هناك خيط ناظم يتمثل في الربط الجدلي بين إشكالات النظام التعليمي والنظام السياسي
نظم المكتب الإقليمي للنقابة الوطنية للتعليم بمقر(كدش) بالمحمدية حفل توقيع كتاب ” يجب الدفاع عن المدرسة العمومية “، ساهم في قراءته كل من عبد اللطيف قيلش وعبد الغني عارف بحضور مؤلف الكتاب علال بنلعربي، يوم 03 أبريل 2024 بمقر الكونفدرالية الديمقراطية للشغل. وفي ما يلي نقدم قراءة الأستاذ عبد اللطيف قيلش لكتاب “يجب الدفاع عن المدرسة العمومية”.
قراءة في كتاب “يجب الدفاع عن المدرسة العمومية “للأستاذ علال بنلعربي :بطاقة تقنية حول الكتاب:المطبعة:مطبعة النجاح الجديدة ،الدارالبيضاء-الطبعة 2024-الغلاف:ذ.يوسف الشاوي-عدد الصفحات 258 ضمنها 3صفحات للمراجع وصفحتان للفهرست-عدد المراجع :20كتابا بالعربية-كتاب واحد بالفرنسية-مجلتان بالعربية -مجلتان بالفرنسية-ملخص الرؤية الاستراتيجية-6تقارير. تقسيم الكتاب: مقدمة و34موضوعامعنونة على الشكل التالي: قضية التعليم قضية وطنية-في مفهوم التشخيص -التنمية المعاقة – بعض العناصر الأساسية المشكلة للأزمة البنيوية والمركبة للنظام التعليمي-الأسباب السياسية التي أفرزت الأزمة المركبة والبنيوية التي يعيشها النظام التعليمي بالمغرب-العائق الأكبر :كيفيات اختيار مهنة التدريس -هوية المصلح-الكذبة الكبرى-الزمن الوطني الضائع-الإرادة السياسية – علاقة الخطاب بالواقع -خطاب تربوي لايعكس الواقع-الأهمية الاستراتيجية للتربية والتعليم في تغيير المجتمعات-الدين والسياسة والتربية-اغتيال المفاهيم-محنة الفلسفة-الإجراءات العمليةالتي اتخذت للتضييق على الفلسفة-تسليع التربية والتعليم-شراكة قطاع عام/خاص-إصلاح التعليم:شرط ولوج عالم اليوم-المجانية والديموقراطية-معوق لابد من استحضاره-ممارسات تعوق الارتقاء الاجتماعي -المسؤولية السياسية الوطنية والمصلحة العامة-العنف داخل المؤسسات التعليمية-المدرسة وحدود بناء المواطنة-ازدواجية الخطاب:الارتباك وعدم الوضوح-في مفهوم العهد الجديد-آثار كورونا على التحصيل الدراسي وإشكالية الإصلاح الهيكلي للنظام التعليمي بالمغرب-الحق والواجب-ثلاثة مقتضيات وجب الانتباه إليها باستمرار-النخب ومسؤولياتها في إصلاح النظام التعليمي بالمغرب-موقع النظام التعليمي في النموذج التنموي الجديد-الأمل. معظم العناوين لم تكن محايدة بل تضمنت دلالة الموقف النقدي للكاتب(الكذبة الكبرى-الزمن الوطني الضائع-خطاب تربوي لايعكس الواقع-اغتيال المفاهيم-محنة الفلسفة…).لايعني ذلك أنها سقطت في الأحكام الجاهزة ،فالكتاب اتسم بالنقد والتشريح وتعزيز الرأي بالاستشهادات خصوصا التقارير الصادرة باسم مؤسسات دستورية (المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي-المجلس الأعلى للحسابات-المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي-تقرير اللجنة الخاصة للنموذج التنموي…)،وشهادات على وقائع بلسان أصحابها (مثال شهادة ذ.محمد شفيق).مايدل على الأمانة العلمية،الشيء الذي جعل الكتاب مقنعا بالرأي والاستدلال متسلحا بلغة الأرقام والمقارنات الفاضحة لزيف الخطاب الرسمي وللأعطاب البنيوية لمنظومة التربية والتعليم.