كل هاته التطورات تتنبأ بصعوبة تجاوز البعد الرعوي للمسؤولية بالرغم من تطورات الإطار المؤسساتي، الذي أصبح يتيح ذلك أكثر فأكثر، بما يعني ذلك دستورا جديدا وإنشاء المجلس الأعلى للقضاء، إعادة تنشيط المجلس الدستوري، برلمان بصلاحيات واسعة، انتخابات نزيهة، ومجتمع مدني دينامي. والمحطات الوحيدة التي ذهبت فيها آليات تحميل المسؤولية والمحاسبة عليها إلى نهاية مطافها تصادف اللحظات التراجيدية ..
تبين كثافة المدة الزمنية أول ملمح إمبراطوري مشترك ( بين الفرقاء)، بحيث إن المسار الطويل الذي أفضى إلى إعمال هيئة الإنصاف والمصالحة في 2004 امتد على مدى عهدين و15 سنة. فقد انطلق في 1990 مع إنشاء المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان من طرف الحسن الثاني نفسه، واستمر مع إصدار دستور جديد في 1996 والتناوب المتفاوض عليه في 1997 ، وإنشاء لجنة التحكيم في 1999 ، شهورا قليلة قبل وفاة الحسن الثاني.. وهذا التدرج لم يفرض فقط » من الأعلى من طرف سلطة مركزية كانت تسعى إلى الاحتفاظ بوضع اليد على المسلسل ومدى الإيقاع الذي يناسبها، بل صار ممكنا بفضل التنشئة الاجتماعية للفاعلين الجمعويين الرئيسيين، الذين كانوا، بفضل عملهم ونضالاتهم، قد بدأوا فيه، وتشجيعهم على تعلم مجريات أركان السلطة، وسبل اللعب بموازين القوى داخل هاته الأركان لفائدتهم. الأفضل من هذا ساعد التدرج على خلق ثقافة مشتركة وبناء نوع من التواطؤ بينهم، إذ كانوا هم أنفسهم من المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان إلى هيئة الإنصاف والمصالحة.. ولهذا فالثقافة المشتركة تدين للمسلسل إلى أن وصل إلى نهايته..
وقد تبين أن الطريقة التي تمت بها التمثيلية وتم بها تفعيلها كانت الطريقة الجوهرية الأساسية. بحيث إن تشكيل هيئة الإنصاف والمصالحة أظهر نوعا من الفرادة والتميز في التعيين على غرار ثراء وغنى طيف أعضائها: حيث تعايش فيها الخدام الأوفياء للسلطة، وإن كانوا متورطين مباشرة بشكل أقل، فإنهم مع ذلك معنيون بالممارسات القمعية، وضمت معارضين سابقين تعرضوا سابقا لمواجهة عنيفة وشرسة، رجال من اليسار وإسلاميون.
ولم تكن فكرة التمثيلية غير الانتخابية، المنبثقة عن معرفة لصيقة بالمجتمع وتنوعها فعل المخزن الوحيد، فقد شكلت، وقد اعتنقها مجموع الفاعلين، مثالا على تحييد التمرد، والذي يعتبر بدوره أكبر هندسات الحكومة الإمبراطورية، والتي تتحقق بفعل نشر الهيمنة الثقافية.
الميزة الإمبراطورية الثالثة هي القدرة على التعرف على هوية الوسطاء.، وهي تستند على معرفة جيدة بالأشخاص وبالتحكم في المعلومة في الوقت ذاته. ويعد إدريس بنزكري رمزا لذلك، الذي جسد لوحده تاريخ هيئة الإنصاف والمصالحة: فهو معتقل سياسي سابق، عصامي التكوين حاز هالة الضحية، تم الاعتراف به عالميا باعتباره مناضلا مدافعا عن حقوق الإنسان، له كفاءة واحترافية، نال تقدير الجميع بفضل دماثة طبعه وحزمه في المفاوضات. وقد فهم، على وجه الخصوص، وباعتباره سياسيا ذكيا، أن المطلب، مقاربة سياسية وليس أخلاقية للمسلسل الجاري من أجل إنجاحه، وخلاصة القول، كان رجل المرحلة المناسب للوضعية.
