26 ماي 2024، مرّت حوالي تسعة شهور إلى حدود هذا التاريخ، والعديد من المواطنين يتواجدون داخل الخيام، تائهين بين الفصول، يلسعهم أجسادهم قرّ البرد ليلا وتلفحهم أشّعة الشمس نهارا. هنا في هذا المكان، كانت دقائق معدودة من تحرك الطبقات الأرضية، كافية لإسقاط دواوير بأكملها، وطرد أسر من منازلها. إنهم ضحايا زلزال الحوز.
مرّت الشهور، فقررنا في «الاتحاد الاشتراكي» أن نعود إلى بعض الأماكن التي عانت من تداعيات زلزال الحوز، وتحديدا إلى إقليم شيشاوة. هناك بجماعة الزاوية النحلية، التي يدخل في نطاقها مجموعة من الدواوير، متفرقة في الجبال، منازل الناس فيها من تراب، سقطت بالكامل، وصارت الخيام المحاطة بالبلاستيك بديلا لها.
هنا، لا مصانع ولا مرافق، ويعيشون من الزراعة البورية التي تقلّصت بشكل كبير بسبب الجفاف، ومن تربية الماشية التي أخذ الزلزال جلها، وبقي القليل، ولم يتبق أمام هذا الوضع سوى الرحيل بعيدا، لمن استطاع إلى ذلك سبيلا، للبحث عن مصدر للعيش والبدء من نقطة الصفر.
منعطف الألم
التقينا «نجيب»، وهو طالب يبلغ من العمر خمسة وعشرين سنة، ابن هذه المنطقة، مرتبط ارتباطا وجوديا مع المكان والناس، الذي حدثنا عن وضع المتضررين بعد طول هذه المدة؛ «أولا الشكر الجزيل لكم على اهتمامكم بالمتضررين من الزلزال، بطبيعة الحال لقد عشنا معاناة صعبة جدا، فقد أصبح الناس بين ليلة وضحاها مشردين بلا مسكن وبلا مأوى. هناك من فقد عائلته، وهناك من فقد منزله ورأسماله وصار مشردا في بلاده».
وأضاف نجيب في تصريحه للجريدة قائلا، في البداية «لم تكن هناك خيام، بالتالي اضطر البعض إلى النوم في العراء، بعد ذلك تم توفيرها من طرف المحسنين. حاولنا مسايرة الوضع، لكن بعد دخول موجات البرد القارس لم نستطع الصمود في الخيام، خاصة أن هذه المنطقة جبلية يشتد فيها البرد أكثر بسبب علوها، لهذا فهناك من غادر المكان وهناك من ترك العمل في المدن المجاورة، ليستقر قرب أبنائه، بعد أن فقدوا منزلهم».
عراء وضرر
في ظل هذا الوضع، أوضح نجيب بأن هناك من «استرسل في إعادة البناء، وهم أقلّية، وذلك بالحصول على الدعم الموجه للمتضررين، بينما مازال معظم القاطنين هنا، داخل الخيام». وتحدث محدثنا عن هذا الأمر قائلا؛ «بالنسبة للدعم الذي تم الإعلان عنه، هو موجود فعلا، لكنه يعطى بما وصفه نجيب بشكل يطرح أكثرمن علامة استفهام»، مشيرا إلى أن هناك من حصلوا عليه وبدأو حقا في عملية البناء، في حين ان هناك من فقد بيته بكامله ولم يحصل على الدعم الكامل المتمثل في 700 ألف درهم، وتحصّل فقط على المبلغ المخصص للإصلاح رغم أنهم هدموا منزله، وهناك فئة ثالثة لم تستفد من هذا الدعم بعد بشكل كلي»؟
تمدرس يطبعه «التردد»
يعتبر الأطفال من الفئات المتضررة من تبعات الزلزال، لأن هناك من سلموا ونجوا من الانهيارات وكُتب لهم عمر جديد. هؤلاء وجدنا عددا منهم يلعبون بين الخيام غير مكترثين بما يدور من حولهم، وتبيّن لنا ونحن نستفسر عن أوضاعهم، أنهم يدرسون بقسمين اثنين، أو لنقل حجرتين دراسيتين، تجتمع فيهما كل الفصول والمستويات، وإذا كان عدد منعم يواظبون على الدراسة والتعليم فإن فئة منهم انقطعت عن التوجه إلى هذه الأقسام لنفسيتهم ونفسية وآبائهم، التي أصابها «شرخ كبير» بعد أن شاهدوا بيوتهم تتحول إلى حطام وركام.
