الاحتجاب القسري، الاحتجاب الاجتماعي l’invisibilité sociale ، التمييز، الاستغلال، التحرش، العنف، الوصم … تلك هي الكلمات المفتاحية الكبرى الناظمة لكتاب “travailleuses invisibles , les metiers de la discrimination au Maroc.” ، الصادر سنة 2022 عن دار النشر “En toutes lettres”. كلمات ليست كالكلمات لأن لها وجها وجسدا، وسرديات حياتية مثقلة بالمعاناة. وجوه وأجساد نساء عاملات وأجيرات يمتهن مهنا لا وجه اجتماعي وقانوني لها. مهن لا تهبهن المقدرة الاجتماعية للمشي مرفوعات الهامات، ولا الاعتراف القانوني لتتمكن أصواتهن من مغادرة جيوب صدورهن (مضيفات طيران، عاملات النسيج، عاملات زراعيات ، مربيات التعليم الأولي، عاملات معامل تعليب السردين، عاملات النظافة، شيخات، برميطات). تلك هي القسمة الاجتماعية اللعينة التي يستهدفها الكتاب بشكل هادئ وذكي ورصين .
تقديم للمايسترو هشام حذيفة مكثف ومؤطر لمجموع النصوص: مظالم عوالم العمل بالمغرب بنيوية. كل المعطيات الإحصائية تؤكد ذلك. قصدية الكتاب تعرية هذا الوضع عبر ترسيخ استراتيجية التكوين المؤهلة لممارسات صحفية فضلى مبنية على حسن العمل الميداني الصحفي و سلاسة أسلوب التدوين و الكتابة . القصد الأكبر من كل ذلك تجسير الصلة ،بفضل العمل الصحفي النوعي، بين الجامعة و المجتمع المدني وجعلهما مشتلا للممارسة النقدية المساهمة في تحرير رهائن ورهينات الاحتجاب الاجتماعي، ورفع درجات أفعالهم الاجتماعية من مستوى “الأفعال المبنية للمجهول “، غير القابلة للرؤية والاعتراف إلى مستوى المعلوم والمرئي. يتعلق الأمر بالموجز المفيد بحقهن في كرامة الوجه وحرية الصوت .
مضيفات رهينات
hotesses – hotages:
لست على علم، هل كان افتتاح الكتاب بنص أميمة جماد عن مضيفات الطيران وختمه بنص هشام حذيفة عن البارميطات مقصودا أم عفويا، لكن في كلا الحالتين، أضفى ذلك نوعا من ضبط إيقاع رحلة معاناة النساء العاملات من “السماوي” إلى “ الحفاري” .
لكن هل تعاني فعلا مضيفات الطائرات؟ هل يمكننا القبول بإدراج مهنتهن ضمن مهن التمييز والعنف والاستغلال …؟ هل هن نساء غير مرئيات؟ أسئلة غاضبة وساخرة يثيرها نص أميمة جماد . تلك أولى أمارات قوة النص وذكاء اختيار موضوعه .:احتكاك ومناوشة مع عنف الوعي اليومي الذي يمتلك مخزونا من المعارف الثابتة واليقينية عن مهنة مضيفة الطيران.
وبما أن الوعي اليومي موسوم بسمات عدة من بينها سمة سرعة وعنف الرد وصعوبة الاقتناع، فإن الإنصات له ومسايرته مؤقتا، ومنحه مساحة للظهور وفرصة لعرض قوله فرض عين علمي، مبتغاه وضعه وجها لوجه أمام المرآة كي يرى نفسه معكوسا فينطفئ غضبه ويمتص عنف قلقه ويستعيد يقظته. “ جمال وحرية ومال وسعادة … “. تلك هي توصيفات الوعي اليومي لمضيفة الطيران . وهي نفسها منطلق “أسطرتها” كامرأة وكمهنة، ومبتدأ تشكيل الصور والخيالات والاستيهات حولها . أمارة ثانية على قوة النص وذكاء معالجة موضوعه، إعلان منسي الوعي اليومي: “مضيفة الطيران مستخدمة وأجيرة في نهاية المطاف “ . حقيقة لا يمكن دحضها، ستشكل العتبة الأولى لبناء مواجهات المعنى بين حقيقة واقع وشروط عمل مضيفة الطيران، وما يلفها من تهيئات واستيهامات وخيالات . مواجهات المعنى بين معطيات القول والمعيش الميدانيين للمضيفات، ومعطيات العروض الاشهارية للشركات المستخدمة التي تغذي خيالات زبنائها وتفتن آمال وطموحات ومتمنيات الراغبات في ولوج سوقها .