أما الميزة الإمبراطورية الرابعة والأخيرة، وهي ليست أقلها أهمية، تتمثل في قدرة السلطة المركزية على البقاء، باستمرار، على مسافة معينة، وبعيدة بشكل دائم. فقد مزجت بالسلطة اللينة بطريقة ناجعة، زاوجت في الوقت ذاته بين تفادي استعمال القوة بدون أن ترفع الشكوك التي كانت تحيط بمجريات المسلسل، والذي كان موضوع مفاوضات يومية ..
ويوضح فصلان اثنان هذه المهارة في العمل الذي يجمع بين المرونة والتكيف والتحكم في موازين القوة في إطار اللايقين. أول الفصلين جرى خلال جلسة الاستماع الأولى، التي كان مقررا أن يتحدث فيها الضحايا الأكثر تجسيدا للقمع والنضال من أجل الاعتراف بالجرائم المرتكبة.( حوار مع عبد الحي المودن(. وهو يبين التعايش بين الارتجال، الذي قد يصبح من بعد استراتيجيا، والمفاوضات السلسة للغاية. فقد تم الاتفاق وتفعيل الجلسات العمومية بعد مفاوضات طويلة، ولكن بدون الاتفاق حول طريقة تنفيذها عند المناقشة، ولما حان يوم الاستماع، وفي الوقت الذي كانت قاعة وزارة الأشغال العمومية المحتضنة لها بالرباط، لاحظ المنظمون، وهم يستعدون لتزيينها، بأن صورتي الحسن الثاني إلى جانب ولي العهد محمد السادس موجودتان من قبل. فقرر المنظمون إخفاء البورتريهين، لكن المكلف بالقاعة، صدمه الأمر وغضب له، فقام بنزع الإزاريْن اللذين غطياهما. وقتها اتصل المنظمون بفؤاد عالي الهمة، المستشار السياسي للملك وأقرب معاونيه، والذي قبل بأريحية وبدون مفاوضات سحب الصورتين.
الفصل الثاني، له علاقة بالشروط التي تم فيها تقديم توصيات المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان لأجل إنشاء هيئة الإنصاف والمصالحة، خلال جلسة تعرض فيها نتائج عمل تم على مستوى لجنة ضيقة.. وهذا الفصل يوضح حكمة ومهارة التفاوض في الكواليس، وقدرة المخزن على انتهاز الوقت المناسب لاختيار معسكره، أو على الأقل موقفه.. إن وصف وسرد هذه الجلسة ( حسب شوقي بنيون وبودرقة) توضح لنا أول ما توضح، الطريقة التي تتم بها المفاوضات القبلية، ومنها اللجوء إلى فاعلين معروفين( على غرار عمر عزيمان، المنحدر من أسرة مخزنية عريقة في تطوان، وهو أستاذ القانون وعضو مؤسس للمنظمة المغربية لحقوق الإنسان في السبعينيات، كعضو مستقل ومستشار الملك حاليا، ورئيس الجمعية الغنية مؤسسة الحسن الثاني للمغاربة المهاجرين) . وذلك من أجل نزع فتيل النزاعات والتوفيق بين الآراء المتضاربة . علاوة على سلطة تراقب من بعيد، كما يجسدها وسيط متكتم ولكنه يقظ ( وهو هنا محمد معتصم، رحمه الله، أستاذ القانون. وابن أسرة شعبية. كما أنه كان، رحمه الله، من الذين أدمجهم إدريس البصري في السرايا ووزيرا مكلفا بالعلاقة مع البرلمان وثم مستشارا ملكيا ومشرفا على اللجنة المكلفة بالدستور ) أمام منصة إمبراطورية تتكون من ممثلين لكل التيارات والمشارب المتفاوضة. كما أنه يكشف لنا القواعد الضرورية في بناء التسوية أي اللعب على التباس الوضع وتشويشه، التشجيع على بروز ثم مواجهة المواقف في ما بينها ـ بين من يريدون حصر الاعتراف بالانتهاكات في التعويض المادي، وبين الذين يرفضون الحديث عن آليات خصوصية، ولا يرون سوى تحميل المسؤولية الجنائية ـ( كان المحجوب أحرضان وإبراهيم الحكيم، أحد مؤسسي البوليزاريو سابقا ، ضد المحاسبة على تحميل المسؤولية ( وذلك لكي يوفر لنفسه الوقت الكافي لفهم التوازنات وموازين القوى ثم، وقتها فقط يعلن عن موقفه…