كما أن ذ.علال بنلعربي لم يخض تجربة الكتابة بحياد الباحث ،فهي كما جاء في مقدمة الكتاب”نابعة في أصلها من الانشغال الوطني من موقع المسؤولية النقابية التي كان لي الشرف أن أتحملها ككاتب عام للنقابة الوطنية للتعليم المنضوية تحت لواء الكونفدرالية الديموقراطية للشغل،ومؤسسة على قناعة فكرية /سياسية بأن تغيير النظام التعليمي يعد شرطا ضروريا لتحقيق التنمية الشاملة المأمولة والبناء الديموقراطي ،والمرتكز الحاسم في تقدم وتطور البلاد وولوج عصرها المليء بالتحديات”،ومن ثمة فإن الكتاب مؤطر بخلفية نضالية فكرية سياسية منحازة إلى التوجه التقدمي الديموقراطي الحداثي ،في هذا الصدد ورد في الصفحة236″فإن السلطة المضادة لابد لها من أن تقوم بالأدوار الفكرية والسياسية والنضالية المنوطة بها،خاصة الحركات التقدمية الديموقراطية المعول عليها لمواجهة وضع تعليمي /تربوي لا يليق بالمغرب،وذلك من أجل حمل الدولة على الإصلاح …إن الحركة السياسية والنقابية التقدمية الحداثية التي تسعى إلى التغيير مطالبة بخوض معركة إصلاح النظام التعليمي..”.فرهان التغيير معقود على القوى التقدمية الحداثية سياسيا ونقابيا،وهو مايجسد الوضوح الفكري والسياسي .لم يكن صدفة أن يكون العنوان الأول في الكتاب”قضية التعليم قضية وطنية”،فدلالة هذا الاختيار للتأكيد على أن قضية التعليم”تسمو فوق كل الاعتبارات،وتتعالى على جميع الحسابات السياسية والأيديولوجية والدينية”كما ورد في الصفحة 9،فمستقبل المغرب وجوديا وحضاريا والتنمية المأمولة مرتبطة بقضية التعليم.في هذا الموضوع الذي شكل مدخلا تأطيريا لباقي المواضيع ،هناك نقد قوي للدولة ومسؤوليتها السياسية تاريخيا في أعطاب المنظومة والتي لم يحدث النظام السياسي القطيعة مع الماضي “فعلى الرغم من المتغيرات السياسية التي عرفها المغ ب في العقود الأخيرة،فإن الدولة لم تتحرر من قيود الماضي ومن كل العناصر التي كانت تطوقها وتشغل بالها فكريا وسياسيا …إن الحاضر لازال محاصرا بالنسق السياسي الماضي”ص 10،وهو مايعني أن الدولة تتفادى مامن شأنه أن يرفع من الوعي ويرسخ الفكر النقدي والعقلاني.يتعلق الأمر هنا بوظيفة الدولة وأدوارها ومسؤولياتها.إن طبيعة الأسئلة المطروحة حول الدولة ،أجاب عنها الفيلسوف “سبينوزا”في “رسالة في اللاهوت والسياسة”بخصوص أسسها التي تنبني عليها”إن الغاية القصوى من تأسيس الدولة ليست السيادة ،أوإرهاب الناس،أو جعلهم يقعون تحت نير الآخرين ،بل هي تحرير الفرد من الخوف بحيث يعيش كل فرد في أمان…ويحتفظ بحقه الطبيعي في الحياة وفي العمل دون إلحاق الضرر بالغير ..فالحرية إذن هي الغاية الحقيقية من قيام الدولة”ص 446.
لقد وقف الكتاب عند اختيارات الدولة بخصوص تسليع وخوصصة التربية والمتاجرة في هذه الخدمة العمومية من خلال “الربح المالي المفرط”، تجسيدا لمذهب الليبرالية الجديدة، واللجوء إلى شراكة قطاع عام/خاص بغاية “إخضاع كل إنتاج إنساني لمنطق اقتصاد السوق، وبالتالي لا ينبغي أن تظل الثقافة والفكر والتربية والتعليم خارج نسقه وتصوره العام، حتى الجامعات ينبغي أن تكون في خدمة المقاولة”وفق ماقاله “ألان دونو Alain Denaut”في كتاب “نظام التفاهة”.
