التهديدُ الإرهابيّ، حُجَّةٌ أساسيَّة لتبريرِ التَّدابير الأمنيَّة.
كان عُمدة نيس الفرنسيَّة، السيِّد «كريستيان إستروزي/ Christian Estrosi»، قد صَرَّحَ خلالَ الأحداتِ الهجوميَّة الَّتي شهِدتْها العاصمة الفرنسيَّة باريس، والَّتي جَرَتْ وقائعُها بقاعةِ العروضِ المسرحيَّة «الباتكلان / Bataclan»، أنَّ مِثْلَ هذه المذبحة، ما كانت لِتَقَعَ في المدينة الَّتي يتولَّى تَدْبِيرَ شؤونِها، بالنَّظر إلى ما هي عليه من تكثيفٍ عالٍ لنظامِ المراقبة.
تصريحٌ سيتعرَّضُ لِلدَّحْضِ على نحوٍ مأساويٍّ سَنَةً بعد ذلك.
لم تَمْنَعْ ترسانةُ السيِّد العمدة (آلاف كاميرات المراقبة) ، سائقَ شاحنةٍ متطرِّفٍ مِنْ قتلِ ستَّة وثمانين شخصاً دهساً، وجُرحِ المئات مساءَ الاحتفال بعيدٍ وطنيٍّ.
مأْساةُ مميتةٌ، جَرَتْ في غمرة نزهة لسيَّاح إنجليز تحت أنظارِ كاميراتٍ لم تتوقع حدوثَ أمرٍ كهذا. شبح الإرهاب يُلازم سياسيّاً أُولي الأَمْر، الَّذين أُوكِلَتْ إليهم مهمَّة مراقبةِ الحشودِ، لأَّنه يتعيَّن لحظةَ وقوعِ أحداثٍ مأساويَّةٍ، وبكيفيَّةٍ استعجاليَّة، تعزيز الأنظمةِ الأمنيَّة، ويعود الفضل إن لم يحدث أيّ شيءٍ إلى نجاعةِ نظامِ المراقبةِ القائم، والَّذي يتوجَّب الاحتفاظُ بِهِ.
هذا ما يسمَّى انتصاراً في كُلِّ مرة.
تَسْعَدُ نيس بشمسٍ دافئةٍ طيلةَ السَّنة. غير أنَّهَا المدينة التي تحتفظُ وطنيًّا بالرَّقم القيَّاسيّ لعدد كاميراتِ المراقبة بالفيديو(Video Surveillance ). يَتضاعفُ أُسطولُ المراقبة في المدينة بكيفيَّةٍ دائمةٍ، ولِحَدِّ كتابةِ هذه السُّطور، فهو يَتَشَكَّل من 2666 كاميرا مقابل 340,000 من السكَّان، أي بمعدَّل كاميرا واحدة لكل 127 شخصاً من السَّاكنة. وحتَّى إن كانت المدينة لم تَبْلُغْ بَعْدُ النَّموذج الصِّينيّ، فإنَّ السيِّد «كريستيان إستروزي»، يبدو كما لو كان يَسْتَلْهِمُ النَّموذجَ بِقُوَّةٍ. فهو يعشَقُ السَّفَريَّات الرسميَّة إلى الصِّين، وقَدْ زَوَّدَ مطارَ نيس بخطّ رحلةٍ مباشرٍ يربط المدينة بالعاصمة «بكين»، كذلك احتضَنت نيس، سنة 2019، القمَّة الفرنسيَّة – الصينيَّة. تَسْتَهْوِي التِّكنولوجيَّات الجديدة السيِّد العمدة، إِذْ أنَّه يُناضل منذ سنة 2016، من أجلِ اجتهادٍ قضائيٍّ يُقِرُّ تقنيَّةَ « التَّعرُّف عبر الوجه «.
في شهر فبراير من سنة 2019، أثناءَ انعقادِ الكرنفال التَّقليديّ لمدينة نيس، قرَّر السيِّد «كريستيان إستروزي» أَجْرَأَةَ هذه التِّقنيَّة، مُدَشِّناً بذلك التَّطبيق في الشَّارعِ العامّ، وعلى نطاقٍ واسعٍ، بعد أن كان مقتصِراً حتَّى عهدٍ قريبٍ على البوَّابات الإلكترونيَّة المُثْبَتَة عند مداخل المطار.
