الدار البيضاء …تلك المدينة 13 : إضاءات مقتضبة حول تاريخ هجرة اليهود إلى الدار البيضاء

ليست الدار البيضاء مجرد مدينة أو حاضرة من الحواضر العادية، بل هي حكاية من حكايات هذا الزمن..مستمرة في المكان والزمان… لم تحكها شهرزاد ولم يتشوق لنهايتها شهريار .. أبطالها ليسوا جان ولا عفاريت، بل هم مجرد أناس عاديون، قذفتهم أقدارهم ليعيشوا وسط دروبها وليصنعوا تاريخها ..مناضلون ومقاومون للاستعمار دافعوا عنها وصنعوا مجدها، وأولياء صالحون حرسوا أحياءها.. سكان من جاليات مختلفة تلاقحت ثقافاتهم وسط أحيائها وأزقتها، أسوار وأبراج وأبواب دكتها مدافع الغزاة لكنها عادت لتقف شامخة تحيط بها، هي ميناء ومصانع ومعامل وعمران وعمارات باسقة وفن معماري متميز، وفرق كرة قدم ومجموعات موسيقية ومسرحية ومؤسسات علمية ومساجد وبيع وكنائس وأضرحة.. يحكون لنا، خلال هذا الشهر الكريم، شذرات من تاريخها التليد وحاضرها الذي يعد بالكثير …

 

