نعود بجمهورنا الكريم في هذه السلسلة الرمضانية، إلى بعض من المسارات التي عاشتها الأغنية الغيوانية، والتي إما مرت دون انتباه أو ستسرد لأول مرة، وهي مسارات ومحطات ندونها على لسان رواد المجموعات، والذين منهم من انتقل إلى دار البقاء ومنهم من مازال بين ظهرانينا يتمم الرسالة والمسير…
قرر عبد اللطيف الملاخ، رئيس جمعية «شبيبة الحمراء» مغادرتها ومغادرة «نواس الحمراء، أيضا»، لأسباب خاصة، ولم تكن هناك خلافات بينه وبين باقي أفرادها، فهو الرئيس، وهو من يوقع العقود، ويوزع الأجور على أعضاء الفرقة، بما في ذلك مصاريف الجيب، لتشكل بذلك سنة 1973، سنة مخاض بالنسبة لمجموعة «نواس الحمراء» – يقول عبد الكريم في سيرته الذاتية – فقبل تسجيل الألبوم الثالث لدى شركة «بوليدور»، وبالموازاة مع مغادرة الملاخ للفرقة والجمعية، وطرح سؤال أفق الجمعية، توفي محمد صعصع، عازف المجموعة بعد مرض مفاجئ لم يمهله طويلا، مباشرة بعد العودة من الدار البيضاء، حين كانت المجموعة تشتغل بمطعم «بالم بيش».
ستفقد المجموعة أحد أعمدتها، وهو عازف الفرقة محمد صعصع، كما سيغادر الملاخ الجمعية، ويستقيل أيضا من رئاسة مجموعة «نواس الحمراء»، وسط كل هذا سيتم اختيار عبد الجبار بلخياط، أحد قيدومي جمعية «شبيبة الحمراء»، رئيسا للجمعية وللمجموعة. عبد الجبار بلخياط بالمناسبة هو أخ الفنان القدير عبد الهادي بلخياط من أبيه، مهامه الجديدة ستتطلب منه توفير مكان لتهييئ الألبوم الجديد للفرقة، بالإضافة إلى البحث عن عازف جديد.
كان بلخياط يقوم بإدارة أعمال إحدى الأميرات الإنجليزيات بمدينة مراكش، وكانت هذه الأخيرة تتوفر على قصر صغير بمنطقة أوريكا، وقد كان يسكن بأحد منازل هذا القصر لما يسمح له بتدبير شؤونه وقد أهلته معرفته بالمنطقة للبحث عن منزل بمنطقة أوريكا، لتتمرن فيه فرقة «نواس الحمراء»، كما وقع اختياره، مع باقي أعضاء الفرقة، على عازف جديد، ولم يكن سوى حسن مفتاح، الذي أصبح فيما بعد هو عازف «جيل جيلالة»، إلى جانب محمود السعدي.
كان حسن مفتاح يشتغل إلي جانب محمد حمادي عضو فرقة «لمشاهب»، مع فرقة اسمها «أهل الحال»، فرقة تنهج نهج «جيل جيلالة» و«الغيوان»، وصادف أن هذه الفرقة تفرق أعضاؤها، فتم ضَمُّ حسن مفتاح إلى فرقة «نواس الحمراء» للتمرين معها وتسجيل الألبوم الجديد.في هذا الصدد يقول عبد الكريم: «بعد مجيء حسن مفتاح «أصبحنا نشتغل على المقامات أكثر ونتبحر فيها، وقد اجتهد على مستوى أصواتنا، وجعلها تتناغم عمليا مع الموسيقى، على عكس السابق، حيث كنا نعتمد فقط على الإيقاع، فحسن كان يعزف على آلتي البوزق والبانجو، وهما الآلتان اللتان سجلنا بهما العمل الجديد، وفي الحقيقة كان هذا هو أحسن تسجيل قمنا به، لأن الأعضاء تطور أداؤهم مع قدوم حسن مفتاح للمجموعة، وللإشارة في هذا الألبوم عزفت أنا على آلة السنتير التي تركها لي المرحوم محمد صعصع».
