« القصة القصيرة الجيدة تنتزعني من نفسي ثم تعيدني إليها بصعوبة ، لأن مقياسي قد تغير ، ولم أعد مرتاحا كما كنت قبلها».
° دفيد سيداري
رحيل المبدعين الكبار ينبهنا لمدى البياضات التي تبقى بعد فقدانهم وغيابهم، لم يعد بيننا محمد إبراهيم بوعلو أحد رواد القصة القصيرة المغربية الحديثة ، وهو مبدع زهد في الأضواء، اختار منذ زمن عزلته الاختيارية وتفرغ لإبداعاته وعطاءاته، أخلص لفن السرد القصصي، وكتب المسرح والرواية والسيناريو وأولى عناية كبرى للكتابة للأطفال وخصص لهم مجلة «أزهار» وكان كاتبها ومصممها ومخرجها، وقضى أكثر زهاء ستة عقود ، بين عمله الأساسي كأستاذ فلسفة وككاتب قاص لجنس القصة القصيرة، وأحد أقطاب مجلتين وازنتين في المشهد الثقافي المغربي هما مجلة « أقلام « ومجلة « فكر ونقد «، فضلا عن كونه مدرسا للفلسفة بجامعة محمد الخامس تتلمذت على يديه آجيال من الطلبة المبرزين أمسى لهم شأن يذكر في المحافل الأدبية والفكرية .
بدأ محافظا بمكتبة كلية الآداب بالرباط قبل أن يتدرج في السلك الجامعي، ويصبح أستاذا جامعيا مرموقا إلى أن تقاعد في أواخر التسعينيات .
لم يكن يركن كباقي الأساتذة إلى كرسي ثم يلقي درسه، كان يقدم درسه مشيا بين صفوف الطلبة بطريقة بيداغوجية ممتعة وجذابة، مما جعل درسه مطلب ومحج الطلبة المتتبعين والمتعطشين لصبيب الإدراك والمعرفة .
كان الراحل محمد إبراهيم بوعلو متعدد الشواغل والاهتمامات، وضمن كوكبة جيل من المثقفين العضوين والأدباء المنشدين لإبدالات الحداثة والتغيير، مستنير الرأي منفتحا على آفاق رحبة، متشبعا بثقافة موسوعية أغنتها مرجعياته الفلسفية العميقة وتجربته الثرة والغنية في شتى الحقول االإبداعية والجمالية. وقد أطلق مجلة « أقلام « الثقافية بمعية أحمد السطاتي ، وكانت حاضنة لحساسية جديدة ، عبر من خلالها دارسون وأدباء وشعرا ء مغاربة وعرب عن شواغلهم الإبداعية والبحثية في مضان شتى، مما جعل المجلة قبلة حملة الأقلام من مختلف المشارب والتوجهات ، وما فتئ أن توقفت عن الصدور من جراء مصادرات تعرضت لها عدة مجلات ومبادرات غضون سنوات وصفت بسنوات الرصاص . سرعان ما أردفت بمجلة « فكر ونقد « التي أسسها محمد إبراهيم بوعلو إلى جانب المفكر محمد عابد الجابري، فملأت فراغا وعززت الإعلام الثقافي وغنته بإضافات جديدة كانت الصحافة الثقافية في أمس الحاجة إليها ، في حين غيب غليان المرحلة العديد من المنابر الثقافية والأدبية.
وقد كان محمد إبرهيم بوعلو من الفعاليات القوية التي خدمت وناضلت وأرست تقاليد ثقافية وممارسات على قدر كبيرمن النجاعة والأهمية ، بل انتبه كاتبنا إلى ضرورة الكتابة للأطفال والفتيان وخصص لهم مجلة « أزهار « التي كان يشرف على فقرتها بنفسه، ومع الدكتور العمري أسس مجلة خاصة بالصحة :» المجلة الصحية «، في حين كانت معظم المجلات من هذا الصنف باللغة الفرنسية ومع عبد الجبار السحيمي والعربي المساري ومحمد برادة، أرسى مجلة « القصة والمسرح «.
