يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش،
إلى الآن، غربته الكبرى بين قيم التنوير وما يتأسس عليه وجوده وهويته الحضارية. ذلك أن الغرب أصبح، مع ما جرى خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، وما يجري الآن في غزة، وفي أكثر من بقعة على خارطة العالم، محلَّ تساؤلٍ مريب، بالنظر إى ازدواجيته الأخلاقية هو الذي يقدم نفسه بوصفه «التعبير الأرقى عن الكمال التاريخي للبشرية». بل إن عقل الغرب، كما يقول المفكر محمود حيدر، ينظر إلى التنوع الثقافي أو الحضاري «كَقَدَرٍ مذموم لا ينبغي الركون إليه. ومن هناك جاء التغاضي عن الجرائم ضد الإنسانية التي ترتكب هنا وهناك، وعلى رأسها ما يجري الآن للفلسطينيين على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي المدعومة بالفيتو والسلاح الأمريكيين..
هكذا لم يجد غزو العراق واحتلاله أرضية لتبريره على أساس الواقعية السياسية فحسب، بل وعلى أساس أخلاقيات «حرب مقدسة» محافظة جديدة أيضا،ً بل كان واقع الحال أن المخاوف الواقعيةّ حول التمدد المفرط من خلال الحملات العسكرية العالميّة المروِجة للحرية والديموقراطية ومن ثم العجز عن الوفاء بالتزامات هذه الحملات قد طرحت جانباً، وبدلاً من ذلك أصبح العراق «شراً مطلقاً» وتحول صدام حسين إلى هتلر (أو ستالين) جديد، كما تحولت الدبلوماسية وسياسات احتواء صدام حسين من خلال العقوبات إلى ضُرب من سياسات الإرضاء (التي اتبعت مع هتلر لبرهة من الزمن قبل الحرب العالمية الثانية)، فارتأى حَملةُ هذه الآراء أنّ استخدام القوة العسكرية الشديدة والوحشية أمر ضروري لمواجهة ذلك «الشر» وخلق فتحة تفسح المجال أمام عراق (بل وشرق أوسط) جديد وديموقراطي.
منذ عام 2003، احتدمت نقاشات كثيرة حول المحافظين الجدد في إدارة الرئيس بوش وخاصة حول إذا ما كانوا أتباعاً لفكر فيلسوف جامعة شيكاغو الراحل ليو شتراوس. تشمل إحدى العناصر الأساسية في فلسفة شتراوس السياسية فكرته في أنّ الأكاذيب أمر ضروري لتسهيل عمل المجتمع وانتصار الدولة في الحرب. لقد بدأت فكرة «الكذبة النبيلة» مع فكر أفلاطون وتشدد هذه الفكرة على أنّه في المجتمعات المفتوحة حيث يوجد مستوى عالٍ من النزعات الفردية والأنانية فمن الضروري للنخب أن تخلق «أساطير» تربط عناصر هذه المجتمعات بعضها بعضاً، فعلى سبيل المثال يجد القادة في بعض الأحيان أن من الضروري لهم أن «يضُخموا» الخطر الذي يشكله عدو ما ليوُحِدوا أهل البلاد خلف مبادرات سياساتهم الخارجية، وقد شعر بعض المراقبين أن المبالغة الأمريكية حول الخطر الذي يشكله الاتحاد السوفيتي قد أدى هذه الوظيفة. وكذلك فقد لعب تضخيم خطر صدام حسين وأسلحة الدمار الشامل التي يبنيها وربط نظامه مع تنظيم القاعدة دوراً مفيداً بالنسبة إلى المحافظين الجدد. أتاحت هذه التصرفات (الأكاذيب النبيلة) المجال أمام إدارة بوش كي تحشد البلاد بأسرها في الحرب والسعي وراء إستراتيجية عالمية تقوم على بناء إمبراطورية والترويج «للديموقراطية»، وقد اعتبر المحافظون الجدد هذه المبالغات (الأكاذيب) على أنهّا من ضروب الفضيلة لأنّ البلاد كانت منهمكة وقتئذ في معركة عالمية تقوم على أسس أخلاقية عُليا، أي الخير المحض ضد الشر المطلق. اعتبرت إدارة بوش أن تصرفاتها في العراق أخلاقية لأنها مبنيّة على حسابات (محافظة جديدة (تتعلق بما هو أفضل لمصالح الولايات المتحدة بعيدة المدى، وبررت تصرفاتها أثناء «الحرب على الإرهاب» ضمن إطار نفعي. فعلى سبيل المثال وثَّقت كل من منظمة العفو الدولية والصليب الأحمر وغيرها من المنظمات المعنية بحقوق الإنسان أدلة تشير إلى قيام الولايات المتحدة بأعمال تعذيب وتعامل وحشي ومُهين وغير إنساني في معتقل خليج غوانتانامو، فما كانت ردة فعل الإدارة الأمريكية إلاّ أن شنت حملة إعلامية على المنظمات والأفراد الذين أثاروا هذه القضية، فقال نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني أنّه يشعر «بالمهانة» إزاء كلام منتقدي الولايات المتحدة وأعلن قائلاً: «ضمن مدة حكم هذه الإدارة فقط تمكنا من تحرير خمسين مليون إنسان من طالبان في أفغانستان وصدام حسين في العراق، أي من نظامين قمعيين بشكل مريع كانا قد قتلا مئات الآلاف من مواطنيهم» (سي إنّ إن 2005)، لقد تعلمت الولايات المتحدة كيف «تكون شريرة» حتى تجلب الحرية والانعتاق إلى العالم!
