ بالثلَّاجة العجيبة،»الذَّكيَّة»، الَّتي تُحَدِّدُ بفضل كاميراتها و مِجَسَّاتِهَا، الخصاصَ المُسَجَّلَ في كلِّ ما يُسْتهلك من موادٍّ، بدءاً من حليب الأطفال، وحتَّى جُعَّةِ الأبويْن. تُرْسِلُ آلةُ التَّبريد هاته إلى الهاتف، وِفْقاً للعاداتِ الشِّرائيَّة، قائمةً بالمٌشْتَرَيَات الَّتي يَتَعَيَّنُ اقتناؤها، ثُمَّ نَمُرُّ إلى مرآة الحمَّام، والَّتي تَتفَحَّصُ وجهَك، وتُقَدِّم نصائحَ تجميليَّةً طِبْقاً لما يَعْلُوهُ مِنْ تجعُّداتٍ صباحيَّة. وقبل أنْ تغادر منزلك، لا تنسى أن تقفل الباب جيِّداً بالمزلاج المتَّصِل ! مفارقةٌ رائعةٌ.
أن تَعْهَدَ بمفاتيحِ بيتِكَ إلى مقاولةٍ تكنولوجيَّةٍ، معناه أنْ تَعْهَدَ بها إلى مجهولٍ تقريباً.
في منازلنا، كما في الخارج، نُخَلِّفُ عدداً من الآثار والبصمات والقرائن الَّتي تغذِّي دُونَ معرفةٍ مِنَّا المقاولات التِّقنيَّة، مُسَلِّمَةً إيَّاها بياناتِنا الخاصَّة.
وحتَّى نَسْتَعِيدَ هذا التَّركيب اللُّغوي «الخَفِي» المُتَخَيَّل من قِبَلِ الرِّوائيّ « آلان دامازيو»، فَنَحْنُ نعيشُ داخل «رفاهيَّةٍ محاصَرةٍ / Conforteresse»، سِجْنٌ ناجمٌ عن كسَلِنَا، هذا الكسل الَّذي يسْحَبُنا إلى داخلِ رفاهيةِ التِّكنولوجيَّا، ويَسْتَحُثَّنَا لِئَلاَّ نُسَائلَ ممارساتِنا.
*» الپانوپتيك « الرقميّ، سِجْنٌ بسماءٍ مكشوفة.
اسْتثماراً لاستعارةِ «الاعتقال» البلاغيَّة، الَّتي أَبْدَعَهَا «آلان دامازيو»، يبدو رائجاً اليومَ، أكثرَ من أيِّ وقتٍ مَضَى، النَّمط المعماريّ للسِّجن الَّذي تَصَوَّرَهُ في القرن السابع عشر، الفيلسوف البريطانيّ «جيريمي بينتهام /Jeremy Bentham «.
يتعلَّقُ الأمر بِبِنْيَةٍ معماريَّةٍ تَسْمَحُ للحارس بالمراقبة دُونَ أنْ يَكونَ مرئيّاً، جهازٌ إجرائيُّ داخل السَّجون، يَتِيحً التَّحكُّم في مراقبةِ كلّ زنزانة بالجوار، على مقاسِ زاويةٍ للرُّؤيَة من 360 درجة.
يَقْذِفُ هذا النِّظام، الَّذي يسمح للرُّؤيةِ بالانحراف في كلِّ الاتجاهات، بالسُّجناء داخلَ إحساسٍ بالمراقبةِ الدَّائِمة، وَوِفْقا لكلمات «بينتهام»، «فالپانوپتيك» يَسمحُ بِوَضْعِ المئات من الأشخاص تحت رحمةِ شخصٍ واحدٍ، الحارسُ، مع مَنْح هذا الواحدِ نوعاً من الحضورِ الكُلِّي داخل مجاله، حتَّى إنَّ الحارس يُمْكنه أنْ يغادر برج الحراسة دون أن يُعَطِّلَ غِيابَهُ فِعْلَ المراقَبة. كان هدف «بينتهام»، أنْ يَجعل السَّجين منخرطاً بِمَحْضِ إِرادَتِه ِداخل المعيار الاجتماعيّ : «يسود الحارس غير المرئيّ كما لو كان روحاً، حيثُ لم يَعُدِ لا الدِّين، ولا العقاب الإلهيُّ ، كافِيَيْنِ في أيَّامنا، حسب الفيلسوف «بينتهام»، لتدبيرِ المجتمعِ و للحيلولةِ دُونَ أن يُقْدِمَ الإنسان على ارتكابِ الشُّرور».
أَرْسَى «بينتهام» أيضاً ممرَّاتٍ داخل المبْنى، تسمَح للمواطنين برؤية عمل المُرَاقِبين، إِذْ يُمْكِنُ لكلِّ شخصٍ وِفقاً لرأيِ الفيلسوف، أنْ يكون «مجرماً محتملاً»، فالمراقبة تَشْرُطُ ما يترتَّبُ عليها من َأمْنٍ وسعادةٍ عامَّيْن. جميعُنا، يضَعُنا « الپانوٍپتيك « الرقميّ من الآن وصاعداً في وضعيَّةِ معتقَلين طوعيِّين ومراقِبين مهووسين.
نَعْرِضُ حياتنا الشَّخصيَّة على مَواقِعِ التَّواصل الاجتماعيّ، مُتَفَحِّصِينَ حياةَ الآخرين َلفائدة قوَّةٍ غير مرئيَّةٍ، تَتَعَقَّبُنَا مُسْتَثْمِرَةً بياناتِنا الشخصيَّة.
تبقى الصِّين، بكاميراتها الملايين، أفضلَ من يُجَسِّدُ مفهومَ « الپانوٍپتيك « الحديث.
يراقبُ النِّظامُ السَّاكِنةَ دون أنْ يكون مرئيّاً، عبر عينِ «بكين» السَّاهرة، الَّتي تُحافظ على النِّظام العامّ من خلالِ إشاعةِ الخوفِ.
نموذجٌ سلطويٌّ، يَحْتَجُّ عليه الغرب علانيَّةً، في الوقت الَّذي يستوحيه ويعمل على استلهامه.َ
“مجتمع اللاَّتلامُسَ”: سيلفي لعالم آيل للانهيار» لفرانسوا سالتييل 4 : الأشياء المتَّصلة ….. بحياتنا الشَّخصيَّة
الكاتب : ترجمة: محمد الشنقيطي / عبد الإله الهادفي