انتصر كاتبنا للمهمشين والبسطاء وكان ينصت لهموم الطبقات الشعبية المغلوبة على أمرها، وانشد إحساسه الرهيف إلى قضاياها وهواجسها ونقل صور واقعية لأحوال فقرها المذقع، في إطار قوالب فنية جمالية يجعل واقعيته الصارخة واقعية سحرية جذابة، تنفّذ لقاع المجتمع متصيدة صور قوية على المعاناة التي تعيشها الطبقات الفقيرة المغلوبة على أمرها ، وحسبي أن أذكر نصا قصصا من مجموعة « السقف « موسوم بعنوان « الحذاء الجديد «فقد سعى بطل القصة بعد جهد جهيد لأن يقتني حذاء جديدا يملأ انتظاراته وأحلامه، ولما اشترى الحذاء ابتهج وفرح فرحا شديدا شاعرا بسعادة غامرة، فعبر عن غبطته لصاحب دكان يتعامل معه ، لكن صاحب الدكان صادر الحذاء الجديد وأودعه في خزانته ووعده بأن لا يرجعه حتى يسدد ما بذمته من ديون وأمام هذه المقايضة خاب حلمه وحرم من متعة ارتداء الحذاء الجديد منتهى أحلامه وتطلعاته .
تصور القصة مدى المحن المضاعفة للمرء الفقير الذي تقهره الخصاصة وضيق ذات اليد مع ثقل الديون وصعوبة نيل عيش طيب كريم .
رصد محمد إبراهيم بوعلو صورا من واقع مر، وقام بتسريدها بأسلوب شفاف مغرق في صدقيته وواقعيته وبلغة تستبطن الأغوار مع الإحساس الصادم بالغبن والقهر ، مما يجعل هذه النصوص تعبر بحق عن معاناة الطبقات المسحوقة، والاختيار الواقعي في الكتابة يدل على أمرين ، الدفاع عن قضايا البسطاء كمنحى يتطلبه الموقف والالتزام من جهة ورهان جمالي قوامه البساطة والواقعية تلك الواقعية تتوخى السهل الماتع والممتنع ، مما يجعل قصص محمد إبراهيم بوعلو متميزة وتحمل سمتها المتفردة والخاصة .
أخلص كاتبنا للسرد القصصي، وكان نشاطه الرئيسي، ومن مؤلفاته مجموعة قصصية تحمل عنوان « السقف « ومجموعة «الفارس والحصان» و»البناية الجديدة « و» الحوت والصياد « و»الجماعة» و» لأمر يهمك « و « الصورة الكبيرة «، وكان له السبق في كتابة القصة القصيرة جدا ويتجلى ذلك في مجموعته المائزة «50أقصوصة في خمسين دقيقة «، كما أنه كتب للمسرح مسرحيات عديدة منها « الجولة الأولى « و»أربعة طلاب» و»الاتفاق « و»عودة الأوباش « ودعونا نمثل «
قصص تتوخى السخرية والفكاهة السوداء – ومن شر البلية مايضحك – وتنحو منحى النزوع إلى الإيحاء والتكثيف والاقتصاد، والتنحي عن كل حشو يخدش ويسىء إلى الإيقاع القصصي ويفسد تدفقه المنساب .
رغم المنجز الإبداعي الثر في المضمار القصصي والمسرحي، لم يكن كاتبنا محظوظا ولم يلتفت إليه النقد إلا لماما ، بيد أن قصصه القصيرة توظف دراسيا في بعض المقررات المدرسية لما لها من ملائمة ومتعة وفائدة مناسبين للعملية التربوية التعليمية.
لقد اهتم محمد إبراهيم بوعلو بالطبقات الكادحة وأكثر من نقل صور البؤس الصادمة والمؤثرة .
ولعل أجمل تكريم يقدم لروح الفقيد هو السعي لطبع أعماله الكاملة، سواء القصصية أو المسرحيات أوما ترك من أدب موجه للناشئة ، فحملة القلم الصادقون لا يموتون بل يحيون وتسعى أرواحهم بيننا ، كلما فتحنا كتبهم وقرأنا ماسطروا من حروف ونبض يسري في قلوبنا وعقولنا أنوار إبداعية لا ينضب لها معين …