النخيل الذي يثمر القصص

كنت أصغر مني بعشر سنين، وكان صوتي قد تعمد الرد بنبرة خشنة، أكبر من عمري، حين أخذ يجيب عن سؤال مسكوك صاغه أحد المتدخلين على مقاس مجحف يجعل من كتابة القصة القصيرة مجرد تمرين على كتابة الرواية: «لوكنت أعلم قبليا أنني سأكتب في الجنسين معا لكتبت ثلاث روايات قبل أن أكتب قصة واحدة».
تمنيت لو كان جوابي مقنعا حتى لا أضطر إلى الاستطراد، لكن الأمر سار على غير ما تمنيت، وسمعت، أنا الذي كنت أرغب في المغادرة لأنعش ذهني بطعم البن في أقرب مقهى، نبرة صوت صاحب السؤال نفسها وهو يدفع بالكلمات لتجلد أذني: «ولماذا نرى كتابا ينشرون عشرات القصص في مدة وجيزة، ثم يطلقون القصة القصيرة ولا يعودون إلى كتابتها بعد أن يتزوجوا الرواية؟»
ضاعفت تشبيهاته الخرقاء المقتبسة من مدونة الأسرة غضبي، فضاعفتُ حدة الخشونة في نبرة صوتي، واسترسلتُ في ما لم أكن أود الاسترسال فيه:
«أعني القصة القصيرة الحقة، وليس مجاميع الحكايات التي يجنسها كتابها بقصص.أعني القصة التي يتجدد الاستمتاع بها كلما أعيدت قراءتها كأنها واحد متعدد.ولا يستشعر صعوبة كتابتها إلا الذين يعلمون أن القصة القصيرة أقرب إلى القصيدة منها إلى الرواية والحكاية…»
سمعت الصوت نفسه يستغرب ما أقول، فلم أهتم بقوله وأكملت كلامي:»…إلا ذوو المجسات المرهفة القادرون على معرفة أن هذا الجنس الأدبي لا يقربه إلا المطهرون من الحشو والإطناب، إلا المتطلعون إلى الإبداع، وليس الراغبين في اجترار القوالب القصصية الجاهزة التي خلفها عظماء القصة، حتى أصبح الكم الهائل الذي ينشر مجرد متعدد واحد».
أنهيت كلامي ولم أنتظر لأسمع أي تعليق، ولا أن يشنف مسمعي أيُّ تصفيق، بل دفعت بكرسيِّ إلى الوراء وانسللت من خلف المنصة قاصدا باب القاعة لأدرك صديقي»هشام ناجح»،الذي زار مثلي مدينة زاگورة ليشارك في»ملتقى أحمد بوزفور للقصة القصيرة» الذي ينظمه»نادي الهامش القصصي». وقبل أن تجده عيناي، وجدتني يده التي وضع قبضتها على كتفي فالتفت شبه مذعور، ورأيت جدائله الشهيرة وقد بدت لي مثل راقصات ليالي البراري الإفريقية، اللواتي يدرن حول أنفسهن وحول النار في الوقت نفسه، وبدت عيناه حمراوين تشعان كأنهما قبس من تلك النار، فأدركت أنه يحاول أن يخمد، في صدره، أنفاس بركان تشي بسره أنفاس رئتيه الساخنة.
جذبت صديقي من اليد التي وضعها على كتفي واستعجلته كي نغادر الفندق دون أدنى توضيح؛فقد كان مدركا وجهتي، أنا الذي اعتدت كلما اشتقت لأميرتي السوداء أن أغادر الفندق بصحبته، ونمضي لنراقصها في إحدى مقاهي المدينة، لأن أميرة الفندق لا تجيد الرقص داخل الفنجان، وفي الطريق لابد أن نناقش أميرة السرد: القصة القصيرة. وكنت مدركا بدوري أن صديقي زاهد في الأميرة الأولى ومتشوق لمعانقة الأميرة الثانية.
ولأني كنت مستعجلا فقد سرت مهرولا عبر ممر يفضي مباشرة إلى بوابة الفندق، قبل أن أشعر بجسم غير مرئي يكبح اندفاعي بعد أن صدم جبيني؛ لقد كان بابا من زجاج شفاف ظننته فراغا. سمعت قهقهة مجلجلة ندّت عن حنجرة صديقي، فشعرت برغبة في تهشيمه هو والزجاج.