لقد أتاحت تكنولوجيَّا المقاولة الإسرائيليَّة، «Any Vision»، مَسْحاً ضوئيّاً طيلةَ يومين لمئات من الوجوه، مُلْتَقِطَةً صورَها بشكلٍ آنيٍّ، عَبْرَ كاميرا مُثْبَتَة في مَوْقِعٍ استراتيجيّ.
واختباراً لنجاعةِ الجهاز، تَقَصَّدَ أشخاصٌ عديدون التَّأقْلُمَ مع سيناريوهاتٍ مختلفة، كالعثورِ مثلاً على طفلٍ تائهٍ داخلَ الحشودِ، انطلاقاً من صورةٍ له، أو ملاحقةُ شخصٍ مشبوهٍ بِتَعَقُّبِ مَسَارِه.
بالطَّبع، شَكَّلَت هذه التَّجربةُ، في مراقبةِ الجُمُوع، نجاحاً كبيراً بالنِّسبة إلى المصالحِ المختصَّةِ بالمدينة، والَّتي أَعْلَنَتْ بفخرٍ تَوَفُّقَ تُحَفِهَا الصَّغيرة في الاشتغالِ مع كليشيهاتٍ تعُودُ لأكثر من عشر سنواتٍ، أومع وجوهٍ بقبَّعاتٍ ونظَّاراتٍ شمسيَّةٍ تكادُ تُخفي ملامحَها.
تحمُّسٌ لم تَتَشَاطَرْهُ اللَّجنة الوطنيَّة للبياناتِ والحريَّات(La CNIL )، الَّتي انتقدت غيَّابَ الدِّقَة في المُحَصِّلَةِ النِهائيَّة، وكذا غيابُ التَّفاصيل في ما يرتبط بثغراتِ البرنامج المحتملة، وعلى الأخصّ ما يتَّصِلُ منها بالتَّعرفِ على الجنسِ والانتماءِ العرقيّ.
ثَمَّةَ صُعوبةٌ أُخرى : فالشَّركة الَّتي تَتَولَّى القيَّامَ بتخزينِ هذه البيانات البيومتريَّة، شركةٌ أجنبيَّةٌ، مِمَّا يَتَهَدَّدُ الطَّابَعَ السِّريّ للمعطيات.
على الرَّغْمِ من هذه الانتقادات والتحذيرات، واصَل السيِّد العمدة مُضِيَّه قُدُماً في استراتيجيَّتِه، بِخُطىً ثابتة وساحقة، كما لو كان جرَّافة (Buldozer )، معتبراً التِّكنولوجيَّات الجديدة أمراً عادياً، ومُؤْمِلاً أن يَقْبَلَهَا بِصَدْرٍ رحبٍ في نهايةِ المطافِ مجتمعٌ مذعورٌ.
*تقنيَّة « التَّعرُّف عبر الوجه « عند مداخل الثَّانويات
تَثْبِيطاً للمعنويَّات، أَثَمَّةَ أَفْضَلُ من محاولةِ اقتحامِ الضَّريحِ الجمهوريّ؟ بتنسيقٍ مع مجلسِ جهة الجنوب، عَمَدَ السيِّد «كريستيان إستروزي»، إلى إقامةِ بوَّاباتٍ أَمْنِيَّة، إلكترونيَّة، بتقنيَّةِ «التَّعرُّف عبر الوجه» داخلَ مؤسَّسَةٍ مهنيَّةٍ بالمدينة، نيس.
يتعلَّقُ الأمر بثانوية «الأوكالبتيس»، وهي تجربةٌ أُقِيمَتْ أيضاً في نفسِ المرحلة داخل ثانوية «أمپير/ Ampére»،بمدينة مارسيليا ( Marseille ).
في ما يلي الخطوات الَّتي يَتَعَيَّنُ اتِّبَاعُهَا للتَّأكُّدِ من نجاعةِ التَّطبيق : يَنْبَغِي للتَّلاميذِ المتطوِّعين أن يحمِلوا شاراتٍ، وعيونُهُم على الكاميرا حتَّى تُصَدِّقَ على ملامحِهِم، بعد ذلك، يَمُرَّ التِّلميذ إلى اللَّون الأخضر إذا كان بحوزتهِ ترخيصٌ، و إِلَّا فالبرنامجُ يَظْهَرُ بالَّلونِ الأحمرِ مؤشِّراً على احتيالِ التِّلميذ. من جهةٍ أُخرى، يُمْكِنُ لكاميراتِ المراقبة بالفيديو المُثْبَتَة داخل ممرَّات المؤسَّسة، تَتَبَّع تنقَّلات التَّلاميذ.