وفي هذا الإطار تم إنشاء مؤسسات جامعية بمعايير دولية، رهانها تكوين نخب المستقبل، وهم مهندسو واستراتيجيو مغرب المستقبل، ما سيضع المغرب أمام”شرخ اجتماعي قوي وعنيف”، إذا كانت بعض المؤسسات الدستورية قد خصصت العديد من التقارير لتشخيص أعطاب النظام التربوي التعليمي، فإن هذا التشخيص يفقد قيمته وجدواه، بل يصبح غير مكتمل لأنه “لم يقف بالعقل النقدي السياسي على الأسباب السياسية والتاريخية والثقافية التي أدت إلى الوضع التعليمي الراهن، ولم يربط واقع النظام التعليمي بالنظام السياسي”.هناك خيط ناظم في الكتاب يتمثل في الربط الجدلي بين إشكالات النظام التعليمي والنظام السياسي، وأن الإصلاح مدخل للتنمية الشاملة.هناك تأكيد من طرف ذ.علال بنلعربي على الطابع البنيوي والمركب للأزمة، فكل قراءة للوضع التعليمي لا تتسلح بالمنهج النسقي الذي تم اعتماده في هذا الكتاب ستسقط في التجزيء، وهو منطق التكنوقراطي الذي يبحث عن أسباب أزمة النظام التعليمي داخله لا خارجه، كما جاء في الصفحة 20، أما الأسباب السياسية التي يعيشها النظام التعليمي بالمغرب، فهناك إحالة لكتاب “ميشيل فوكو” “يجب الدفاع عن المجتمع”، ومنه استعار المؤلف عنوان “يجب الدفاع عن المدرسة العمومية”. وتجدر الإشارة إلى أن كتاب “يجب الدفاع عن المجتمع ” هي دروس ألقيت في “collège de france” سنة 1976، وترجمه د.الزواوي بغورره/الطبعة الأولى 2003،وتطرق “ميشيل فوكو” إلى السلطة وآليات الاشتغال والضبط “في مقابل فرضية آلية السلطة القائمة على القمع، فرضية ثانية مفادها أن السلطة هي الحرب، هي الحرب المستمرة بوسائل أخرى . وفي هذه الحالة فإننا نعكس مأثور “كلوزفيتزCarl Von Clausweitz”(الحرب ليست إلا استمرارا للسياسة بوسائل أخرى )، ونقول إن السياسة هي استمرار للحرب بوسائل أخرى …إن للسلطة السياسية في هذه الفرضية دورا هو إعادة تثبيت دائم لعلاقة القوة هذه، وذلك بنوع من الحرب غير المعلنة أو الصامتة، تثبيتها في المؤسسات وفي التفاوت الاقتصادي وفي اللغة وفي أجساد البعض، وهذا هو المعنى الأولي لعملية قلب مأثور كلوزفيتزClausweitz”: السياسة هي استمرار للحرب بوسائل أخرى “ص 43. هذا المفهوم الذي حدده “ميشيل فوكو” في كتابه هو ما تم توظيفه في كتاب “يجب الدفاع عن المدرسة العمومية”، إذ اعتبر ذ.علال بنلعربي في الصفحة 33أن “جهاز التربية”و”جاهزيات المعرفة”من المحددات المركزية في تأطير الأفراد والمجتمعات والهيمنة القوية عليهما من طرف السلطة،وهما من أكبر الأسلحة وأقواها في ضبط حركية المجتمع وديناميته، وضمان ديمومة الضبط”.بهذا التصور تعاطت الدولة المخزنية مع النظام التعليمي لتوظيفه بغاية تثبيت وتكريس هيمنتها وسلطتها. إن طريقة اختيار مهنة التدريس التي تعد علامة بارزة على عدم وجود إرادة الإصلاح .