من خلال تبرير إدارة بوش لسياساتها في العراق قامت بتوكيد «وُضوح موقفها الأخلاقي» حتى تبرر سياساتها القاسية، وقد علق مايكل وولزر، الذي قد يكون أبرز مفكر في العالم حول مفهوم «الحرب العادلة»، على الفرق بين «التبرير» (مثل ما تقدم به تشيني) و«العذر» قائلاً أنّ ذلك الأخير يكون عادة اعترافاً بالخطأ، أمّا الأول فليس كذلك (وولزر، 1973: 170)، وبالنسبة إلى صاحب النزعة النفعية الذي لا يرى إلاّ «المنفعة» التي تعود بها أفعاله فإنّه لا يجد أي حرج ولا يشعر بأي ذنب نتيجتها، فيزيح القوانين والمعايير المقبولة جانباً بل وينفيها تماماً في سبيل «هدفه الأعلى ،» فلماذا يشعر أحد ما بالذنب «طالما لا يرى أنّه ثمة أي سبب يدفعه إلى الشعور بالذنب؟ » )المصدر السابق: 172 ( وقد ظل هذا هو الموقف العام لإدارة بوش، فلربما تقر هذه الإدارة بوجود أخطاء أثناء تنفيذ سياسات الحرب في العراق ولكن وعلى العموم ظلت الإدارة تصرح بأنّ القضية كانت محقة وأنّ أفعال الولايات المتحدة تعكس نزاهتها الأخلاقية.
لا يشعر المراقب أنّ أعضاء إدارة بوش قد واجهوا أي مشكلة أخلاقية بسبب قراراتهم في أي وقت من الأوقات، بل لقد حافظوا على يقين يكاد يكون دينياً بأنّ سياساتهم كانت محقة وقد كان أسلوب تعاملهم هذا هو العكس التام للسياسي «الباحث في روحه وضميره» الذي يروج له وولزر، فقد دعا وولزر قادتنا السياسيين إلى التأمل بعمق في معايير عالية من الحشمة والأخلاق قبل شنِّ أي «حرب عادلة»، ومن نقاط الجدل التي أثارها وولزر قوله: «يحتاج السياسي صاحب الأيدي القذرة إلى أن يمتلك روحاً وضميراً، ومن الأفضل لنا جميعاً أن يحمل أملاً في الخلاص الشخصي بغض النظر عن نوع الخلاص الذي يتصوره ويأمل في حصوله » (المصدر السابق: 178).
المعايير الأخلاقية التي تحكم على النتائج والمعايير التي تحكم على السلوكيات لعل التقسيم الأساسي بين أنواع المعايير الأخلاقية هو تقسيمها إلى معايير تحكم على نتائج العمل وأهدافه ((consequentialist وأخرى تحكم على العمل نفسه أي على السلوك إذا ما كان ملتزماً بالمعايير الأخلاقية المقبولة(deontological) تركز نظريات الأخلاق العواقبية على مدى حُسن النتائج، وهي أهم النظريات المتعلقة بتجاوز الأهمية الأخلاقية، فمثلاً متبعو هذه النظريات يقولون أنّه من الخطأ لنا أن نمارس التعذيب لا لأنّ التعذيب أمر بغيض أخلاقياً بل لأن العالم الذي يقوم فيه الناس بممارسة التعذيب أسوأ من العالم الذي لا يقومون فيه بذلك، أو قد «يعقلن » العواقبي الحرب الوقائية بأنّها خاطئة أخلاقياً لأن العالم الذي تقوم فيه الأمم بشن حروب وقائية كما يحلو لها أسوأ من العالم الذي لا يحصل فيه ذلك، فما يحدد المعايير الأخلاقية هو النتائج وليس الوسائل المستخدمة في الوصول إليها، ويرتكز المذهب النفعي(Utilitarianism)، وهو أحد أوسع النظريات العواقبيّة تأثيراً، على مبدأ قائل بأنّ التصرف الصحيح هو الذي يُنتج المقدار. لا يجب علينا الخلط بين النزعة المحافظة الجديدة ونظريات العلاقات الدولية الجديدة التي كثيراً ما يطلق عليها أسماء: «الدولية الليبرالية» أو «المثالية»، فكلتا النزعتان تركزان على الأخلاقية في صياغة السياسة الخارجية ولكن القيم التي تروج لها كل نزعة هي العكس التام للنزعة الأخرى. فمثلاً يؤمن مظم المثاليين/الدوليين الليبراليين بالعمل المتعدد الجوانب والقانون الدولي والأخلاقيات الكونية وحقوق الإنسان الدولية ومصلحة الإنسان العالمية (بدلاً من المصالح القومية الجزئية)، ولا يؤمن المثاليون/الدوليون الليبراليون بأنه من الممكن لـ «الديموقراطية» و«الحرية» أن يفرضا بالقوة العسكرية وبناء الإمبراطوريات. والواقع هو أن المحافظين الجدد وبسبب إصرارهم على تثبيت وحماية وتعزيز التفوق الاقتصادي والعسكري لدولة واحدة، أي الولايات المتحدة، يظلون أقرب إلى الواقعيين السياسيين. أمّا المثاليون/الدوليون الليبراليون فيعتقدون أن مقاربة كهذه تؤدي في الواقع إلى زعزعة الاستقرار العالمي بما أنّها تتسبب بالصراع الدائم والعنف بين الدول.