أصداء أصوات غافية : اَلْمرأةُ دائما .. المرأة أبداً


ثمة ما يدفع إلى الكلام عن المرأة مرة أخرى، وعديد المرات بمناسبة عيدها، ومن غير مناسبة. وثمة ما يحمل المرء على كشف وفضح سواكن وكوامن الخطاب الديني المسيس المخدوم، والعقلية الذكورية المحنطة التي هي حاصل ونتاج تربية مقفلة، وترسبات قادمة من الخرافات القادمة بدورها من عصور الانحطاط، والتخلف الشامل الذي أنْخى بكلكله طويلا على «الأمة» العربية – الإسلامية، فأزهق روحها أو كاد.
ذلك أن المرأة في كفاحها المرير منذ عقود، مدعومة بالمتنورين من قادة الرأي والمفكرين والأدباء، لم تَنَلْ بعد منالها، ولم تحقق المساواة المطلوبة والمرغوبة والمنشودة. بل حتى المناصفة التي نص عليها دستور 2011، تُرَاوِحُ المكان، ويُغْرِقها الشد والجذب، والتأويلات المختلفة، والتخرصات.
فباسم الدين و»التبدعات» الفقهية «العالمة» التي تستمد «وحيها» ويقينها من «العصمة» الفقهية» والإلهام الَّلِدُني، و»الغيث» السماوي، طُمِسَتْ مطالب النساء، وَصِيرَ بها إلى الدونية والتنقيص، والتبحنيس بدعوى هشاشتها وعاطفيتها «الزائدة»، ورقتها. وحنانها الذي لا يمكن أن يجد له مكانا وحِضْنًا إلا تحت سقف دافئ، أو سقف مُخَلَّع يدفئه فحل قادم من طين الخرافة والأسطورة.
مدجحين بركام من الفقهيات الذكورية، والشعوذات، وخلاصات ومختصرات العصور الظلامية المتزمتة، تَصَدَّرَ المتفيقهون المرتعدون أمام الأنثى، الذين لا يستطيعون التحكم في ريقهم، وشبقهم ووضوئهم، تَصَدَّرُوا المشهد الاجتماعي العام، وأفتوا بما سولت لهم أنفسهم، أفتوا بالأحاديث الموضوعة، وشعر»المجاذيب» الهذياني، والأمثال الشعبية والآراء الحجرية المغرضة، ما جعلهم قِبْلَةً البسطاء والدهماء والبهماء، حيث سُجِنَتْ المرأة ورُوقِبَتْ، وقُتِلتْ وفي أحسن الأحوال طُرِدت عند أول خطوة خارج البيت، وعند أول نظرة عادية أو هادفة لذكر، وعند تكحيلٍ، وتزيينٍ، وتسريحٍ للشعر، وتعطيرٍ للجسم. هكذا مَاهَهَا البسطاء بتأثير من «الفقهاء» أو»المحسوبين» على الفقهاء، بالشيطان والأفعى، والكائدة، والضلع الأعوج، والناقصة، والغاوية، والزانية، ومستدرجة الرجال «الملائكة» ومسقطة الأنبياء في الشَّرَك، في الفتنة، والجلبة الجنسية، والصراع، والانقلاب على «الثوابت» والمعايير» والضمير الجمعي، و»الهُو» القبلي والاجتماعي.
ولقائل أن يقول: تلك وضعيات وشرائط و»حقائق» عاشتها نساء أوربا، وأمريكا، وآسيا منها نصيب في القرون الخوالي، بل حتى في أواخر القرن التاسع عشر، وزمنية عريضة من القرن العشرين، ولنا أن نجيب: نعم، غير أن الأمور تطورت إلى ما نعرفه اليوم أي إلى تبوإ المرأة الغربية والأمريكية المكانة السياسية والاجتماعية،والاقتصادية المرموقة، وولوجها فضاء المسؤوليات الكبرى الجسام في التنفيذ، والتشريع، والإعلام،والقضاء. أما الاستثناء فعَارِضٌ يزول بقوة الأشياء، أي بقوة الحضور، والنشاط الحقوقي، والسياسي والاقتصادي والفكري.
لقد تحقق نَزْرٌ مما قلناه عن المرأة الغربية، للمرأة العربية والمسلمة بفضل الجهود الحثيثة للحركة النسائية في طول الوطن العربي وعرضه، وفي طول الدول الإسلامية وعرضها، لكن النساء لايزلن يدفعن ضريبة الخروج، والولوج إلى الخدمات العامة اجتماعيا، وسياسيا، واقتصاديا، وثقافيا، وإعلاميا، يدفعن تلك الضريبة بالتحرش، والعنف الممنهج الجسدي واللفظي والرمزي، والتهديد اليومي، وعدم تساوي المكافآت والجزاءات والأجور لقاءَ العمل والخدمة التي يقدمنها مقارنة بالرجال، وإنْ تدنى مستواهم قياسا بهن. كما أن العقلية الذكورية متفشية بما لا يقاس في مستويات مختلفة، وعبر ما يقال ويمرر من كلام، ومن برامج ومقررات دراسية، ومن خطابات فيها تبخيس لدور المرأة، وتحقير لجنسها، وتنقيص من كفاءاتها، وقدراتها وملكاتها، يحدث هذا حتى على أعلى مستوى من المسؤولية وتدبير الشأن السياسي والإداري العام. وَيُعْزَى ذلك، في نظرنا – إلى توجيهات وإرشادات، ومواعظ فقهاء المحطات التلفزيونية، وأئمة المساجد حيث يَبُثُّون في جموع «المؤمنين» ما يفيد معنى الدونية، والشيطانية، والاعوجاج، والإغراء والإغواء، وشيوع الجنس والزنا في المؤسسات العمومية من وراء أسوار وأستار، أي ما يفيد، بالواضح والمرموز، وجوب الاحتراس، والاحتراز، والنأي بالنفس الأمارة بالسوء ما أمكن ذلك.