الإصلاح الذي يتكرر كخطاب بدون ترجمة عملية يتحول إلى “كذبة كبرى” بتعبير المفكر الراحل محمد عابد الجابري ، ما يدل على أن”القرار السياسي الفعلي المقتنع بالإصلاح لم يتخذ بعد وأن علامات استفهام كبرى تطرح حول:(الإرادة السياسية)”ص 75.ما يستوجب إصلاح هياكل الدولة وهو ما لا يستقيم إلا مع فصل السلط ص75 . مايدل على أن أزمة التعليم من تجليات أزمة الديموقراطية.إذا كان التعليم يشكل رهانا استراتيجيا في تغيير المجتمعات ومستقبل الأمم فإن”الدولة مطالبة بالتخلص الكلي من تخوفها من أصلاح التعليم لأنه يؤدي إلى تغيير المجتمع .بل إن تغيير المجتمعات يقوي الدولة” ص87. إن مأساة المجتمعات العربية أنها أسيرة السلط الثلاث”القبيلة”و”الغنيمة”و” العقيدة”، ولم تتمكن من التخلص من قيودها رغم متغير السياقات بتعدد معطياتها، فالماضي ممتد في الحاضر، والحاضر محاصر بماضي بعيد، ص89. فإعاقات المجتمعات العربية مركبة، ما يجعل في نظري قضية التنوير مركزية في موضوع الديموقراطية، وانطلاقا من ذلك وقف كتاب”يجب الدفاع عن المدرسة العمومية “، على محور تم تناوله بجرأة فكرية وسياسية، ويبدو لي أن هذا النقاش ينبغي أن يحتضن مجتمعيا من طرف التنظيمات الديموقراطية، يتعلق الأمر بموضوع الدين والسياسة والتربية، بالنظر إلى أن السلطة وظفت الدين والتربية تاريخيا للهيمنة والتحكم ، وإن كان الكتاب اعتبر أن جميع الأطراف حسمت أمر فصل الدين عن السياسة “حماية لهما”، لتظل علاقة الدين بالتربية من أخطر المواضيع التي يجب الاهتمام بها ص93. في ظني أن الدولة أبعدت السياسة عن الدين في القانون التنظيمي رقم 29.11 المتعلق بالأحزاب السياسية في المادة 4استنادا إلى الفصل 7من الدستور”يعتبر باطلا كل تأسيس لحزب سياسي يرتكز على أساس ديني أو لغوي أو عرقي أو جهوي، أو بصفة عامة على أي أساس من التمييز أو المخالفة لحقوق الإنسان.يعتبر أيضا باطلا كل تأسيس لحزب سياسي يهدف إلى المساس بالدين الإسلامي أو بالنظام الملكي أو المبادئ الدستورية أو الأسس الديموقراطية أو الوحدة الوطنية أو الترابية للمملكة.”.لكن ظل الدين اختصاصا ملكيا من خلال الفصل 19في كل الدساتير منذ 1962 الذي تم تقسيمه إلى الفصلين 41و 42 في دستور 2011، من خلال حقل إمارة المؤمنين، كحقل يسمح بالتدخل في كل الشؤون ، فالملك الدستوري مجرد امتداد عصري لأمير المؤمنين ضمن الهندسة التقليدانية الدستورية المغربية بتعبير ذ.الراحل محمد معتصم في كتابه”النظام السياسي الدستوري المغربي”ص33 “فالملكية تأسست على مشروعيتين ، تتعلق الأولى بالموروث التاريخي المتمثل في الخلافة ،والمشروعية الثانية المتمثلة في التعاقد المستمد من الديموقراطية الليبرالية، وهما مشروعيتان متداخلتان إلى حد الالتباس بين طبيعة علاقتهما ،”قد يواجه المرء تصورا تقليديا داخل مجال من التدخل الحديث، أو على العكس من ذلك، يعثر على نظرة تحديثية تواجه حقلا تقليديا”(ذ.نورالدين أفاية،الديموقراطية المنقوصة، في ممكنات الخروج من التسلطية وعوائقه،ص155).كما تطرق ذ.