في تلك الخلوة باثنين أوريكا، أصبحنا نعتكف، من أجل الإعداد لأعمال أخرى، إذ بعد الألبوم الثالث الذي كان ناجحا جدا، سيلتحق بنا الفنان محمد حمادي، هذه المرة سيبدأ التهييئ لعمل كبير، وهي مسرحية غنائية بعنوان «شامة»، كتبها الزجال والشاعر محمد شهرمان، الذي كنت قد تعرفت عليه حينما استضافتنا «جيل جيلالة» بناديها بمدينة الدار البيضاء، عمد شهرمان إلى تركيب الأغاني التي نغنيها كمجموعة «نواس الحمراء»، وأدخل عليها حوارات وحكايات. وقد انضم إلينا للمشاركة في التمثيل، كل من محمد برحال، وعبد الكبير بلغازي، والأخت نجاة التي لا أذكر كنيتها، بالإضافة إلى عبد الجبار بلخياط. استغرقت فترة التدريب مدة غير هينة، وكانت أولى عروض هذا العمل بمسرح «عفيفي» بالجديدة، الذي كان يسمى بالمسرح «البلدي»، وقد لقي العمل إقبالا كبيرا، حيث كان المسرح يمتلئ عن آخره، بحكم أن مدينة الجديدة تعد قبلة معتادة لأهل مراكش في الصيف.
في هذه الفترة من سنة 1973، كانت علامات التصدع قد بدأت تظهر على مجموعة «نواس الحمراء»، ومن ملامح ذلك عدم مشاركة كل من عبد الكريم جوحر، وحسن جبول في مسرحية «شامة».
خلال العرض الثاني لمسرحية «شامة» بالمسرح البلدي بالجديدة، سيحضر كل من حميد الزوغي بمعية زوجته ماريا الصديقي، أخت رائد المسرح المغربي الطيب الصديقي، وعبد العزيز الطاهري.
مباشرة بعد الانتهاء من المسرحية سيلتحق الزوغي ومولاي عبد العزيز الطاهري بكواليس المسرح لتهنئة الفرقة على أدائها المتميز، لكن في الحقيقة لم يكن الهدف هو حضور العرض، إذ مباشرة بعد خروج الجميع من الكواليس وغرف الملابس، سيتوجه الزوغي إلى عبد الكريم مخاطباً إياه «تبارك لله عليك، ورَاهْ بغِيَنا نْشُوفُوكْ، وراه غايدَّاكرْ مْعَكْ مولاي عبد العزيز فيما بعد».
جميع أفراد «نواس الحمراء» فهموا إذاك بأن الزوغي يريد أن يضم عبد الكريم إلى مجموعة «جيل جيلالة»، دون أن يفصح أي أحد عما يدور بخلده.
بعد مغادرة الزوغي وماريا، توجه عبد الكريم والطاهري إلى بيت صديق عبد الكريم، وهو عبد الإله الشرايبي، الأخير صديق حميم لعبد الكريم، وكان يكتري منزلا في فصل الصيف بمدينة الجديدة، جلس الثلاثة ليطلعه مولاي عبد العزيز الطاهري بأن «جيل جيلالة» ترغب في انضمامه إليها، وبأن الزوغي لم يرد أن يفصح عن الأمر أمام الجميع في المسرح.
ورغم أن عبد الكريم أبدى الموافقة المبدئية لمولاي عبد العزيز الطاهري، إلا أنه في الحقيقة كان مترددا، الغريب في الأمر أن خبر لقاء الزوغي والطاهري بعبد الكريم وطلب انضمامه «لجيل جيلالة»، انتشر في كل أرجاء المدينة، وأصبح يتحدث عنه كل المصطافين، وهو ما زاد من انزعاج عبد الكريم الذي كان بين اختيارين سببا له صراعا داخليا، إذ كان يتساءل كيف سيتقبل أعضاء فرقة «نواس الحمراء» هذا الأمر؟ وهل سيستسيغون هذا المتغير الكبير؟ أم سيعتبرون الخطوة خيانة لهم، خاصة أنه كان أحد أعمدة المجموعة، لاسيما بعد أن غادرها آخرون؟
لم يجرؤ عبد الكريم على الإفصاح عن تردده لمولاي عبد العزيز الطاهري، الذي مكث رفقته طيلة ثلاثة أيام، لكنه مباشرة بعد أن أخبره الطاهري بالأمر سيقصد بمعية صديقه عبد الإله، منزل ابن عمه عبد اللطيف، الذي دعم الخطوات الفنية الأولى لعبد الكريم، وكان عبد اللطيف، رفقة عائلته، يقضي عطلته بمدينة الجديدة.