ينقلب السحر على الساحر، إنهن مضيفات وهن يتحدثن بمرارة عن معيش التمييز بسبب السن والجنس ووزن وشكل الجسد والأصل الاجتماعي والإثني وبسبب النوع . تحرش ناعم وغير ناعم، تلبية دائمة للمطالب والخدمات، مرفوقة بابتسامة
ورشاقة جسدية منصوص عليها في “ دليل عمل مضيفات المقصورات “ الذي تصدره الشركة. هوس دائم بالحفاظ على الوزن المطلوب وتسريحة الشعر و “ماكياج” الوجه، بكل ما يستلزمه ذلك من نفقات خاصة . كل ذلك مرفوق دائما بقلق مغادرة المهنة، وتقلبات الراتب والأجرة المحكومة بتفاوت مردودية المواسم والتعرض للمخاطر ( وضعية كوفيد 19 مثلا ). كل ذلك تعرضه أممية جاد على لسان مبحوثاتها .
ونقول على لسان حال نصها المكثف والسلس و القوي، هن فعلا :
نساء تحرمهن مهنتهن الأسطورية من جسدهن الخاص (أرفع رأسمال)، و من حريتهن المعقولة أخلاقيا وقانونيا، (أرفع قيمة إنسانية). تلك هي مضيفة الطيران المرئيةl’hotesse visible التي تحجب عنا رؤية الرهينةl’hotage invisible.
عري الألم : عاملات النسيج والزراعة وتعليب السردين
مشترك النصوص الثلاثة لكل من صلاح الدين لمعيزي، (النسيج) وسارة الودغيري وكنزة صمود (عاملات الزراعة)، ودنيا لمسفر(تعليب السردين)، عنوانه العريض عري الألم وتوحش الرأسمال. نساء يشتغلن خارج الزمن والقانون والحق والعدل والكرامة. نساء مبنيات للمجهول، نكرات المجتمع والدولة. نساء من دون وجه ولا صوت، راضخات قسرا لاستبدادية سلطان الاحتجاب الشامل. هن فعلا على حد تعبير الباحث والباحثات معذبات الأرض ومستعبدات الزمن المعاصر، وحطب جحيم الرأسمالية المتوحشة. توصيفات تكثف تفاصيل زفرات ألم المبحوثات كما رصدتها النصوص الثلاثة .
في معامل النسيج هنالك نساء يمتن ببطء في الظلمة، وفتيات عاودت الموت الإقامة في أجسادهن للمرة الثالثة. فعوض أن يحصلن على شهادة نجاح من المدرسة، أصبحن ضمن عداد الوفيات المدرسية la mortalité scolaire المسماة خطأ وقصدا بالهدر المدرسي، وعوض أن يعشن بكرامة وسط أسرهن، اضطررن بحكم الموت الاجتماعي –الاقتصادي لأسرهن للعيش وسط معامل الموت. حاولن البحث عن حياة الكفاف والغنى عن الناس لكنهن سيلقين حتفهن وموتهن الثالثة والأخيرة وهن يزاولن عملهن.
مع عاملات الزراعة، لاداعي كي يتعب الباحث (ة) نفسه في البحث والتنقيب عن علامات ومؤشرات الاحتجاب الاجتماعي . محتجبات وغير مرئيات، ذاك توصيفهم الواقعي. إنهن يحملن إسم ونعت “ المقنعات “. مقنعات يقطنن حيا يحمل لقب “ دوار الهاربات “. هاربات من وصم وخطيئة وعار وحكايات جنس واغتصاب وحمل … وضع يجعل عيشهن اليومي مجروحا بمآسي البارحة ومفتوحا على استقبال كل أشكال الإكراه الاجتماعي والنفسي والجسدي .