معظم المؤرخين لم يشيروا إلى وجود المكون اليهودي بأنفا عند إعادة إعمارها في القرن الثامن عشر، فالذي يعلمه الجميع، وكما سبقت الإشارة إليه في ما سبق من هذه السلسلة الخاصة بتاريخ الدار البيضاء، أن أول من عمر الدار البيضاء بعد أن أمر السلطان سيدي محمد بن عبد الله ببناء سورها وأبراجها أثناء عودته من موكادور، هم جنود البخارى وأمازيغ حاحا، وكان ذلك بهدف حمايتها وتحصينها من أي غزو أجنبي، وأطلق عليها اسم الدار البيضاء، ولم يتم ذكر أي وجود لليهود بها في ذلك الوقت أي في سنة 1784م ، أو أن السلطان أسكنهم فيها كما فعل بمدينة الصويرة، لكن المدينة ستعرف، بفضل نشاطها التجاري الواعد، الهجرات المتتالية للقبائل المجاورة خصوصا من قبائل الشاوية التي أقيمت المدينة على أرضها، والتي كان أهلها يفرون، كغيرهم من باقي القبائل، إلى البيضاء هربا من قسوة العيش والجفاف ومن بطش القياد ..في نهاية القرن التاسع عشر ستعرف المدينة نشاطا تجاريا ملحوظا وذلك بفضل مرساها الذي يعد نقطة جذب للتجار والعمال من جميع مناطق المغرب بل حتى من الخارج ومن الأوربيين على وجه الخصوص، وكان الميناء إضافة إلى موقع المدينة المتميز، فهي تقع على شاطئ المحيط الأطلسي تحيط بها الأراضي الخصبة، سببا في نلك النقلة العملاقة التي حولتها من قرية صغيرة منسية إلى مدينة كبيرة بل أكبر مدن المغرب ..
هذا النزوح لم يستثن منه اليهود الباحثون بدورهم عن موقع قدم داخل هده المدينة الواعدة، ومع ما عرفته من توسع تجاري واقتصادي منذ احتلالها سنة1907 بعد انتفاضة الشاوية الدامية، ستستقبل يهودا من مختلف مناطق المغرب سينضافون إلى أولئك الموجودين هناك منذ القرن التاسع عشر أو قبله بقليل .
لقد كانت الأعمال والتجارة هما ما يجذبا اليهود إلى أنفا إضافة إلى البحث عن حماية الأوربيين لهم، وظلوا، لزمن طويل، يلعبون دور الوسيط بين الأوروبيين وزبنائهم المسلمين في معاملاتهم التجارية التي كانت تشمل في ما تشمل القمح والصوف وغيرهما، لقد كان اليهود، حسب ما أورده المؤرخون، متفوقين في بيع المواد الفلاحية وهو ما خول لهم الاتصال بالخارج وربط العلاقات الاقتصادية معهم مما جعلهم يلعبون دور الوسيط والوكيل لهؤلاء الأوربيين في المغرب، ففي فاس مثلا، يذكر المؤرخون، كان جميع بائعي الحبوب بالجملة وبمراكش يهودا، وبمراكش احتكروا تجارة اللوز الذي كانوا يصدرونه إلى انكلترا عن طريق موكادور وكان التجار الكبار في المدن يجدون في المجموعات اليهودية في القرى خير وسيط ووكيل لتيسير الأعمال وتسييرها مع زبنائهم من غير اليهود، كما أن درايتهم الكبيرة بالعادات المغربية ساهم في لعبهم أدوار أساسية في المعاملات التجارية بين الأوروبيين والمغاربة.
شكل اليهود بالدار البيضاء جزءا من المجتمع اليهودي في المغرب ككل وخلال موجات انتقالهم إلى البيضاء، كانت أبرز أنشطتهم تتمحور حول التجارة والحرف اليدوية، وكان هذا المجتمع اليهودي يعرف بنشاطه الاقتصادي والثقافي لكن مع مرور الوقت سوف تتأثر هويتهم مع باقي الثقافات المغربية الأخرى ليصبحوا جزءا لا يتجزأ من تاريخ المدينة، مساهمين، بشكل كبير، في تشكيل الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية لمدينة الدار البيضاء، لكن هذا الدور سيتراجع مع تحولات القرن العشرين والهجرة اليهودية نحو بلدان أخرى، ورغم ذلك تبقى آثارهم قائمة بالبيضاء، ويعتبر تأثيرهم جزءا مهما من تاريخ المدينة وتاريخ المغرب.
تذكر إحصائيات أن عدد اليهود بالدار البيضاء تضاعف بمقدار 5.7 مرة بين 1921 و1951 وب 5.5 مرة بين 1921و1960، وهي زيادة أكثر من الزيادة المسجلة في أعداد الأجانب ولكنها أقل من الزيادة المسجلة بين أعداد المسلمين بكثير.
وابتداء من سنة 1926 ستتفوق الدار البيضاء على مدن مثل مراكش بضمها لأكبر جالية يهودية في المغرب وفي سنة 1951 سيرتفع العدد أكثر.
