اسمه بُولَحْفَة*: أتذكر تقاسيم وجهه بدقة متناهية، كان يظهر ثم يختفي كالثعلب…
سمينٌ أبيض البشرة على عكس أهل قريتي…أفطس الأنف، أفلج، يضحك بصوت جهوري رنان، كتساقط البطاطس من كيس الخيش، ورغم ذلك كنا نحبه أنا وإخوتي ونفرح حين يَهِلُّ علينا، لمداعباته اللفظية الطفولية واندماجه في عالمنا الصغير دون تكلف، والحلوى المتنوعة التي كان يُغدقها علينا…على خلاف الأعمام والأقارب الذين كانوا يأتون إلى بيتنا دون حلاوة…أو اهتمام…
بولحفة: غريب الأطوار، يبدو في ظاهره كالسُّخَيْلَة * وفي زوايا عينيه الضيقتين بريق الحيوانات المفترسة، كان يتحاشى النظر إلى والدي ويهابه حين يوجه له بعض الأسئلة المقتضبة عن غيابه وسفره، وحتى حين نتناول طعام العشاء على ضوء الشمع…لا يستطيع النظر إليه…
يضحك مُداريا لإرضائه وهو يُمَدد شفته السفلى الغليظة …ويمسح لُعابه بإبهامه بطريقة آلية.
أدركنا بحدس « الصغار» أن والدي يعرف عن بولحفة أمورا غير لائقة، وكان يقبل ضيافته على مضض…
كان بالنسبة لنا ضيفا من نوع خاص: الحلوى، الصفارة، لعب الأطفال، وألبسة « الخوردة» الإسبانية…
كنا نتحلق حوله نهارا في غياب والدي، يحكي لنا عن مغامراته في « الخارج «* ويُخرج صفارة بيضاء متلألئة من ثنايا معطفه الغليظ وسراويله، يتفنن في نفخه في الصفارة، محدثا حشرة بمنخاره الواسع، واللعاب يطير رذاذا منها، وهو يستمتع بصفيره، وقد مدد رجله الوحيدة على أعشاب أرضنا تحت شجرة الزيتون ونحن نحدق إليه، واضعين أناملنا الصغيرة في آذاننا لأن معزوفات بولحفة مرهقة تدق طبلات آذاننا بقوة، ونتحمل ذلك كله في سبيل نفخة أو نفختين لكل واحد منا بصفارته، حين يُشبع ظمأه بالصفير…
عَلِقَتْ في أنفي رائحة كريهة، كلما سمعت صفير شرطي أو حارس ليلي يشبه صفيره أتجشأ، تغمرني تلك النتانة وأكاد أتقيأ…
فَقَدَ ساقه حسب رواية أهل القرية، في مغامرة سرقة لا تخطر على البال… كان يَصِلُ إلى الشمال مع المهاجرين السريين، يقطع المسافة الفاصلة إلى إسبانيا لجمع «المتلاشيات» وبيعها في الأسواق الشعبية: كسوة .نعال عسل .حلوى ولعب الأطفال…
اكتشف عن طريق أحد أقرانه أن ثكنة عسكرية إسبانية ملأى بالأسلحة، دفعه الطمع لمحاولة التسلل ليلا إليها وسرقة المسدسات الخفيفة لبيعها ، وترك المتلاشيات…
غامر تلك الليلة، يَدِبُّ على أربع باحثا عن منفذ إلى الثكنة جاهلا أنها مُسَيَّجة بألغام مدفونة…
بَتَرَ لغم ساقه اليسرى، أحدث دويا في الثكنة، نقله « الكفار» إلى المصحة، مكث هناك شهورا يعتنون به، حتى شُفي وعَوضوا ساقه المبتورة بأخرى من تقنيات الصحة الإسبانية، وبعد التحري تيقنوا من طيشه وتهوره، أطلقوا سراحه بشرط ألا تطأ قدمه اليمنى الأرض الإسبانية أبدا …
عاد بولحفة إلى القرية على رِجْل واحدة، صنع من حدث السرقة ملحمة خيالية، حتى كشف قرينه أمره…
بقي المدني على حاله، يشتري المتلاشيات ويبيعها في الأسواق…حتى اختفى نهائيا…
ترك في ذواتنا طعم الحلوى والاستعمار والروائح الإسبانية الكريهة…
***
*بولحفة: معناها بالأمازيغية؛ حافي القدمين.
*السخيلة: صغير الماعز.
*الخارج: كل بلد خارج الحدود المغربية.
* جل أحداث القصة واقعية، لا خيال فيها.