نساء – علب تعملن على تعليب السردين في علب.وحينما تصدأ النساء – العلب توضعن خارج الخدمة. تلك قاعدة اقتصاد السوق، ومبدأ الأثرياء الجدد بالمغرب. اقتصاد السوق عموما لا أخلاق له ، لكن حينما يتزوج دولة أصم ومؤسسات عمياء، يصبح طاغية . مبحوثات “دنيا لمسفر” تكشفن شروط “ الحكرة “ والرعب والتخويف والاستغلال التي تشكل ، إلى جانب رائحة السردين، ثاني أوكسيد الكاربون الذي يملأ يوميا رئة العاملات ويخنق شرايين أجسادهن إلى أن يصدأن فيوضعن خارج المعمل إلى جانب العلب المهترئة.
نساء بارميطات بين لعنة شريعة السماء و تجاهل القانون الوضعي
نساء “ الحفاري”، كما ينعتن، هن نساء الحانات (البارميطات) اللائي سلط عليهن نص هشام حذيفة الضوء. نساء مغايرات لأنهن يعشن بين مطرقة لعنة الشريعة وسنديان القانون الوضعي. لعنة السماء تنزل عليهم كل يوم وليلة بحكم مهنتهن وأشكال مقاوماتهن اليومية للصمود فيها. نساء مقصودات أكثر من غيرهم بالحديث النبوي :” لعن الله الخمر وشاربها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه “ . لعنة تجعلهن في الوعي الجمعي “سلطانات الحفاري الملعونات”، الاقتراب منهن مرغوب والاقتران بهن منبوذ . هن صورة من صور “للاعيشة الساكنة في الحفاري”، سالبة الرجال وسارقة الأزواج، صاحبة ألف وجه ووجه ، وقاطنة مجاري المياه الحزينة .ظهورها سالب للوعي وتملكها سالب للإرادة .”قتالات” ومعشوقات من طرف الزبائن، لا طابو أو محرم يجثم على مساحات الكلام معهن. “خود راحتك “ هي الجملة السحرية التي تفتح بوابات العبور الملكي إلى بوح الشعور واللاشعور. منصتات وناصحات ومصلحات وداعيات ومدعوات … تلك هي متلطلبات المنطق العملي للمهنة وللحفرة. نساء يعري كلام مستجوبات هشام حذيفة معاناتهن المكتومة في صدورهن. ضحايا حتى العظم للتركيبة الخيميائية للقانون بالمغرب التي تتجاور فيها شريعة السماء مع قوانين الأرض داخل الدستور والقانون وأنظمة المؤسسات، وعلاقات المجال الخاص والعمومي . رؤوس البارميطات ملعونة وأقدامهن مغلولة. وضع يحجبهن ولا يسمح برؤيتهن كنساء وكأمهات وكعاملات وكادحات ومستغلات و محرومات من العيش بكل بساطة في واضحة النهار بكامل الكرامة. تلك روح كلامهن داخل النص، وذاك نمط عيشهن تحت ظل استبدادية حركة الزمن التي تسير بهن، مثل سفينة المجانين التي وصفها ميشال فوكو، إلى اللامجهول.
نساء عاملات (مضيفات ومربيات ومنظفات وشيخات وعاملات زراعة ونسيج وسردين وبارميطات وغيرهن كثير ) يؤثثن عالم العمل بالمغرب دون أن يحظين بالاعتراف الاجتماعي والقانوني الذي وحده الكفيل بتحريرهن من استبدادية سلطان الاحتجاب الاجتماعي، وجعلهن على مرمى ومسمع مؤسسات الحق والعدل والإنصاف والمساواة . فتحية لشباب وشابات هذا المؤلف الذين واللاتي أضفن فتح فجوة لإنارة وإضاءة معيش النساء ضمن مهن لا تبصرها قوانين العمل، ولا يكترث لها كثيرا الفاعلون والفاعلات في مجالات “الدفاع المدني”.
.