ولعل تحكم الذكورية في رقاب الأنوثة عبر التاريخ وعبر الأحقاب، وإملاء ما تريد الذكورية من تسلط ومصادرة وحِجْرٍ، وتَمَتُّعٍ بالمرأة جنسا يطفيء ظمأ الفحول ليس إلا، ناجم من حرمان المرأة من التعليم و»تحجيبها» وراء الأسوار والخدور خادمة محظية حريما، ومصدرا للمتعة واللهو والتطاوس عليها، والتباهى بامتلاكها. إذ أن التعليم كان ولا يزال، سبيلا إلى القراءة والكتابة، والإثمار والنضج، والوعي، والرقي بالعقل والوجدان، وإدراك موجودية الإنسان بما هو كيان ووجود في الوجود. فهذا الإدراك، وذلك الوعي غابا عن المرأة تماماً أو غُيّبا بفعل ماكر وَمُناوِر، ومُهَيْمنةٍ إبستمية – سوسيواقتصادية، وسوسيو ثقافية، وبيولوجية أيضا. وليس الماكر الناكر المستفيد تاريخيا من هذه الهيمنة الظالمة، والطغيان الفاضح، غير الرجل، غير الذكر، المختلف جنسيا ونوعا وبيولوجيا، ومورفولوجيا عن المرأة. إنه الاختلاف الطبيعي الصدفوي الذي زين للرجل ما زين له، حيث فرض نفسه «كنوع» ليستغل نوعا آخر هو قسيمٌ ولكنه مخيف ومصدر كل شر !!. ألم تخلق المرأة من ضلع آدم.. بل –يا لطيف- من ضلع أعوج !.
أخبار النشوء والتكوين هذه سواء انحدرت من ليل الأساطير والخرافات، أو من ألواح وأسفار الآداب العريقة، أو من مدونات الديانات الإبراهيمية، هي ما تسبب وقاد إلى الإعاقة، وَكَبَحَ، عديد القرون، التقدم البشري، والنمو الإنساني، والبناء الحضاري. فبعض هذه «الأفكار» و»الميثولوجيات» هو ما يسري في لاوعي الإنسان العربي ـ المسلم، وبعض الشعوب «البدائية» التي تعيش راهنا على الكوكب الأزرق. أما العجب العجاب، هو كيف اختلط هذا الركام الفكري الميثي العجائبي في واعية وأذهان الكثيرين ممن نالوا حظا وافرا، وقسطا كبيرا من التربية والتعليم والثقافة؟
ولا أدل على ذلك ما يروج ويتداول بين الناس وهم متعلمون حول المرأة بوصفها خطرا محدقا، وشرا مستطيرا؛ وتعظم الحسرة، ويكبر الأسف والأسى عندما يردد أمثال هذه الترهات من «مَكَّنَهُم» الربيع «العربي» السرابي من تَسَنُّم ذُرَى السلطة والحكم، التي لم يحلموا بها أبدا. ومن ثمَّ، كيف يُنْتَظَرُ من هؤلاء ومن هم في سَمْتِهم وطينتهم، أن ينتصروا للمرأة، ويروا إليها عنصرا بانيا، وإنسانا كاملا مساويا تماما للرجل، لا مكملا ولا إكْسِسْوَاراً؟. وكيف يُنْتَظَرُ منهم، ثانيةً، أن يطبقوا ما نص عليها الدستور الأخير الذي التفت إلى المرأة التفاتة فيها تقدير–كيفما كان الحال- وإعزاز، واعتبار من خلال التنصيص على المناصفة المفضية حتمًا إلى المساواة الكاملة؟. ألم نكنْ نتابع ونقرأ ما كان يتفوه به من حينلآخر، وزراء في «العدالة والتنمية»، وفي مقدمتهم كبيرهم الذي علمهم السحر، سحر الكلام الدائخ المترنح والشعبوي، الذي تتخلله قهقهات مخنوقة متهدجة تَنِمُّ عن احتقار للآخر، للمخالف أكان ذكرا أم أنثى.
وفي حال الأنثى: يصبح الأمر أدْهَى وأمر، ودليلنا على ذلك «سيرك» وبهلوانيات التصاريح والخطابات عند تلك المساءلة الشهرية البرلمانية المضحكة، والحوارات المندفعة الرعناء.
أخيراً أقول: تحية للمرأة وهي تسطر، بالكلمة والفعل والحضور، ملحمة النضال من أجل المساواة والديمقراطية والحداثة.
وتحية للرجال الشرفاء الأفذاذ المساندين لقضية المرأة من حقوقيين وسياسيين وجمعويين، ومثقفين، ومفكرين، وأدباء ومبدعين، وأطباء، ومحامين، ومقاولين، و… «مؤمنين» آخرين بحقها الثابت والراسخ والمبدئي في المساواة والحرية والديمقراطية.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 16/03/2024