يؤكد الباحثون في تاريخ اليهود بالمغرب، خصوصا الأجانب منهم مثل اندري آدم واندري دولا بورط دي فو، أن هؤلاء اليهود ينقسمون إلى مكونين اثنين لا ثالث لهما، اليهود الأوائل الذين استوطنوا المغرب في الأصل ويتواجدون بجبال الأطلس والمناطق النائية جاعلين من هذه المنطقة مقرا لهم ولمعيشهم، ثم اليهود الذين طردوا من الأندلس في القرن الخامس عشر، والذين فضلوا الإقامة في المدن خصوصا الساحلية منها، كما استقروا بدبدو وأيضا بفاس، وهؤلاء يكونون النخبة المثقفة التاجرة، وهم أكثر تحضرا من غيرهم، كما تواجدوا بكثرة في تطوان وطنجة وسلا والرباط ويمكن تمييزهم عن طريق ألقابهم الإسبانية «طوليدانو- بيريز..إلخ»…
أما بالنسبة للدار البيضاء فقد تميزت ساكنتها من اليهود بانتمائها إلى عدة مدن مختلفة من المغرب نزحت إليها إما للتجارة أو طلبا لحماية الأوربيين، ففي سنة 1907 كان بها جالية يهودية مكونة من تجار صغار ميسوري الحال ثم الرباطيين المشتغلين في تجارة الذهب، وكان التطوانيون والطنجويون هم من كان يكون بها الطبقة الارستقراطية، ومن بين أهم الأسر نجد عائلات التدكي –بن اصيراف-مورينو، ومن بين الطنجويون: بن زاكين –بن الصباح- طوليدانو)، أما تجارتهم فكانت تتمحور حول تجارة الفواكه الجافة والعطر، كما كانوا يحتكرون التعامل التجاري مع إسبانيا، واختص الآخرون، أي الطنجويون بتجارة الحبوب والجلد والفراوي، لقد كان التطوانيون والطنجويون فخورين بأصولهم الإسبانية، وهذا جعلهم ينظرون إلى إخوانهم في العقيدة بشيء من الكبرياء كما كانوا يتهمونهم بممارسة دين يمتزج بالوثنية.
لقد خلص الباحثون في التاريخ اليهودي بالدار البيضاء إلى أن أغلبية اليهود المقيمين بالدار البيضاء جاؤوا إلى البيضاء شأنهم شأن المسلمين من باقي البلد، وحددوا اتجاهات رئيسية لهذه الهجرة رغم عدم تمكنهم من الحصول على وثائق كاملة تخص هذا النزوح، وهكذا سجل ضابط الإدارة اليهودية الذي كان يراقب المقاطعة التي كان يقيم بها أكبر عدد من يهود الدار البيضاء بين سنة 1946-1948، أن عدد القادمين الجدد سنة 1946 بلغ 1188 و2081 سنة 1947و 1017 سنة 1948من بينهم 47 في المئة جاؤوا من المدن التي كانت تعتبر بلديات، في حين أن جميع المدن ممثلة تقريبا إلا تلك الموجودة بالمنطقة الإسبانية بسبب العلاقة المتوترة بين المنطقتين خلال تلك الحقبة من تاريخ المغرب.
فلم يسجل من مدينة طنجة التي كانت تمد سكانها اليهود بما يكفي للعيش إلا نازح واحد، وجاء من مدينة وجدة 32 مهاجرا و50مهاجرا من مكناس و 162 من الرباط سلا وبعثت سطات 152 وشاركت مدينة فاس ب 128 فردا، كما جاؤوا من أزمور إلى حدود أكادير وشاركت مراكش في هذه الهجرة ب 675مهاجرا ومازاكان ب 215 وموكادور 320 آسفي 166، أما من المناطق القروية فجاء من الشاوية إلى البيضاء 5 أفراد، ومن السهول الجنوبية الأطلسية 11 ومن تادلة 11 ومن الأطلس الكبير الغربي 49 ومن أودية دادس ودرعة ومن سوس و الأطلس الصغير 5 ومن مختلف النواحي 2 ، كما لم يسلم سكان الأحياء اليهودية بالشاوية من الوقوع تحت تأثير جاذبية الدار البيضاء وتمثل السهول الأطلسية الجنوبية أساسا بلاد السراغنة وسيدي رحال ثم وادي زم فالأطلس الكبير خصوصا من دمنات تانانت، وهما مركزان يهوديان موجودان على سفوح الجبال، ورغم أن اليهود الذين سكنوا المناطق الموجودة في أقصى غرب الأطلس ينجذبون أكثر نحو مراكش إلا أن الدار البيضاء تؤثر عليهم بشكل مباشر عن طريق تادلة وتأتي مجموعة من وارزازات، أما سوس والأطلس الصغير فكانت تسقط تحت جاذبية مدينتي أكادير ومراكش .
أما أسباب الهجرة فلا تختلف عن تلك الخاصة بالمسلمين « هي فائض من السكان غير قادر على أن يجد لقمة العيش ببلاد فقيرة فيتدفق نحو المدن الكبيرة. فائض فقط» أندري ادم، وقد أظهرت دراسات تمت في بداية الخمسينيات أن عدد الطوائف اليهودية بالجنوب بقي مستقرا (اندري دولا بورط دي فو «» ملاحظات حول سكان سوس اليهود» ثم بيير فلامان « بعض المعلومات الإحصائية حول السكان اليهود بالجنوب» …(
يتبع)


الكاتب : خديجة مشتري

  

بتاريخ : 26/03/2024