ليست الدار البيضاء مجرد مدينة أو حاضرة من الحواضر العادية، بل هي حكاية من حكايات هذا الزمن..مستمرة في المكان والزمان… لم تحكها شهرزاد ولم يتشوق لنهايتها شهريار .. أبطالها ليسوا جان ولا عفاريت، بل هم مجرد أناس عاديون، قذفتهم أقدارهم ليعيشوا وسط دروبها وليصنعوا تاريخها ..مناضلون ومقاومون للاستعمار دافعوا عنها وصنعوا مجدها، وأولياء صالحون حرسوا أحياءها.. سكان من جاليات مختلفة تلاقحت ثقافاتهم وسط أحيائها وأزقتها، أسوار وأبراج وأبواب دكتها مدافع الغزاة لكنها عادت لتقف شامخة تحيط بها، هي ميناء ومصانع ومعامل وعمران وعمارات باسقة وفن معماري متميز، وفرق كرة قدم ومجموعات موسيقية ومسرحية ومؤسسات علمية ومساجد وبيع وكنائس وأضرحة.. يحكون لنا، خلال هذا الشهر الكريم، شذرات من تاريخها التليد وحاضرها الذي يعد بالكثير …
لا تزال الدار البيضاء، تلك المدينة العملاقة المليونية التي تحولت في ظرف وجيز من الزمن، من تكتل سكاني بسيط إلى أكبر مدينة في المغرب والعاصمة الاقتصادية التي يحج إليها رجال المال والأعمال، وتضم المئات من المصانع والمؤسسات والشركات والماركات العالمية، متمكنة بذلك من أن تخطف الأضواء عن مدن عتيقة سبقتها إلى الوجود بقرون وقرون، مثل فاس ومراكش، لا تزال هذه المدينة لم تفصح بعد عن كل أسرارها، ولا تزال تحتفظ في جعبتها بالكثير من الحكايات والقصص والأحداث التي لا يعرفها السواد الأعظم من الناس…
في هذه الحلقة سنتحدث عن أوليائها الصالحين، الذين يصل عددهم إلى 32 وليا صالحا من بينهم ثلاث سيدات، عاشوا فيها وخلفوا وراءهم قصص صلاحهم وكراماتهم التي لم يعد الكثير يذكرها أو يتحدث عنها، قصص لا يستطيع المرء أن يميز فيها بين حدود الواقع والخيال بسبب ما يُضفى عليها من هالة القدسية والسمو المغلفة بالحب والاحترام الكبير لهؤلاء الرجال من طرف مريديهم ومحبيهم في كل البقاع، وكما هو معروف فالمغاربة احتفظوا لهم في قلوبهم بمكانة خاصة، فإذا كان المشرق أرض الأنبياء فإن المغرب أرض الأولياء كما يقال، ذلك أن ترابه يضم أضرحة 100 ألف من الأولياء الصالحين، حسب ما جاء في كتاب للصحفي محمد جنبوبي، ومن بين هؤلاء المائة ألف يوجد 32 وليا من بينهم ثلاث نساء صالحات، يرقدون في سلام بتربة الدار البيضاء، استأنس الناس بوجودهم واعتادوا على رؤية قبب أضرحتهم في دروبهم وأزقتهم وسموا أحياءهم بأسمائهم : « في المغرب لا يشكل مرأى ضريح أو مزار شيئا غير عاد أو مثير للانتباه فحيثما ولى المرء وجهه إلا ويصادف قبة أو «كركورا» وحوْش مزارة» يقول محمد جنبوبي في كتابه «الأولياء في المغرب.. الظاهرة بين التجليات والجذور التاريخية والسوسيوثقافية.. حياة وسير بعض مشاهير أولياء المغرب».