محمد الطوزي في كتابه”الملكية والإسلام السياسي” إلى المشروعيات الثلاث كمرتكز للنظام السياسي المغربي، يتعلق الأمر بالمشروعيات الدينية والتقليدية والعقلانية، مع طغيان المشروعية الدينية ص75. وانطلاقا من ذلك أقدم النظام السياسي المغربي على إعادة هيكلة الحقل الديني لمعالجة أعطاب هذا الحقل على ضوء أحداث شتنبر 2001 بالولايات المتحدة الأمريكية، وأحداث 16ماي2003 بالمغرب.إن خطورة ربط الدين بالتربية تكمن في كما ورد في الصفحة 94 من كتاب “يجب الدفاع عن المدرسة العمومية” “تدريب العقل على الفكر النمطي وعلى ثقافة المطلق وتكريس الرؤية الأحادية، وسجن التلاميذ في دائرة مغلقة على الذات بالمنظور الضيق والنفعي للدين”.محور الدين والسياسة والتربية الذي خصص له الكاتب10صفحات غني بالأفكار وبنصوص تنويرية(علي أومليل-مونتيسكيو-ابن رشد-أمين معلوف …).لم يشتغل المؤلف على المضامين فقط، بل خصص 19 صفحة لنظام الخطاب من خلال عنوان”اغتيال المفاهيم”، وقف فيها بالنقد والتشريح على المفاهيم المؤسسة لخطاب الإصلاح وعددها21(تكافؤ الفرص-المساواة-العدل- الكفاءة محاربة الفساد-النزاهة-محاربة الريع-الحكامة-الإنصاف- الحداثة-الاستحقاق-المواطنة-الدولة الاجتماعية-الحرية-حقوق الإنسان-العدالة الاجتماعية-تطبيق القانون-الديموقراطية-إصلاح الإدارة-الاستثمار-الإصلاح)،وهي المفاهيم التي لا تجد طريقها في التنفيذ، وأظهر بالبرهان انهيارها ، وبانهيارها سقط خطاب الإصلاح. ضمن الاختناق الذي عاشه النظام التعليمي داخل النظام السياسي كان للفلسفة نصيبها المتمثل في محنة مصدرها “نظام سياسي منغلق على ذاته، مطوق بثقافة المخزن، معادي لأي إصلاح تربوي/تعليمي حداثي- ديموقراطي، منفتح على الفكر العقلاني، والعلوم الحديثة والتطورات المعرفية التي تعيش على إيقاعها الإنسانية”ص123.المحنة التي عاشتها الفلسفة على إثر القرار السياسي لسنة 1973 بتهميشها، وإغلاق معهد السوسيولوجيا بغاية إفراغ الجامعة من الدرس العقلاني وتكبيل العقل، لها جذور تاريخية، وقف عليها المؤلف من خلال الظهير الذي أصدره المولى محمد بن عبدالله(1775-1790)”الذي حرم علم الكلام ودراسة الفلسفة والمنطق”ص124.في موضوع الإجراءات العملية المتخذة للتضييق على الفلسفة ، مثلت شهادة ذ.الراحل نورالدين الصايل التي أدلى بها في حوار سابق مع مجلة Tel quel,حجة قوية بحكم موقعه الذي سمح له بالاطلاع على تفاصيل ماجرى ” لطي صفحة غرس التوجه الفكري النقدي /الحداثي/العقلاني/الإنساني، ليفتح الباب للإسلاميين الذين تحولوا إلى أدوات أيديولوجية مسخرة للنظام السياسي في كبح الفعل التنويري الذي تقوم به الفلسفة”ص134. إن الأخطاء المرتكبة من طرف الدولة لم يعد مسموحا بها اليوم، فشرط ولوج عالم اليوم يستوجب القرار السياسي الجريء لإصلاح التعليم، فالتحولات الكونية والتي ترخي بظلالها على عالم الشغل، خصوصا في ظل ثورة تكنولوجية رقمية، ومن تم فإن كل تردد في الموضوع سيؤدي إلى تكريس التخلف ويضعنا خارج النسق التاريخي الجديد”ص159. وعلى ضوء ذلك، هناك تحديات مطروحة تربط قضية التعليم وموضوع الإصلاح بالاختيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية،مايدل