الوضع لا يبشر بالخير، ويُسقط كل تأويل بعيد عن الواقع، ولم نكن نريد أن نكون جازمين أو حاسمين في الأمر، لذلك قررنا التوجه إلى المجال الحضري ونحو إقليم آخر، وكانت وجهتنا وسط مدينة «أمزميز» بإقليم الحوز. تم سحب ركام المنازل التي سقطت بالكامل قرب الشوارع، ومنازل اخرى ظلت محتضنة ركامها. وجدنا مخيمات المتضررين ما زالت منصوبة، متفرقة كأحياء هنا وهناك، كأن الواقعة حدثت بالأمس.
حديث مقتضب وصعوبات شتى
إذا كان نجيب قد تحدث بأريحية نوعا ما، فإن البقية أبدى عدد منهم تحفظات، لعوامل مختلفة لم يخفها البعض وطلب عدم الإشارة إليها، فقررنا التجوّل أكثر داخل المخيم، فوجدنا في وسطه مجرى لتصريف المخلفات، وبعض الأسر تتوجه إلى ما تبقى من مساكنها نهار ولا تعود إلى الخيام إلا ليلا، بسبب صعوبة ولوج خيمة بلاستيكية، في درجة حرارة قد تصل 38 أو 39 درجة C°، وآخرون يصمدون لمرارة الجلوس داخل الخيمة، امرأة تنام بين خيمتين، وظل شجرة يحجب عنها الشمس، رجل جالس على كرسي، واضعا قدميه على كرسي آخر، منتظرا أفول الشمس، ومتمنيا ألا تأتي موجة برد في الليل، تفسد اليوم مرتين.
وجدنا الشخص المنشود الذي كنا نبحث عنه، (غ.أ) وهو رجل في منتصف العمر، ابن منطقة أمزميز، كان في الخيمة رفقة زوجته وأبنائه، استقبلنا ولسانه يكرر «أمزميز منسية»، رحّب بنا وكان مدخل الخيمة مجلسنا، تحدث وحالته تبعث على القلق «الناس الآن في وضعية صعبة، حالة يرثى لها، أنا الذي أتحدث إليك، أملك منزلا، ولم يخبروني إن كان سيُهدم أو يُصلح، لا يوجد تتبع». وأضاف مستضيفنا «الحياة هنا أنت تراها بعينيك، لن أخفي عنك شيء، رأيت بعينيك. في النهار، حينما تشتد الحرارة، نجلس هنا في الخيام حتى نصبح مثل «الدجاج الرومي» مضيفا، «الآن في هذه اللحظة التي نتحدث فيها، هناك من لم يحصل على الدعم بعد، منهم أسر يتامى، وأسر الكراء، بسبب أنهم لا يملكون البيت».
تصريح أردنا التأكد منه، فطلبنا التحدث مع أحد الأشخاص الذين تنطبق عليهم هذه الوضعية، أشخاص لم يستفيدوا من الدعم بذريعة أن المنزل ليس في ملكيتهم. نادى مخاطبنا امرأة تبلغ من العمر ستة وأربعين عاما، كانت عائدة من العمل، وملامح التعب على وجهها جلية وواضحة، وهي من بين هؤلاء الأشخاص غير المستفيدين. كانت المعنية بالأمر، وفقا لتصريحها، تكتري بيتا تضرر، وقام صاحبه بإصلاحه بعد حصوله على الدعم، لكنها تسكن الآن في المخيم. تقول المتضررة، «ذهبتُ عند السلطات المحلية وقِيل لي أنني لا أملك شيئا، كنت استأجر بيتا بخمسمئة درهم، طلب مني صاحب البيت الزيادة في الثمن، قلت له لا أملك المال، فأخذ مني مفتاح بيته، وجلسنا في الخيمة، بلا تعويض وبلا بيت».
شموخ يكسره الحزن
غادرنا المخيم، ونبرات المتضررين لاتفارق أعيننا وأذهاننا، كانوا يكبحون الحزن بسبب الألم وليس الأمل، يسخرون تارة بالواقع، ويصمتون متأملين إياه تارة أخرى، يتحسسون المستقبل الذي ينتظرهم، يفتقدون ماضيهم القريب، يبحثون عن أنفسهم وعن الأرواح التي غادرتهم، كانوا متفاجئين بكرم الناس وجودهم، وبسرعة نسيانهم وصمتهم. وكانت الطبيعة التي تحيط بالمنطقة، رغم خُضرتها وشموخ جبالها؛ شاحبة، وكأن الشجن يتطاير من أشجارها.
صحافي متدرب