الدار البيضاء …تلك المدينة -08- كناش الزرائب وفوضى التعمير

ليست الدار البيضاء مجرد مدينة أو حاضرة من الحواضر العادية، بل هي حكاية من حكايات هذا الزمن..مستمرة في المكان والزمان… لم تحكها شهرزاد ولم يتشوق لنهايتها شهريار .. أبطالها ليسوا جان ولا عفاريت، بل هم مجرد أناس عاديون، قذفتهم أقدارهم ليعيشوا وسط دروبها وليصنعوا تاريخها ..مناضلون ومقاومون للاستعمار دافعوا عنها وصنعوا مجدها، وأولياء صالحون حرسوا أحياءها.. سكان من جاليات مختلفة تلاقحت ثقافاتهم وسط أحيائها وأزقتها، أسوار وأبراج وأبواب دكتها مدافع الغزاة لكنها عادت لتقف شامخة تحيط بها، هي ميناء ومصانع ومعامل وعمران وعمارات باسقة وفن معماري متميز، وفرق كرة قدم ومجموعات موسيقية ومسرحية ومؤسسات علمية ومساجد وبيع وكنائس وأضرحة.. يحكون لنا، خلال هذا الشهر الكريم، شذرات من تاريخها التليد وحاضرها الذي يعد بالكثير …

