الحداثة الروائية

في خضم التداول اليوميّ الواسع لمفهوم «الحداثة» ضمن الحقل الثقافي، بات هذا المفهوم مُعرّضًا لضغوطٍ إيديولوجيةٍ وبراغماتيةٍ جمة، ممّا دفع الحقل الأكاديمي إلى اتّخاذ موقفٍ حذر في التعامل معه.
من بين الدلالات المُتّخذة لمفهوم «الحداثة»، ربطه بشكلٍ مُطلقٍ بِمُناهضة كلّما هو «قديم». إنّ توجيه الفهم في هذا الاتجاه يُفضي غالبًا إلى الانزلاق في فخّ القطيعة مع التراث الثقافيّ. وبالتالي، لا يمكن للحداثة أن تمتلك مفهومًا مُطلقًا للتحديث.
ينبثق من هذا المنظور أنّ الحداثة في الرواية المغربية تُمثّل سعيًا دؤوبًا لتجاوز النماذج الروائية السابقة دون الانقطاع عن جذورها في الموروث السردي الإبداعيّ الثريّ، الذي يشمل الحكايات، والسير الشعبية، والأساطير… في هذا السياق، لابدّ من التأكيد على أن تحديث الرواية العربية لا يقتصر على استيعاب الأشكال السردية المعاصرة من مختلف أنحاء العالم، بل يتجلى أيضًا من خلال التفاعل مع جوهر الكينونة الثقافية العربية والإسلامية، بما تحمله من ثروة هائلة من الإنتاجات المتنوعة.
يُمثّل المشهد الروائي المغربي الحالي لوحةً فسيفسائية نابضة بالحياة، حيث تتلاقى فيها محاولاتٌ جادّةٌ لإعادة صياغة الهوية الروائية المغربية، دون التخلّي عن جوهرها العريق. إنّ هذا المسار الإبداعي يُجسّد مفهوم الحداثة الحقيقي، القائم على التجديد لا التغيير الجذري، انطلاقًا من قاعدةٍ راسخةٍ في التراث.
يمكن اعتبار هذا التجديد بمسارٍ ذي اتجاهين: اتجاه استرجاعي ينهل من ينابيع التراث المغربي الغني، مُستلهمًا رموزه وقيمه وحكاياته، مُعيدًا صياغتها بأسلوبٍ مُعاصرٍ يُخاطب عقل القارئ الحديث. أمّا الاتجاه الآخر فهو استباقي، يتطلّع إلى المستقبل بأفكارٍ جديدةٍ وتقنياتٍ مُبتكرةٍ، مُتفاعلًا مع مُستجدّات العصر وهمومه.
إنّ التقاء هذين الاتجاهين، الاسترجاعي والاستباقي، هو ما يُضفي على الرواية المغربية الحديثة مظهرها الحداثي الفريد. فمن خلال هذا الحوار المُثمر بين الماضي والحاضر، تُصبح الرواية المغربية بمثابة جسرٍ يربط بين الأجيال، ويُحافظ على الهوية الوطنية مع الانفتاح على آفاقٍ إبداعيةٍ جديدة.
يُحيط بمفهوم «حداثة الرواية المغربية» سياقٌ غنيٌّ بالنقاشات والتباينات، حيث تتنوع وجهات النظر حول ماهية التحديث ومدى تحققه في هذا المجال الأدبيّ. وتعود هذه الاختلافات إلى جملةٍ من العوامل، منها:
أ – اختلاف زوايا النظر إلى طبيعة السيرورة الثقافية: يرى البعض أنّ الحداثة تعني التخلّص الكامل من التراث، بينما يرى آخرون أنّها تتمثّل في إعادة صياغة التراث بأسلوبٍ مُعاصرٍ.
ب – اختلاف قناعات المؤسسات والتكتلات الثقافية: تلعب المؤسسات الثقافية دورًا هامًا في تشكيل الرأي العام حول مفهوم الحداثة، وتختلف مواقفها من هذا المفهوم تبعًا لأيديولوجياتها وأهدافها.
نتيجةً لهذه الاختلافات، تظهر درجاتٌ متفاوتةٌ في قياس التحديث في الرواية المغربية. فمن ناحيةٍ، يُمكن القول إنّ الرواية المغربية قد حقّقت تقدمًا ملحوظًا في مجال التجديد، من خلال تبنّيها تقنياتٍ روائيةٍ جديدةٍ، ومعالجتها لقضايا مُعاصرةٍ بجرأةٍ وصدقٍ. أمّا من ناحيةٍ أخرى، يرى البعض أنّ هذا التحديث لا يزال محدودًا، وأنّ الرواية المغربية لم تتحرّر بشكلٍ كاملٍ من قيود الماضي.