حيث شجع عبد اللطيف عبد الكريم على الالتحاق ب«جيل جيلالة» وكذلك عبد الإله، بعدما طمأناه بأن أعضاء فرقة «نواس الحمراء» لن يلوموه على قراره، لأن المجموعة تعيش بعض التصدعات، كما أن «جيل جيلالة» فرقة موسيقية كبيرة، وصيتها بدأ ينتشر داخل أقطار المغرب العربي وبعض الدول الأوربية، وأضحت، رفقة «ناس الغيوان»، رقما أساسيا في الساحة الفنية المغربية، وعروضها مطلوبة في كل المدن، لذا فالمستقبل الاحترافي مضمون، ثم إنها تضم بعضا من أعلام المسرح والموسيقى من أبناء مدينة مراكش، ممن لهم خبرة ودراية بهذا المجال.
يعود عبد الكريم إلى منزل عبد الإله، ورغم أن الطاهري كان يبيت معهما، إلا أن الموضوع لمْ يُثَرْ من جديد خلال فترة إقامة الطاهري مع عبد الكريم وعبد الإله، كانوا في كل صباح يتوجهون إلى الشاطئ لإجراء مقابلات في كرة القدم رفقة محمد الدرهم الذي كان يمضي بدوره عطلته في الجديدة، وأيضا رفقة لاعبي الدفاع الحسني الجديدي في تلك الفترة، ولاعبي الكوكب المراكشي.
كانت المباريات التي تقام بين بعض لاعبي الدفاع الجديدي والكوكب المراكشي ويشارك فيها الفنانون، يتابعها جمهور غفير من المصطافين، لما كان يتخللها من طرائف وفرجة. كانت تجمع بين لاعبي الفريقين والفنانين صداقة متينة. ففي مساء كل يوم، يجتمعون ويمرحون ويتبادلون الأحاديث. وقد استغرب عبد الكريم كثيرا عندما اكتشف أن لاعبي الفريقين يعلمون بخبر عرض «جيل جيلالة». كان من ضمن هؤلاء اللاعبين مصطفى روح السلام، وأحمد بابا مسجل هدف تتويج المغرب بكأس إفريقيا سنة 1976، والشريف، ومصطفى أمان الله، والسعيد بنحليمة، الذي كان يلعب ضمن فريق الشباب بالدفاع الجديدي وعن فريق الكوكب كان الحارس الشاوي، ولشهب وعزوز لقبر، كما يتذكر عبد الكريم، ينضاف إلى هذه الثلة من اللاعبين خلال السمر المسائي عدد من الأصدقاء، ضمنهم فنانون ورياضيون وإعلاميون، يذكر منهم عبد الكريم، عبد اللطيف بويميد، أخ الإعلامي بلعيد بويميد، كان هؤلاء خلال جلساتهم المسائية يشجعون عبد الكريم على الانضمام إلى «جيل جيلالة» بنفس المبررات التي قدمها له ابن عمه عبد اللطيف وصديقه عبد الإله. ومن طرائف هذه الحكاية، يقول عبد الكريم: «من بين الأمور التي كان يرتكز عليها لاعبو فريق الدفاع الحسني الجديدي لإقناعي بالانضمام إلى «جيل جيلالة»، كون الأخيرة تأسست بمنطقة درب السلطان، وكان معظم هؤلاء اللاعبين يحبون هذا الحي، لأنهم يتعاطفون مع فريق الرجاء البيضاوي، وتربطهم علاقة صداقة حميمة مع لاعبيه آنذاك».
«… هكذا تدخل الرياضي في الفني، لتكتمل صفوف «جيل جيلالة»،يختم عبد الكريم كلامه. وهذا من غرائب الأمور، لكنه في نفس الوقت يبين مدى التلاحم والتقارب بين الفنانين والرياضيين في تلك الحقبة، وكيف كان الرياضيون يعشقون هذا اللون الغنائي الذي ظهر به «ناس الغيوان» و«جيل جيلالة»، حتى أن السعيد بنحليمة كان يتنقل إلى الدارالبيضاء لحضور مباريات الرجاء البيضاوي، وفي نفس الوقت اقتناء الأسطوانات الجديدة ل«ناس الغيوان» و«جيل جيلالة»، ليسبق باقي زملائه في الاستماع لجديد المجموعتين.