على أن موضوع المجانيةهو في عمق قضية الديموقراطية، والتفاوتات الاجتماعية تشكل مصدر التفاوتات التعليمية، ولعل تجربة الجائحة مليئة بالدروس في هذا الشأن. لذلك وجب معالجة الأسباب، فالتقييم الذي أجري لبرنامج الدعم خلص إلى أنه لم يستجب لحاجيات التلاميذ، وبالتالي لم يحقق المبتغى لأن “عمق الإشكال وجوهره المتمثل في ضرورة دمقرطة التعليم،ودمقرطة التعليم تتطلب المراجعة الشاملة والعميقة والجذرية للسياسات العمومية وفق اختيارات سياسية واستراتيجية جديدة، تربط بين الإصلاح الهيكلي للنظام التعليمي وإصلاح الوضع الاجتماعي”ص177. الاختيارات في مختلف قضايا التعليم ينبغي أن تتخلص من البعد الأيديولوجي، وأن تكون بمنظور وطني شامل ضمن مشروع مجتمعي، كما أن المسؤولية السياسية تقتضي استحضار المصلحة العامة، وهو الأمر الذي غيب في موضوع التعريب. إن الرؤية الشمولية كتعبير وتجسيد للمنهج النسقي أطرت كل المواضيع التي تم تناولها في كتاب”يجب الدفاع عن المدرسة العمومية”.لا يشعر القارئ أن المقاربة تسقط في تحليل القضايا بشكل معزول عن نسقها أوتجزيئها، فهناك ربط جدلي للعناصر المشكلة لكل موضوع ضمن كليته ونسقه.وهو السؤال المنهجي الحاضر في مختلف القضايا التي أثارها الكتاب، ولا يتعارض الأمر مع حضور المنهج التاريخي والمنهج المقارن في الكتاب، ومفهوم التحليل بتعدد العوامل باستبعاد التحليل الأحادي الجانب، ومفهوم ترحال المفاهيم le transfert des concepts، ومفهوم التناص l intertextualité، وهي مناهج وجهاز مفاهيمي وظفت بمنطق التكامل مع المنهج النسقي المركزي في الكتاب، حتى وإن لم يعلن عنها المؤلف.في موضوع العنف داخل المؤسسات التعليمية وجه المؤلف نقدا للتفسيرات الأحادية الجانب، فكما هو شأن كل الظواهر الاجتماعية وجب”استحضار كافة الأسباب والمحددات الاجتماعية والاقتصادية والسيكولوجية والثقافية المؤطرة بالسياسة كممارسة نظرية وعملية في تدبير الشأن العام”ص189.تشكو المدرسة من عقم الإنتاج، ما جعلها عاجزة عن بناء المواطنة لأنها معزولة ومنفصلة عن الواقع، فلا يمكن فصل المواطنة عن الديموقراطية، هي مرتكز المجتمع السياسي وأساس تكون المجتمع المدني، حسب قول ذ.كمال عبد اللطيف الوارد في الكتاب ص195.ليس غريبا أن يكون خطاب المسؤولين مطبوعا بالازدواجية، ففي غياب رؤية واضحة للإصلاح، واقتناع راسخ بالإصلاح، فالارتباك والمفارقة داخل الخطاب، وبين الخطاب والممارسة من تجليات عمق الأزمة المركبة. يترتب عن خطاب المفارقة كل أشكال التضليل والتبرير، وهو خطاب لا يصمد أمام معطيات الواقع، وهو مآل “مفهوم العهد الجديد”، الذي فندته المعطيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فشرط الانتقال من عهد قديم إلى عهد جديد هو”التغيير الشامل”، والحال أن مرتكزات العهد السابق راسخة في بنيات وهياكل الدولة .ص-204. لم يغيب الكتاب الجوانب التي تهم الحق والواجب في ربط جدلي بين الحقوق الإنسانية المواطنة وسيادة القانون، والصعوبات المعرقلة لمهنة التدريس، والإجراءات اللاتربوية الخاضعة لمنطق أمني (-التعاقد-الاكتظاظ تجميع المستويات-الانتقاص من ساعات التدريس..)