الدولة الوطنية والبعد الامبراطوري في ملكية محمد السادس -40- تحديد المسؤوليات، جبر الضرر، وحرية التوجه إلى القضاء

‬كل‭ ‬هاته‭ ‬التطورات‭ ‬تتنبأ‭ ‬بصعوبة‭ ‬تجاوز‭ ‬البعد‭ ‬الرعوي‭ ‬للمسؤولية‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬تطورات‭ ‬الإطار‭ ‬المؤسساتي،‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬يتيح‭ ‬ذلك‭ ‬أكثر‭ ‬فأكثر،‭ ‬بما‭ ‬يعني‭ ‬ذلك‭ ‬دستورا‭ ‬جديدا‭ ‬وإنشاء‭ ‬المجلس‭ ‬الأعلى‭ ‬للقضاء،‭ ‬إعادة‭ ‬تنشيط‭ ‬المجلس‭ ‬الدستوري،‭ ‬برلمان‭ ‬بصلاحيات‭ ‬واسعة،‭ ‬انتخابات‭ ‬نزيهة،‭ ‬ومجتمع‭ ‬مدني‭ ‬دينامي‭. ‬والمحطات‭ ‬الوحيدة‭ ‬التي‭ ‬ذهبت‭ ‬فيها‭ ‬آليات‭ ‬تحميل‭ ‬المسؤولية‭ ‬والمحاسبة‭ ‬عليها‭ ‬إلى‭ ‬نهاية‭ ‬مطافها‭ ‬تصادف‭ ‬اللحظات‭ ‬التراجيدية‭ ‬‮..‬

 

استندت التسوية ( التي تمت بين الفرقاء حول هيئة الإنصاف والمصالحة ) على صون العهد الجديد والالتزام بميثاق سياسي جديد. وقد استبدل البحث عن المسؤولية عن الجرائم المرتكبة بالاعتراف بها من طرف الدولة، والتخلي عن الإعلان عن المسؤولية الفردية للجلادين لم يمنع مقابل ذلك أن تطرح قضية المسؤولية بل أكثر من ذلك أن يتم تحملها.. أولا، لأن عمل التحريات بخصوص الاختفاءات القسرية يقتضي بداهة هاته المسؤوليات، وأن القبول بمبدأ الهيئة نفسها وكل الجبر المفترض، والذي تم تفعيله حقا من بعد، يشكل اعترافا ضمنيا بمسؤولية الدولة … ثم، لأن عمل هيئة الإنصاف والمصالحة لا يحل محل عمل العدالة، وأن بإمكان أي ضحية تملك الدليل أن تلجأ إلى العدالة بعيدا عن نتائج الهيئة وخلاصاتها..( النصوص التي تم بموجبها إنشاء هيئة الإنصاف والمصالحة لا غموض فيها، حيث أن عملها يتم خارج الهيئات القضائية بموجب ظهير 12 أبريل 2004.. وبما أنه لم يكن هناك كذلك أي عفو، فلا شيء كان يمنع الضحية من متابعة المسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان أمام القضاء شريطة أن يستوفي الشروط القانونية لذلك. وأما موقف بنزكري فقد كان واضحا بهذا الخصوص حيث صرح لجريدة الصباح : من يملك الحجج والدلائل ليس عليه أن ينتظر نتائج الهيئة، بل عليه التوجه إلى القضاء )… وهناك في النهاية، وعلى وجه الخصوص، الحجة المزدوجة ممثلة في الشرعية وفي الشمولية، أي أن التخلي عن تحميل المسؤوليات لأشخاص أو مؤسسات يجد تبريره، ليس فقط في إرادة احترام استقلالية القضاء ومبادئ دولة الحق والقانون، بل يجد تبريره كذلك في الاعتراف بمسؤولية »النظام »وبممارساته القمعية وبالسياق السياسي…
لقد نجح رهان بنزكري.. فتوصلت الهيئة، بفعل تواصل التحريات، إلى تحديد المسؤولين وترك الحرية للضحايا في متابعتهم، فرديا عبر الجهاز القضائي. وأساسا أن عملية الأرشفة التي تمت صارت تمنع أي تعتيم مستقبلا على هاته المسؤوليات..
وقد تم وضع أرشيفات الهيئة، المكونة من التسجيلات الصوتية غير المنشورة للعموم، كان للضحايا خلالها الحرية في تسمية جلاديهم ) وقد تم وضعها في الأرشيف الوطني.، والذي كان إنشاؤه هو نفسه توصية من الهيئة.. بعد مرور الوقت، لا يمكننا إلا أن نلاحظ السهولة التي تم بها الوصول إلى تسوية، بحيث أن تلاقي المصالح المتباينة، لكنها متوافقة في نهاية الأمر، تم حول نفس الفهم السياسي: السلطة المركزية كانت تسعى إلى صون المستقبل وتحصينه، ورجال السياسة لا سيما منهم الوطنيون كان من مصلحتهم تحديد المسؤوليات الفردية، الضحايا كانوا ينتظرون الاعتراف قبل كل شيء أما مهندسو الهيئة فقد كانوا يبحثون عن أفضل موقع وموقف ممكن للتأثير في الإصلاحات القادمة..
وبهذا المعنى، فإن تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة قد شكلت تقدما حقيقيا، بالإضافة إلى حجم الملفات التي التزمت بمعالجتها أثناء جبر الضرر، والشهادات المقيدة والقصص والرسميات التي صارت ممكنة، فقد اعترفت الدولة بمسؤوليتها.. ليس فقط إزاء الأشخاص بل إزاء جماعات ومناطق اعتبرت ضحية مباشرة أو غير مباشرة لسنوات الرصاص.. وهو مبدأ التعويض أو جبر الضرر الجماعي، والذي يعتبر أن مناطق ومجموعات بشرية تعرضت هي كذلك إلى التمييز، علاوة على عنف الدولة والانتهاكات الحقوقية المرتكبة ضد الأشخاص، بل إن مسؤولية الدولة تجسدت كذلك عبر إصلاح »الحكامة الأمنية التي مأسست عملية اتخاذ القرار داخل الأجهزة الأمنية، وأقر تسلسل القرارات تحديد المسؤوليات، وعبر إصلاح العدالة التي أدخلت مبدأ استقلالية النيابة العامة، ودسترة المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، الذي تحول إلى المجلس الوطني لحقوق الإنسان.. كهيئة أصبحت مستقلة.
والأهم من ذلك، أوحى عمل هيئة الإنصاف والمصالحة، في الدستور الذي جاء من بعد، بالفصول 22 و 23، بخصوص مسؤولية وقائع التعذيب.. بهذا الواقع لم تعد فقط جرائم بل أصبحت ذات صبغة شخصية تحمل مسؤوليتها الأفراد بما هم أفراد بعيدا عن أي أوامر تراتبية متى شكلت أفعالا غير مشروعة..


الكاتب : عرض وترجمة: عبد الحميد جماهري

  

بتاريخ : 04/05/2024