بعد الدراويش الجدد .. من قصيدة «الكاوي» سيولد اسم «ناس الغيوان»
نعود بجمهورنا الكريم في هذه السلسلة الرمضانية، إلى بعض من المسارات التي عاشتها الأغنية الغيوانية، والتي إما مرت دون انتباه أو ستسرد لأول مرة، وهي مسارات ومحطات ندونها على لسان رواد المجموعات، والذين منهم من انتقل إلى دار البقاء ومنهم من مازال
بين ظهرانينا يتمم الرسالة والمسير…
معلوم أن أفرادا من مجموعة ناس الغيوان وعلى رأسهم بوجميع والعربي باطما ومولاي عبد العزيز الطاهري… كانوا ينشطون في المقهى المسرحي الذي أسس له الطيب الصديقي، وكانوا يرددون، بواسطة السنتير والطبيلات والبندير، مجموعة من أغاني المسرحيات التي قدمها الصديقي للجمهور في الستينيات، إذاك كانت العلاقة قد توطدت بين بوجميع والعربي من جهة ومولاي عبد العزيز الطاهري من جهة أخرى، فمولاي عبد العزيز بعد عطاءات فنية متميزة بمراكش، قصد العاصمة الاقتصادية ليلتحق بوظيفة خولتها له مؤهلاته، لكن صادف حلوله بالدار البيضاء عزم الطيب الصديقي على إعادة إنتاج المسرحية الشهيرة «الحراز» لذلك كان الصديقي على اتصال دائم بصاحب المسرحية، الأستاذ عبد السلام الشرايبي، الذي كان أول من قدم المسرحية بمراكش مع فرقة الوفاء المراكشية، بطلب من الملك الحسن الثاني، وكانت فرقة الوفاء تضم أشهر الممثلين بينهم عبد الجبار الوزير ومحمد بلقاس، ولأن المسرحية كانت تتألف من مقاطع كثيرة من فن الملحون، كان المشكل عند الصديقي وطرحه أمام عبد السلام الشرايبي، هو مسألة حفظ هذه المقاطع الملحونية من طرف الفرقة التي ستؤدي العمل، فأخبره الشرايبي بأن مولاي عبد العزيز الطاهري متواجد حاليا بمدينة الدار البيضاء، وبإمكانه القيام بهذه المهمة مع الممثلين لأنه من حفظة الملحون وفنون القول، أضف إلى ذلك أنه هو من لعب الدور الرئيسي للحراز، أي دور العاشق، مع فرقة الوفاء، عندما قدمت للملك وبعض ضيوفه من أوروبا والعالم العربي بمسرح «كازينو»، فدعاه الصديقي للالتحاق بالفرقة، والتي كانت تضم أسماء أضحت نجوما في ما بعد بينهم حميد الزوغي ومحمد مفتاح والحسين بنياز وغيرهم، وهناك تعرف على بوجميع والعربي وعمر …في المقهى المسرحي كما قلنا أصبحوا يرددون أغاني المسرحيات بالإضافة إلى أغاني كان يرددها العربي باطما تنهل من المجتمع الزراعي وأغاني لمولاي عبد العزيز مأخوذة من التراث الشعبي وحفظها في مراكش، إقبال الناس وتجاوبهم مع هذه الأغاني دفع علي القادري، وهو بالمناسبة صهر الطيب الصديقي، أن يقترح عليهم أداء هذه الأغاني في مطاعم وفنادق بالبيضاء وأكادير، فالقادري كانت له وكالة للتنشيط الفني، وقد استقطب من خلالها العديد من المشاهير، خاصة الفرنسيين، لتقديم عروضهم بالمغرب، فاشتغلوا سواء معه أو مع الطيب الجامعي بعده باسم «الدراويش الجدد»، والدراويش تحيل على فرق كانت في العصر العباسي والعثماني تقوم برقصات روحية يدور خلالها هؤلاء الدراويش حول أنفسهم ويقومون بالتأمل بهدف الوصول إلى مرحلة الكمال، ميزة أصحابها الصوفيين أنهم فقراء لكنهم كرماء حتى أنهم يتسولون من أجل الآخر، لكن بعد مدة وحيث كان العربي وبوجميع ومولاي عبد العزيز وعمر على اجتماعات مسترسلة أخذوا يفكرون في المستقبل والآفاق خاصة موضوع تحديد مراسم ومعالم المجموعة بمعنى أي مجموعة نريد ؟ وبطبيعة الحال وهم في خضم التفكير كانوا بالموازاة مع ذلك يقومون بتداريب على أغاني من التراث الشعبي، ومن الأغاني أو القطع التي كانوا يتمرنون عليها، قصيدة ملحونية اسمها « الكاوي « لناظمها بوعزة الدريبكي، الذي تقول عليه كتب الملحون إنه كان مشاوريا، في عهد مولاي عبد الرحمان، وفي أول عهد الحسن الأول اعتزل الوظيفة ورجع لحرفته الأصلية، وهي «الخرازة»، وهو من وداية قصبة لعلو بالرباط، يقول أحد أبياتها : إلى نجبر أهل الفن بحالي.. يستحسنوا قوالي .. يبكيوا على بكاي.. ناس الغيوان يسالوا.