، الحقوق المهضومة من قبيل التكوين الجيد والمستمر والسكن اللائق والتحفيز المادي والمعنوي والاستقرار الاجتماعي والنفسي والمهني للمدرس/المدرسة، وشروط العمل، والبنيات التحتية للمؤسسات التعليمية. يثير الكتاب الانتباه إلى المخاطر التي تتهدد المجتمع، يتعلق الأمر بالموضوع المركب المرتبط بتسليع التربية وتسليع السياسة وتسليع الدين(الصفحات 232-233-234) ضمن إخضاعهم لسلطة السوق، مع دعوة إلى المواجهة الجماعية وتعميق البحث في الموضوع، دون إغفال الإشارة إلى تخلي” السياسة وتنظيمات المجتمع السياسي ” عن أدوارهم ومهامهم، وتحولهم إلى”آلية منضبطة لحركية الدولة التي خضعت بدورها لمنطق السوق”ص234. وهو الرأي الذي أعززه بالأفكار التي عبر عنها”Jean Ziegler”في أحد أهم كتبه”les nouveaux maîtres du monde”في الصفحة177تحت عنوان”موت الدولةla mort de l’Etat” ” خوصصة العالم أضعفت قدرات الدول.وضعت البرلمانات والحكومات تحت الوصاية.أفرغت جل الانتخابات، وتقريبا كل الاقتراعات الشعبية من معناها ومضمونها”. على عاتق النخب مسؤولية إصلاح النظام التعليمي ،وهي التي قامت بمهام تاريخية بغابة دمقرطة الدولة والمجتمع، المقصود هنا النخب التقدمية، أملي أن ينفذ ذ.علال بنلعربي فكرة تخصيص كتاب للموضوع كما أشار إلى ذلك في الصفحة 235. إصلاح النظام التعليمي أحد مرتكزات البناء الديموقراطي وينبغي”أن يكون عن طريق الدولة، وبوعي ذاتي منها، كما هو الشأن بالنسبة لتجربة”الميجي”-باليابان،وإذا تعذر ذلك بسبب عدم وجود الإرادة السياسية …فإن السلطة المضادة لابد أن تقوم بالأدوار الفكرية والسياسية والنضالية المنوطة بها، خاصة الحركات التقدمية والديموقراطية”. ص236. إذا كانت اليابان قد أرخت لعالمها المعاصر مع تجربة “الميجي”، وحققت تقدما اقتصاديا، كما هو شأن الصين التي تحتل الرتبة الثانية، وتسير نحو احتلال الرتبة الأولى ،فإن ذ.علي أومليل يعتبر أن الصين واليابان حققتا”تقدما اقتصاديا هائلا، لكنهما لا تنتجان أفكارا كبرى مثلما تنتجان السلع، تتساوى في هذا اليابان المنفتحة والصين المنغلق نظامها السياسي”(أفكار مهاجرة،ص15).أما الرهان عن الدولة، فالأمر لا يعني الدولة المخزنية، فالكتاب حسم الموضوع سياسيا وثقافيا في الصفحتين -38و39من خلال عنوان:الثقافة المخزنية الملازمة للدولة ومعضلات النظام التعليمي بالمغرب بالاعتماد على نص ذ.عبد الله العروي من كتاب “من ديوان السياسة “، ونص ذ.حسن أوريد من كتاب”من أجل ثورة ثقافية بالمغرب”وشهادة ذ.محمد شفيق من كتاب”le métier d intellectuel”.وكان الاستنتاج أن” المخزن ليس بالمفهوم البسيط كما يعتقد في التداول الشائع، بل هو سلطة مركبة بآلياتها وأدوات عملها وقنواتها ومنهجية اشتغالها، فاعلة في المجتمع ومؤطرة له باعتماد التربية.إنها “هيكل اجتماعي ثقافي”…والثقافة المخزنية تتعارض كلية مع الفكر الحداثي الديموقراطي ،وتختلف اختلافا جوهريا مع مطلب بناء دولة المؤسسات، الدولة الحديثة والديموقراطية”ص39. فالأزمة مركبة، فهي أزمة الدولة وأزمة المجتمع والتنظيمات المجتمعية بما فيها أزمة الأحزاب السياسية الديموقراطية واليسارية، في هذا الصدد يقول ذ.