الغايةُ المُعْلَنَة من تدبيرٍ كهذا: رِبْحُ المزيدِ من الوقتِ عَبْرَ تأْمينِ نوعٍ من الانسياب، لاسيَّما أثناءَ الزَّحمة الصباحيَّة جَرَّاءَ تَوَافُدِ التَّلاميذ المكثَّفِ على حجرةِ الدَّرسِ، وكذا طبعاً لتعزيزِ أَمْنِ التَّلاميذ ضِدَّ كُلِّ خطرٍ خارجيٍّ محتمَلٍ.
لم يُخْفِ السيِّد العمدة نِيَتَهُ في تعميمِ هذا النِّظام على صعيد جميع المؤسَّساتِ التَّعليمية. لَكِنَّ اللَّجنة الوطنية للبياناتِ والحريَّات ( La CNIL ) أَبْدَتْ رَفْضَهَا، فَمِثْلُ هذه التَّدابير، في نَظَرِ اللَّجنة، غير مناسبة تماماً.
صحيحُ أنَّه إذا كان الهدفُ ينْحصرُ تحديداً فقط في تفادي الزَّحمة الصَّباحيَّة عند مَدخلِ المؤسَّسة التَّعليميَّة، فَيُمْكِنُ للعاملِ البشريِّ أن يتولَّى ذلك بسهولة، ثُمَّ إِنَّ الشَّركة، «سيسكو/Cisco «، الَّتي عُهِدَ إليها بهذا التَّسَلَّلِ إلى العُمْقِ المدرسيِّ، شركةٌ أمريكيَّةٌ، أجنبيَّةٌ، وقادرةٌ على حيَّازة معلوماتٍ على قدْرٍ مِنَ الأَهَمِّيَة حول الشَّباب الفرنسيّ، فضلاً عن ذلك، تَظَلُّ ملامحُ تخزينِ الشَّركة للبياناتٍ غيرُ واضحة.
المدينتان، في الجنوبِ الفرنسيّ،( نيس و مارسيليا)، كان عَلَيْهِمَا إِذَنْ تفكيكَ لُعَبِهِمَا، (Leurs joujoux )، حتَّى قَبْلَ أَنْ تَأْخُذَ شَكْلَهَا النِّهائيّ.
غير أَنَّ انتصارَ اللَّجنة الوطنيَّة للبياناتِ والحريَّات( La CNIL )، لَمْ يَكُنْ بِمِثْلِ تلك السُّهولة الَّتي نعتقد، فعُمدة نيس، يُمْكِنُه أنْ يَكُونَ الفائز على المدى البعيد، عبر نشرِ إيديولوجيَّتَهُ الأَمْنِيَة. ولِكيْ يُحقِّقَ ذلك، يبدو أَنَّ الرَّجل قَدْ عَمَدَ إلى استخدامِ «نافذة أوفرتون/FenetreD’overton «، وهي تقنيَّةٌ بلاغيَّةٌ أَجْرَأَهَا نظريّاً عضواللُّوبي الأمريكيّ «جوزيف.ب.أوفرتون / Joseph.P.overton «.
تتمثَّلُ التِّقنيةُ في الانْسحابِ مِنْ مَدَارِ الأَفْكَارِ والآراءِ المُجْمَعِ عليها اجتماعياً، ( وفي ذلك ما يرشِّحُها لأن تكون نافذةً )، قَصْدَ كَسْبِ المَزِيدِ من حريَّة المناورة.
إذنْ، بالتَّسلُّلِ عبر ذريعةِ مراقبةِ الأطفالِ داخلَ المدرسة، جَعَلَ «إستروزي» من استعمالِ تقنيَّةَ « التَّعرُّف عبر الوجه « أمراً مقبولاً داخل الفضاءِ العموميّ. إنه يعزِّزُ مَقْبُولِيَّةً اجتماعيةً باستخدامِ تقنيَّة المقارنة بظاهرةٍ أكثر جذريَّةً.
إذا استجابَ رَجُلُ السيَّاسة لتوصيَّاتِ اللَّجنة، فسيكون باستطاعتهِ يوماً ما الاستمرار في تجاربِه، دونما إنصاتٍ للآراءِ غير الملْزِمة لمؤسَّسة يراها، علاوةً على ذلك، مُتَقَادِمَة وعفا عليها الزَّمن.