إنّ هذا التباين في وجهات النظر يُثري النقاش حول مفهوم حداثة الرواية المغربية، ويُؤكّد على أهمية التعددية في المجال الثقافي. فمن خلال تبادل الأفكار والآراء، نستطيع الوصول إلى فهمٍ أعمقٍ لماهية الحداثة ودورها في تطوير الرواية المغربية. فلا تُعدّ رواية حديثةً حقًا إن لم تُحرّك مشاعر القارئ وتُثيره بِما هو جديد ومُذهل. كما أنّها تفقد ثوب الحداثة إن لم تُشعِر القارئ بِاتّصاله بِجذوره الضاربة في الماضي.
تتلبّس الحداثة هالة من الغموض، فتتداخل معانيها بين الجودة والأصالة، مقومات الإبداع الرفيعة، وبين روح العصر والإلهام المتجدد. فهل هي تناقض أم تكامل؟
إنّ الحداثة، بوصفها تراثًا فنيًا، تحمل قيمة تاريخية لا تُنكر. فهي تُمثّل إبداعًا عبّر عن عصره، ونبضه، وتطلّعاته، لكنّها، في الوقت ذاته، تتجاوز حدود زمنها، لتُصبح مصدر إلهام للأجيال اللاحقة، مُحفّزة على الإبداع والتجديد. ففي ثنايا الحداثة، تتجلى إبداعات فنية خالدة، تُجسّد قيم الجودة والأصالة. فهي تُمثّل ذروة مهارة الفنان وإتقانه، ونظرة ثاقبة تُعبّر عن جوهر التجربة الإنسانية. ولكنّ الحداثة لا تقف عند حدود الماضي، بل تمتدّ جسورها نحو المستقبل. ففيها ينهل المبدعون من ينابيع الإلهام، ليستنبطوا إبداعاتهم المُعاصرة، وليُسهموا في مسيرة التطور الفني. فالحداثة، إذن، ليست حبيسة زمنٍ واحد، بل هي رحلةٌ مُستمرة عبر العصور، تُحافظ على جذورها التاريخية، بينما تُشرق شمسها على آفاق الإبداع المُتجدّد.
وفي مجال الرواية، بالضبط، فإن الحداثة تتجلى في دمج العناصر الفنية الراسخة مع الانفتاح على آفاق التطور، سواء من خلال الاستلهام من نماذج إنسانية سابقة غنية، أو من خلال ابتكار أساليب سردية جديدة. وبمعنى آخر فإن الرواية الحداثية لا تنفصل عن تراثها، بل تتفاعل معه وتطوّره، فتُثري السرد وتُضفي عليه رونقًا فريدًا.
أما بالنسبة للرواية المغربية، ومن الناحية التاريخية، فقد نشأت بالتزامن مع ظهور مفهوم الحداثة، إلا أن ذلك لا يعني تطابق جميع نماذجها مع هذا المفهوم، فبعض الروايات اتخذت منحى تقليديًا، بينما انخرطت أخرى في تيارات حداثية تجريبية.
وخلاصة القول إن الحداثة تتخطى حدود التعريفات المقيدة، كما أنها لا تقتصرُ على زمنٍ مُحدّدٍ أو مكانٍ مُعيّنٍ، بل هي ظاهرةٌ ثقافيّةٌ عالميّةٌ تتّسمُ بالتّجديدِ والتّطوّرِ المستمرّ. ففي كلّ حقبةٍ زمنيّةٍ، تُطلّ علينا الحداثةُ بثوبٍ جديدٍ، مُتّخذةً أشكالًا مُتنوّعةً تُجسّدُ روحَ العصرِ وتُعبّرُ عن همومِ الإنسانِ المُعاصرِ.
لا تقتصرُ الحداثةُ على زمنٍ مُحدّدٍ أو مكانٍ مُعيّنٍ، بل هي ظاهرةٌ ثقافيّةٌ عالميّةٌ تتّسمُ بالتّجديدِ والتّطوّرِ المستمرّ. ففي كلّ حقبةٍ زمنيّةٍ، تُطلّ علينا الحداثةُ بثوبٍ جديدٍ، مُتّخذةً أشكالًا مُتنوّعةً تُجسّدُ روحَ العصرِ وتُعبّرُ عن همومِ الإنسانِ المُعاصرِ. وهي في الإبداع الروائي ليست مجرّدَ أسلوبٍ كتابيٍّ، بل هي فلسفةٌ شاملةٌ تُشكّلُ رؤيةً جديدةً للعالمِ وللمكانِ وللإنسانِ. فهي دعوةٌ إلى التّفكيرِ النّقديّ ومُواجهةِ المُسلّماتِ، وإعادةِ قراءةِ الواقعِ بعينٍ جديدةٍ.


الكاتب : حسن لمين

  

بتاريخ : 17/05/2024