عبد الإله بلقزيز”تصاب السياسة ،ويصاب العمل السياسي الحزبي بالأمراض عينها التي يصاب بها المجتمع والأسرة والمدرسة وغير هذه من التكوينات والمؤسسات الاجتماعية …وكما أن الأمراض تلم بالسياسة في نطاقها السلطوي،أي حين تمارسها سلطة حاكمة على غير القواعد التي عليها مبنى السياسة ،بمعناها المدني الحديث، فتكون في حينها سياسة غير سوية(مرضية)…كذلك تلم الأمراض بالسياسة في نطاقها المجتمعي ..حين ينزاح هذا أيضا عن قواعده المدنية المألوفة.”(نقد السياسة، في أمراض العمل السياسي ص20-21).بنفس النفس النقدي الذي تناول به الكتاب مختلف مكونات النظام التعليمي واختيارات الدولة ومخططاتها ،وقف على التقرير العام للنموذج التنموي مستنتجا من خلال تشريحه أنه “لم يخرج عن النسق الفكري العام الذي حكم صياغة التقارير السابقة الصادرة عن المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي “إن لم يكن تراجع عن مضامين بعض التقارير، فالنهضة التربوية لا تستقيم دون ربطها بالنهضة الوطنية التاريخية الشاملة. إن الكتاب مليء بالأسئلة ،وطرح إشكالات كبرى تستوجب فتح النقاش فيها بعمق فكري وسياسي وثقافي وتربوي. فالديموقراطية كمبتغى تشكو اليوم من أزمة في صيغتها التمثيلية، وهو إحدى التحديات المطروحة لمنح نفس استمرارية فكرة الديموقراطية، أمام تنامي صعود تيارات اليمين المتطرف الشعبوية، وأمام تراجع اليسار وفقدان العمل السياسي الحزبي للجاذبية، وأزمة النخب.فنقد الدولة لا يستبعد نقد الذات، وإخضاع التجارب التاريخية الوطنية والدولية للمراجعة النقدية. يتسم السياق بتعقيدات لا يمكن القفز عليها، في زمن اللايقين واللامتوقع، وأمام بربرية جديدة تختزل العلم في التقنية وتعدم الثقافة.هناك حاجة ملحة إلى نقاش حر ونقدي لا مكان فيه للمسلمات، في هذا الصدد يقول “إدغار موران”” Edgar Morin “حينما ننظر في يقينيات القرون السالفة، بما فيها اليقينيات العلمية، وحينما ننظر في يقينيات القرن العشرين، سنرى الأخطاء والأوهام التي اعتقدنا أنا منها براء، بيد أن لاشيء يشي أننا اليوم في مناعة من يقينيات جديدة لاجدوى منها، ومن أخطاء جديدة وأوهام لم يتم كشفها بعد.”(مدرسة الحياة-بيان من أجل تربية جديدة ص12). بنفس المناضل الممارس الحالم بمغرب الديموقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة، والمتسلح برؤية فكرية معرفية شكلت مرجعية الممارسة النقابية والسياسية، اختتم ذ.علال بنلعربي الكتاب بالأمل، كحلم تاريخي يقتضيه شرط الوجود، والثقة في جيل صاعد على عاتقه استكمال المهام التاريخية. الكتاب دعوة إلى المواجهة النضالية بأبعادها السياسية والنقابية والثقافية، مرتكزها المعرفة”من أجل الدفاع عن المدرسة العمومية”، وجوهر وعمق هذا الصراع هو”من أجل الدفاع عن المجتمع “، وهي الصلة الدلالية بين الكتابين، والفكرة المركزية التي أراد بعثها ذ.علال بنلعربي.