أشهر من نار على علم حي سيدي بليوط وقبة الضريح التي ترى عن بعد رغم أن العمارات الشاهقة جوار الميناء أحاطت به من كل جانب، ثم ضريح سيدي محمد مول الصبيان بشارع غاندي، وسيدي محمد مرس السلطان بشارع عبد المومن وسيدي فاتح وسط المدينة القديمة، وسيدي مبارك بوكدرة بحي الفيلات، وسيدي عبد الرحمان بشاطئ عين الذياب.. أحياء كاملة بالبيضاء أخذت أسماءها من أسماء أولياء صالحين بنيت أضرحتهم بها كحي سيدي مومن وحي البرنوصي وحي سيدي عثمان وحي سيدي الخدير وحي سيدي علال القيرواني وحي سيدي فاتح وحي سيدي معروف…
قد يتساءل البعض من أين للدار البيضاء بهؤلاء الأولياء الصالحين، وهي مدينة حديثة النشأة والعمران، في القرن الثامن عشر الميلادي، بعد أن دمرها البرتغاليون وحطموا مبانيها وتركوها أثرا بعد عين؟ لكننا نجد الجواب عند صاحب كتاب «عبير الزهور في تاريخ الدار البيضاء و ما أضيف إليها من أخبار أنفا والشاوية عبر العصور»، يقول هاشم المعروفي : «توجد في كل مدينة من مدن الإسلام أو قرية أو قبيلة مزارات مشهورة عندهم يتبركون بها ويقصدونها للزيارة الفينة بعد الفينة، ويتوسلون بأرواحها عند الله، وهكذا توجد في أقطار الإسلام شرقا وغربا، وهذه الأضرحة توجد لها تراجم خاصة في كتب مدونة يذكرون فيها بعض الكرامات للولي المترجم له وتاريخ وفاته، والدار البيضاء مدينة حديثة البناء جددها السلطان سيدي محمد بن عبد الله على أنقاض مدينة أنفا سنة 1199ه موافق 1782 ميلادية تقريبا، ومدينة أنفا هدمها البرتغال سنة 1468 ميلادية موافق 912 هجرية، وفي الدار البيضاء أضرحة ومزارات لمدينة أنفا بقيت قائمة لم يشملها الهدم والدليل على ذلك أولا، أني شخصيا وقفت على صورة لمدينة أنفا، وهي محطمة بريشة فنان مؤرخة بتاريخ 1515 ميلادية، وهذا التاريخ هو الذي رجع فيه البرتغال إلى أنفا بعد هدمها،
والصورة وجدتها عند الطبيب الدكتور سبيدير الرديولوجي بالدار البيضاء، وللأسف رجعت إلى الطبيب بعد مدة لنطلب نسخة منها فوجدته قد مات ونقلت أمتعته، فيعاين الرائي في هذه الصورة تراكم الأحجار لأنقاض الدور والمتاجر والفنادق، كما يعاين بعض مزارات الأولياء وصوامع المساجد لا زالت قائمة، والشيء الذي يدل على أن البرتغاليين عندما شرعوا في تحطيم المدينة احترموا الأضرحة والمزارات مع الصوامع قائمة لم يشملها الهدم، وترى صوامع المساجد مزخرفة بالنقوش مما يدل على حضارة سكان المدينة وتدينهم واعتنائهم بالمعاهد والمساجد، ثانيا، أن الحسن الوزان عندما زارها وهي محطمة شهد بمتانة بنائها وقيام بعض أضرحتها ومساجدها. ثالثا، لو كانت هذه الأضرحة وجدت بعد بناء الدار البيضاء لعرف سكانها تراجم أوليائهم وتواريخهم، ونقلوها لنا، وإن والدي رحمه الله نقل من الرباط بصفته عدلا إلى مدينة الدار البيضاء بنفس الوظيفة في ولاية السلطان مولاي الحسن سنة1295 هجرية موافق 1880 ميلادية يعني بعد تجديد الدار البيضاء لمدة تقل عن قرن..
ولاشك أنه وجد بها المستعمرين لها الذين جددت المدينة عليهم أو على أحفادهم، وكان رحمه الله مولعا كأهل زمانه بقصص كرامات الأولياء والصالحين لشدة تدينه، ولم يحدثنا، رحمه الله، بأنه نقل عن أحد من سكانها ترجمة أحد من أوليائها ولا تاريخه، الشيء الذي يدل على أن الدار البيضاء جددت على أضرحة أولياء مدينة أنفا، ولتعلق قلوب السكان بحب الأولياء والاعتقاد فيهم بقيت أسماء أولياء هذه الأضرحة محفوظة بالتواتر، ولا شك أنها بعد هدمها سكن في أطلالها سكان البوادي المجاورين لها غير أننا اهتدينا إلى ترجمة الولي الصالح سيدي بليوط، وهذه المزارات الموجودة بالدار البيضاء هي ضريح سيدي بليوط –أبوالليوث- ويوجد خارج سور مدينة الدار البيضاء قرب البحر وقرب محطة القطار في هذا العصر الحديث.
ثانيا، ضريح الولي الصالح سيدي علال القيرواني، وهذه التسمية بيت لنا أن أصله من القيروان، ويمكن أنه جاء من القيروان عند تخريب بني هلال لها وخروج بعض الأعيان منها، ومهاجرتهم إلى المغرب، وكان ذلك في القرن السادس من الهجرة، ويوحد ضريحه داخل سور المدينة العتيقة من جهة البحر.
ثالثا، ضريح سيدي فاتح ويوجد داخل المدينة القديمة أيضا.
رابعا : ضريح سيدي مبارك، ويوجد داخل المدينة العتيقة قرب باب مراكش، يحيط به مقبرة للأهالي القديمة وكان السلطان الراجل سيدي محمد بن يوسف، رحمه الله، أذن للفقيه السيد محمد الضرباني قي بناء مدرسة علمية في تلك المقبرة وشيد بها مدرسة، ونسبت إلى مشيدها الضرباني وتخرج منها عدة طلبة وطالبات…
خامسا، ضريح سيدي معروف كان قبل الاحتلال بالمقبرة العامة للأهالي التي كانت قرب ضريح أبي الليوث، وعندما اقتضت مصلحة بلدية مدينة الدار البيضاء بتعمير محل على تلك المقبرة ونبشت قبورها وجمعت في حفرة ، نقل جثمان سيدي معروف إلى المدينة الجديدة وبني عليه ضريح، وهو الآن سمي باسمه حي من أحياء الدار البيضاء الجديدة.
سادسا، ضريح سيدي بوسمارة، ويوجد داخل سور المدينة مجاورا للمسجد العتيق بها .
سابعا، ضريح للاتاجة، ويوجد داخل المدينة قرب جامع ولد الحمرا وباب المرسى …»..
(يتبع)