بدت لي زاكورة مدينة تسحر الأعين بأضواء مصابيحها الخافتة، وكأنها تتعمد الاكتفاء بما يشبه أضواء الشموع حتى تفسح المجال للسماء كي تعلن عن نجومها وقمرها. رفعت عيني موجها معي بصر صديقي نحو السماء محاولا في الوقت نفسه شد مسمعه إلى ما أخذت أتحدث عنه: «في ندوة اليوم تحدثتُ عن الواحد المتعدد والمتعدد الواحد، وأنا أرى الآن، في السماء، التجلي الصريح لما تحدثتُ عنه. كل النجوم التي تراها الآن هي متعدد واحد بيد أن القمر واحد متعدد، إنه اليوم هلال وبعد أيام سيكون تربيعا أول فأحدب متزايدا ثم بدرا، وبعدها يبدأ في التراجع إلى أن يصبح محاقا».
نظرت إلى صديقي ورأيته مستغرقا في التأمل، وحدست أنه أعجب بما قلت قبل أن يحبط نشوة هذا الحدس بتعقيب يصحح ما تلفظت به: «النجوم أيضا ليست متعددا واحدا، وأكيد أنك تدرك أن منطقة البروج تتجسد في أشكال متعددة تشكلها كوكبة الثور وكوكبة الأسد، وغيرهما».ثم نظر إلي ورآني مستغرقا في التأمل، وربما حدس هو أيضا أني أعجبت بما قال.
وقد كنت فعلا معجبا بتعقيبه، بيد أني أردت أن أحبط نشوة حدسه بدوري، فعقبت: «صحيح أننا نرى كويكبات نجوم متنوعة الأشكال، لكني أؤكد لك أن تلك الكويكبات مجرد هندسة تجريدية مشكلة في أدمغتها، ونحن من نقوم بإسقاطها على النجوم حتى نرى ما نريده وليس ما هو موجود فعليا، فبرج العذراء يراه بعض الناس امرأة رأسها جنوب نجم الصرفة وقدماها أمام الزباني على كتف برج الميزان».
وبعد أن أوشكتُ على إنهاء كلامي أحببتُ أن أوجه دفة الحديث إلى ناحية أخرى، فأضفت: «أما أنا فيحلو لي أن أراها امرأة راقصة، وهي في الحقيقة، كما غيرها، مجرد نجوم متناثرة في السماء».
تعمدت قول هذا راغبا في الدفع بنساء البراري اللواتي يرقصن على رأس صديقي، إلى السماء كي يشكلن لوحة رقص تحفز العذراء الراقصة على عطاء أكثر، وتشد اهتمام خيال صديقي المولع بالرقص والغناء. فكرت أن الرقص انتقل من الرأس إلى السماء، وعليّ أن أستعد للتحليق في حديث يمكننا أن ننهيه قبل أن نصل إلى المقهى.
وقبل أن ألتفت لأرى في ملامح وجهه وقع كلامي على مسمعه، جرني إلى حديث بعيد عن هذا الموضوع، قريب منه في الآن نفسه، واسترسلَ في الكلام: «لقد كتبتُ قصة بعنوان «الدنو من الواحد المتعدد فينا»، وأريد أن أقرأها عليك لأعرف رأيك قبل نشرها».
عقبت عليه: «اصمت أيها الراستافاري المرتد. لا تقرأ علي أي شيء إلا بعد أن أراقص أميرتي السوداء». ثم أخذت أفكر في العنوان الذي اختاره لقصته وأتأمل تركيبته، متسائلا في نفسي كيف استطاع هذا القاص المتوجس أن يمزج في عنوان قصته عنوان قصة «الدنو من المعتصم» لبورخيس، مع أيقونة هذا الأرجنتيني المبدع التي تكتنف كل درره القصصية: الواحد المتعدد، وكيف استطاع أن يجمع المتعدد في عنوان واحد؟
ولأني كنت أومن بالخوارق، فقد اعتقدت أن عنوان قصته قد جاء في هذا الوقت بالضبط ليبرهن على وجود قوى خفية تتواطأ سرا لتجعل من يومي قصة أخرى. وبدا لي أن وحدة الأثر والانطباع التي تحدث عنها إدغار ألان بو قد انتقلت من عالم القصة إلى الحقيقة، كي تدمغ يومي ببصمتها المتفردة.