من بين ما شيد في المدينة حين تم التفكير في إعمارها، بيت مال بهدف تحصين أموال الدولة، وذلك بأمر من السلطان سيدي محمد بن عبد الله، الذي أمر ببناء بيوت مماثلة في كل مراسي المغرب، يقول هاشم المعروفي في كتابه السابق الذكر، نقلا عن الزياني في كتابه «الترجمان في ولاية مولاي اليزيد ابن السلطان سيدي محمد» سنة 1204 ه، إنه «فتح بيت مال بالمدينة بعد قدومه إليها وأخذ منه مليونين، ولكن لم يتم تبيان المعدود والأغلب أنه من المثاقل»، وكانت هذه البيوت تفتح كل ثلاثة أشهر ويعطى منها لعسكر كل ثغر مرتب كل ثلاثة أشهر، سواء منهم الغائب أو الحاضر، وذلك نقلا عما جاء في كتاب»الإتحاف» لابن زيدان في ترجمة السلطان العلوي سيدي محمد بن عبد الله، كما أن السلطان فتح باب الهجرة للمدينة فقصدها سكان الشاوية ودكالة وتجار المدن كفاس والرباط وسلا وتم فتح دفتر لتسجيل المهاجرين الراغبين في الحصول على محلات السكنى .
لقد كان المهاجرون المسجلون من الشاوية ودكالة يحصنون المحلات التي منحت لهم بـ»الزرب» وهو نبات شوكي يحصن به أهل البادية المآوي للغنم ويسمونها بـ»الزريبة» فأطلق على هذا الكناش كناش الزرائب، والزرب في اللغة العربية هي حظيرة الغنم والجمع زروب والزريبة مثله وجمعها زرائب.
ولترغيب الناس في الهجرة إلى الدار البيضاء كانت السلطات المخزنية تمنح بقعا دون تعويض في البداية ثم بعد ذلك فرضت عليهم تعويضا تافها سنويا، وعين لكل ناحية من نواحي المدينة قيمة فإذا أراد صاحب البقعة شراءها يدفع من القيمة 60 في المئة مقسطا على السنين ترغيبا للهجرة ويعفى من الباقي، وهو 40 في المئة، كما تم تقسيم المدينة، بحسب القيمة، إلى أقسام: واحد للأغنياء والتجار والأجانب ومحل القناصل والمصرف، ناحية الباب الكبير، الذي هو الآن فسحة محمد الخامس إلى ضريح سيدي بوسمارة إلى باب المرسى إلى ضريح للاتاجة إلى فسحة دار قنصل ألمانيا، وهذه الناحية كانت من نصيب التجار أهل الحاضرة والتجار الأجانب وقناصل الدول، أما القسم الثاني فكان للمتوسطين نواحي باب مراكش ووسط المدينة ، وترك القسم الثالث لسكان أغلبهم أهل البادية، وهو حي التناكر، الذي كان يعج بالنوالات ثم جعلوا يبدلونها بالحجارة فصارت المدينة كلها مبنية ولا يوجد بها كوخ، وكان إقبال المهاجرين في الأول قليلا إلى ولاية السلطان المولى عبد الرحمن، وكان من جملة المهاجرين في ولاية مولاي عبد الرحمان ولي الله السيد محمد بن العربي الدلائي الذي هاجر من الرباط إلى الدار البيضاء وبنى بها زاويته، وفي ذلك الوقت كانت المدينة خالية من السكان، وكان بها نحو العشرين دارا، ولم يكن بها دار للنصارى إلا دار «فريول» في عصر السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمن، وفي ولاية القائد السيد محمد بن دريس الجراري لودي زاد عمرانها وكثر بناؤها حتى ضاق المسجد العتيق بالمصلين فكتب العامل للسلطان سيدي محمد بن مولاي عبد الرحمن في بناء مسجد وحمام فبنى جامع السوق وحمام بجانبه واشتغل الشيخ بإصلاح زاويته.
لقد كانت الأرض جرداء محيطة بالمدينة القديمة ولم يكن من حل للسكان للاغتناء بسهولة وهم يرون الأعداد الكبيرة من الأوروبيين يحلون بها أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين سوى المضاربة العقارية، وعندما تيقن الفرنسيون أن الدار البيضاء ستصبح هي العاصمة الاقتصادية للمغرب ارتفعت الأثمان دون توقف من 1907 إلى 1914 فعلى سبيل المثال قطعة أرضية اشتراها صاحبها بـ 0.05 فرنك للمتر سنة 1906
يبيعها بـ 317 فرنكا للمتر في سبتمبر 1913، في هذا التاريخ كان المتر الواحد وسط المدينة بين 300و200 فرنك يساوي أغلى من المتر في زنقة فونتين أو شارع أورليان بباريس، ورغم أن الأجانب لم يكن لهم حق الملكية، لكن هذا لم يمنعهم من اقتناء، أواخر سنة 1910 بالدار البيضاء، ما لا يقل عن 75 هكتارا من الأراضي غير المبنية و331 بناية تقدر قيمتها بـ3ملايين من الفرنكات في ذلك العهد، ولم يستطع الكثير من المغاربة مقاومة إغراء الأثمان المرتفعة فباع بعضهم حتى أراضي الحبوس أو أراضي المخزن التي كانوا مسؤولين عنها دون أن تكون ملكهم، حسب ما ذكره أندري آدم في كتابه «الدار البيضاء تحول المجتمع المغربي في احتكاكه بالغرب».
ولمواجهة هذه الفوضى أعاد ظهير 16 ديسمبر 1913 الصادر بالجريدة الرسمية رقم 66 المؤرخة ب30-1-1914 المتعلق بتقعيد الأملاك المخزنية المسماة الزريبة بالدار البيضاء، تطبيق ظهيرين لم يطبقا قط، وهما يرغمان كل من استولى على ملك مخزني، بغير حق، على إعادته.
لقد كان الاستيلاء على أملاك في ملكية المخزن أو أراضي الحبوس ممارسة شائعة جدا بالدار البيضاء رغم أن «الأملاك المخزنية وأملاك الحبوس شيئان مختلفان لا يجب الخلط بينهما حيث يمكن للدولة أن تتمتع بالأوائل أي الأملاك المخزنية التي تعتبرها ملكا لها لكن لا حق لها في أملاك الحبوس، نظريا، التي لا يجوز لها التصرف فيها، ومن واجبها فقط السهر على حسن سيرها وأن تستعمل عائداتها حسب رغبة من تبرع بها « (اندري آدم).
هذه الممارسة كانت تسمح للخواص بالاحتفاظ بملكية الأرض مع جني فوائد مهمة دون أي مصروف حيث كان هؤلاء شأنهم شأن المخزن يمنحون حق البناء فوق أراضيهم مع فرق واحد هو أن واجب الزينة يعود إلى جيوبهم الخاصة عوض أن يذهب إلى بيت المال، فمالك الأرض ومالك البناية التي فوقها هما شخصان مختلفان، الأول يتقاضى من الثاني ثمن كراء الأرض ويسمى الزينة، والوحَدة هي الزريبة، وهي أرض صغيرة مسيجة تحتوي على فضاء ضروري لسكنى ضيقة لإيواء عائلة وتتكون مساحتها من 30 إلى40 مترا مربعا تقريبا، ومع اتساع المدينة انتشر هذا النظام في كل الأحياء التي يسكنها مغاربة سواء في المدينة الجديدة أو العتيقة خارج الأسوار ، وغالبا ما يكون المالكون مسلمون أو أوروبيون أحيانا من سكان الدار البيضاء القدامى، وتحمل الأحياء أسماءهم كدرب غلف ودرب الفاسي ودرب مارتيني ودرب كارلوطي …
ورغم غلاء العقار بالدار البيضاء إلا أن حمى البناء ابتدأت من سنة 1907، وعندما ازدحمت المدينة الصغيرة بالسكان أخذت ترسم أحياء جديدة خارج الأسوار، ولكن لم تكن جميع الجهات حرة في نموها: «لم يفكر أحد في السور الجديد لأنه بعيد عن السوق ولا في ضواحي الشاطئ الشرقي حيث توجد مقبرة سيدي بليوط، وحتى في ضواحي باب مراكش التي تغطيها «النوايل»، لم تبق إلا منطقة السوق التي تفرض نفسها لاقترابها من المركز الاقتصادي، ومن خيام العسكر الفرنسيين ومقبرة المسلمين، لتتكون نواة المدينة الأوروبية التي ستنتشر بعيدا»، أندري آدم.
في سنة 1911 بني 577 منزلا لكن هذا البناء كان يمارس في فوضى شاملة، ولم يترك التهافت على البناء والجري وراء الربح والمضاربة والأنانية المحتدمة بين الوافدين الجدد والأولين مكانا للمتطلبات الصحية الأولية أو الخدمات أو الطرق لمرور الراجلين» سنفتح الطريق من بعد» .. صرح لصحافي أحد الملاكين البيضاويين…


الكاتب : خديجة مشتري

  

بتاريخ : 20/03/2024