وعند سماعهم كلمة «الغيوان» أخذوا يتبادلون النظرات بينهم واستهواهم هذا الاسم فقرروا، بشكل عفوي، أن يكون عنوانهم الكبير للفرقة، بعدها سيحددون الخط الغنائي الذي يجب أن تتبناه المجموعة، هذا ما أكده في العديد من المناسبات واللقاءات المبدع مولاي عبد العزيز الطاهري، الذي يعد الركيزة الثالثة لخيمة الغيوان خلال التأسيس إلى جانب العربي وبوجميع، وأحد مسطري الخط الغنائي للأغنية الغيوانية ككل، فالرجل اجتمع فيه العازف والملحن والزجال والكاتب والمسرحي والملم ببحر الملحون وفن القول والتراث الشعبي عموما، بالإضافة إلى تمتعه بثقافة واسعة في مجالات عديدة، ولا ننسى أنه أول من أعطى لآلة السنتير المكانة التي تستحق قبل أن يكمل المسير لمعلم باكو ولمعلم باقبو مع جيلالة.
في القسم الثالث من قصيدة الكاوي تتموقع التسمية التي اختارها بوجميع والعربي والطاهري، حيث يقول الناظم :
البَعْضْ فـَالنـَّاسْ كَيْلـُومُو وِيزيدُو فِي امْلامْ حَالي
وُبَعْضْ النـَّاسْ كـَيْقـُولـُو هَذا عَمْدَا لـُو
هَذا حَالي مْعَ الهْوَى مَنْ صَغـْرِي مَوْلـُوعْ بَالغـْوَالي
اتـْرَوَّعْ سَاكـْني وَنـْطـَقْ مَنْ غيرْ اسْوالـُو
وِلـَى نَجْبَرْ هَلْ الفـَنّْ بْحالِي يَسْتـَحْسْنـُو اقـْوَالي
يَبْكيوْ عْلـَى ابْكـَايْ نـَاسْ الغيوَانْ يْسَالـُو
وِلـَى نَجْبَرَ هَلْ اللـُّومْ يْلـُومُو وِيبَطـْلـُو اشـْغـَالي
ويقـُولـُو يَا لـْطيفْ رَاهْ تـْقـَوَّى تـَخـْلالـُو
لامُوني فِي افـْعَايـْلي وفـَْعَلـْهُمْ عَدَّا عْلـَى افـْعَالي
لـَكِنْ غْدَا كـُلـّْهَا يَتـْحَاسَبْ بَفـْعَالـُو
اختلفت بعض المداخلات عند بعض الباحثين عن القصيدة التي اختارت منها الغيوان اسمها، بحكم أن هناك قصائد ملحونية أخرى ذكرت اسم الغيوان، إلا أن الطاهري حسم في الموضوع أكثر من مرة وأكد أن الاختيار جاء من قصيدة الكاوي .
تنويه : كل الشكر للصديقين كمال كاملي والفنان الرائع محمد المتوكل فالأول أمدني بالقصيدة كاملة، والثاني أعطاني نبذة عن الشيخ بوعزة الدريبكي.