التفت لأبوح له بهذا السر المكتشف، فوجدته قد غافلني وقصد نخلة من نخيل أحد المنازل وأخذ يرميها كطفل بالحجر حتى يظفر بتمرة ما. ولأني كنت أدرك أن كل سلوكاته طفولية، صرخت بأعلى صوتي: «تعال يا أوسكار، ستسبب لنا شجارا مع صاحب النخيل». وعوض أن يستجيب لندائي سألني بصفاقة: «عن أي أوسكار تتحدث؟» فأجبته غاضبا: «عن أوسكار بطل غونترغراس الذي رفض أن يكبر».
كانت رجلاي، وأنا أكلمه، تقربني منه. وما إن وصلتُ إليه حتى جذبته من ضفائره فشعرت بخشونتها تخدش كفي، وأدركت في الحال أن حاسة اللمس توحي بأفكار مختلفة عما توحي به العين، إذ بدا لي أن هناك تشابها فظيعا بين ضفائره وجذوع النخيل.وحفزني هذا الخاطر على الصراخ في وجهه: «في رأسك تنبت ألف نخلة، ومع ذلك تبحث عن تمرة في نخيل الآخرين».
وفي المقهى حررتُ أميرتي السوداء من الفنجان بعجالة، فشعرتُ بالرقص قد انتقل من داخل الفنجان إلى عمق رأسي. وعلى إيقاع هذا الرقص أخذتُ أنصتُ لصديقي وهو يقرأ قصته بصوت رخيم، وما إن سمعته يفتتح قصته بعزيزي بورخيس حتى همهمت: «هو بورخيس وراءنا وراءنا وأمامنا أمامنا هذا اليوم». قاطعني: «ماذا؟» عقبت: «لاشيء، أكمل أكمل».
أكمل قراءة قصته وسادت بيننا لحظة صمت مطبق. أذكر أنني اندهشت وأنا أستمع لتفاصيل العالم المشيد على الورق، وللسارد المشبع بالثقافة الشرقية الذي يعرّف الأرجنتيني بورخيس على تفاصيل ربما يجهلها عن ابن رشد، كأنه يريد أن يبرر الخطأ الذي وقع فيه ابن رشد في تعريفه التراجيديا والكوميديا، حتى يعيد الاعتبار لهذا الفيلسوف الذي أهين في قصة بورخيس «بحث ابن رشد».
حدقت فيه طويلا فبدا لي متهيبا هذا الجنس الأدبي الصعب، وبدت عيناه تتلهفان لردي على ما استمعت إليه. ولأني في جنس السرد لا أثق في أذنيّ، أخذت الورقة وشرعت أقرأ، وأنا أرى أميرة السرد ترقص على الورق مع الجاحظ وأرسطو وكونفوشيوس وعمر الخيام. أخذ الرقص يتصاعد فنيا على إيقاع أنغام زرياب، الذي كان يعزف تقاسيمه داخل رأس السارد.
لم أكسر لحظة الصمت بأي كلمة إلا بعدما انتصبتُ واقفا وانتصب صديقي أيضا. عانق جسدي النحيف جسده الأنحف (كنا نحيفين، في ذلك الزمن، كأن محاولة كتابة القصة تنهك الأجساد، وتمتص نسغها لتغذي به جسد السرد). وحينها فقط استرسلت في الكلام، مباركا إنجازه وقدرته على تطريز قصة رائعة. شع بريق الفرح من عينيه وفيهما، ودفع بكرسيه إلى الوراءوشرع يرقص رقصة زوربا الشهيرة، هو المتيم برائعة نيكوس كازانتزاكيس. حينها عرفتُ أنني مع مبدع حقيقي سيكبر في القصة، ويظل، هو الذي يرفض النمو، طفلا في الجسد.
غادرنا المقهى متمايلين كأننا احتسينا ترياق باخوس، لا نسغ أميرة الفناجين، مترنحين بخمرة أميرة السرد/القصة التي تُسكر المتيمين بها. لما وصلنا إلى الفندق، اخترنا الوقوف أمام الرصيف المقابل لبوابته المشرعة.بدت على ملامح صديقي آثار الفرح، التي من المؤكد أنها أخمدت ذلك البركان الذي كان على وشك الانفجار من صدره قبل أن يقرأ عليّ قصته، وتحركت شفتاه ربما لتتلفظ بما يمكن أن يعيدنا إلى النقاش حول القصة، فبادرت بالتلويح بإشارة من يدي فهم منها أنني اكتفيت بما ناقشناه.
أخذت أتأمل اللافتة التي تزين واجهة الفندق المرصعة بحروف فضية تومض بعبارة فندق «رياض السلام»، التي رأيت فيها تجليا للسلام الذي يلف كياني، وربما كيان صديقي أيضا. ثم التفت جهة بيت تحيط به شبه واحة من النخيل، فشعرت أني أريد أن أبوح لنخلة ما بهذا السر المكتشف: «قاص متمرس ينضاف إلى لائحة القصاصين المغاربة».
وربما لأنني مغرم بالتصادي، جنح بي خيالي إلى عالم متقابل مع حادث وقع أثناء ذهابنا إلى المقهى، في مفارقة عجيبة جعلت النخلة التي أردت أن أبوح لها بالسر ترمي ضفائر صديقي بالحجر كي تظفر بقصة ما. ولأني كنت أدرك نضج نخيل هذه المدينة وحكمته، صرختُ بأعلى صوتي: «اهدئي يا هيباتيا، ستسببين لنا شجارا مع صاحب الجدائل». وتخيلتها عوض أن تستجيب لندائي تسألني بصفاقة: «عن أي هيباتيا تتحدث؟» فأجبتها غاضبا: «إنها شخصية سبقت زمانها، شخصية أكبر من عمرها بكثير، عكس أوسكار الذي يتشبث بطفولته».
كنت أدرك أن جذعها وسعفها مثل ضفائر صديقي، فحفزني هذا الإدراك على الصراخ فيها: «في رأس جذعك تنبت ألف قصة، ومع ذلك تبحثين عن قصة في جدائل الآخرين».
الآن، وقد مرت هذه السنون كلها، ها أنذا أقف مع صديقي هشام في باحة الفندق نفسه، وقد تقدم بنا العمر وازداد وزن جسدينا، كأننا نحن من أصبحنا نتغذى بنسغ القصة. وها نحن نقرر الذهاب إلى المقهى نفسها التي كنا نرتادها في ذلك الماضي البعيد لنراقص الأميرة السوداء، لأن أميرة الفندق لم تتعلم بعد فن الرقص.
ولأنني، هذه المرة، لم أكن مستعجلا، فقد سرتُ متأنيا مع صديقي عبر الممر. ثم مددت يدي لأدفع الباب الزجاجي، فاندفعتُ في الهواء وكدت أسقط؛ لقد كان الباب مفتوحا وظننت الهواء زجاجا. توقعت أن يقهقه صديقي مثلما فعل في الماضي لكنه لم يفعل، بل اكتفى بالإعلان عن استغرابه الأمر بابتسامة خفيفة، ولم أشعر هذه المرة بالرغبة في تهشيم أي شيء، بل اكتفيت، بعد أن استحضرت تفاصيل ذلك الاصطدام القديم، بالتعليق على الأمر قائلا: «اللامرئي أيضا واحد متعدد».
وفي الطريق إلى المقهى،ها أنا أسمع من صديقي ما يمكن أن يشنف أذني: صدور قصة «الدنو من الواحد المتعدد فينا» ضمن مجموعة قصصية بعنوان «الدائرة التي ابتلعت السيد جون مايجر»،التي أعلم أنها مجموعة بديعة لأنني قرأت، سلفا، كل قصصها مخطوطة قبل أن تصدر في كتاب. وها أنا الآن أشعر أن الرقص الذي انتقل من شعر رأس صديقي إلى السماء، ومن السماء إلى الفنجان ومن ثمة إلى رأسي، وبعدها إلى الورق، قد انتقل، عبر الزمن أيضا، إلى حيث وقف جسدي الآن منتشيا كأنه تحول إلى أوسكار وزوربا في الوقت نفسه، وشرع، أمام دوروثينا*/القصة، يعبر عن فرحته رقصا.

دوروثينا: حبيبة أوسكار بطل غونترغراس


الكاتب : سعيد رضواني

  

بتاريخ : 31/05/2024