جَنَازِيَّةُ الْكِتَابَةِ الشِّعريةِ من خلال ديوان: «عابر في قمصان» للشاعر جمال الموساوي

 

قد يكون العبور انتقالا لا إراديا مثلما قد يكون تنقلا إراديا من مكان إلى آخر، أو من زمان إلى غيره، ما يفترض وجود ضفتين، وهذا يقتضي أيضا معرفة بالضفة الأولى بدءا، لأن تحقق المرور يتطلب ذلك… بل أيضا، لا يصح العبور إلا بعد ارتداء قميص المعرفة والتزود بذخيرة الادراك والفهم.
مناسبة القول هنا، توقفي الاضطراري الجميل، وأنا أنفتح على عوالم الشاعر جمال الموساوي في منجزه الأخير: «عابر في قمصان» ؛ إذ الإنصات لنصوصه القصيرة المئة وأربعة وخمسين (154) على مراحل زمانية متفرقة، أدخلني متاهة السؤال المؤرق و الأبدي عن جدوى الشعر؛إن لم يكن ترصدا باللحظة ورصدا لها.
فقراءة الشاعر جمال الموساوي، من خلال هذه التجربة، ليس كغيرها في تجارب سابقة: « حدائق لم يشعلها أحد»مثلا؛إذ باتت رؤية الشاعر أكثر وضوحا وأبرز للأشياء وللحياة . وليس في هذا أي حكم تجريحي أو انتقاص، بقدر ما أن المسار الشعري المختط، وجد سبيله، إن لم يكن أوجده النضج وتراكم التجربة والدربة.

 أولا: كتابة الشذرة الشعرية، رهاناً

تضعنا قراءة الديوان منذ الوهلة الأولى، أمام كتابة ومْضية شذْرية، وهي تقنية ما كان للشاعر أن يعمد إليها، لولا نضج واختمار الكتابة الشعرية، كتجربة ميدانية. فعلى مدى صفحات المنجز الشعري، نعثر على عدد كبير من النصوص القصيرة جملةً، والكثيفة المُكثفة معنى ؛ قد لا يتجاوز أطول النصوص ثمانية أسطر شعرية، تحمل كلها عناوين من مفردة واحدة (جملة إسمية بالنهاية)..
إن كتابة الشذرة الشعرية مغامرة في حد ذاتها، ترنوإلى اقتناص المعاني عبر اقتصاد لغوي، لكنه بديع. وإذا ما اعتبرنا الشظية المكتوبة جنسا أدبيا، وجدناها حمَّالة لتصور فلسفي شخصي، ولتأملات باطنية، عبر كتابة مقطعية، تستغور الظاهر.إذ يعمد الشاعر إلى التقاط مجموعةِ مواقفَ إنسانية وحالات، يسائلها بعمق، كما لو أننا أمام التقنية السينمائية:
(Arrêt sur image)
حيث إعادة الاعتبار للحظة الزمنية الهاربة المنفلتة… يقول جمال الموساوي في نص (شاعر):

«هشاشة
نبي بدون معجزات،
بأمة من الحروف لا تنتظم في صف.
لا شيء جدير بالحرص،
في حياة تتناسل فيها وتتنافر كائنات
متخيلة،
عدا أنها تهزم الموت.»

ما سعى إليه جمال الموساوي هو التعريف بكائن هش، خالٍ من القوة العجيبة (المعجزة)، رغم امتلاكه لقدرة التخيل (الابداع الذي لا يملكه الجميع) والذي حلَّ بقوم (عبر رسالة)غير مؤمنين به (مكانة الشاعر في المجتمع الجاحد غير القارئ، مثل مؤذن في مالطة !!) لكن بأسه في حكمته غير الفانية ( فهْمُ الشاعر غير متاح للجميع، إن لم تكن القلة القليلة من تنصت له !)
في مقالة للاستاذ محمد منصور ، يرى أن « كتابة الشذرة تطمح نحو كسر النسق التقليدي الصارم لإبداع الفكر وتقديم الفكرة في شكل برقيٍّ مضيء، يشير ويوحي أكثر مما يشرح ويفسر، يفكك ويؤول أكثر مما يؤسس ويدلل. الشذرة تطمح إلى أن تختلف لا أن تأتلف.»
يهمنا في المقولة،إشارة الباحث إلى اعتباره الكتابة الشذرية الشعرية، شكلا برقيا؛ يشير، يوحي، يفكك، يؤول ويختلف. لعل هذه الأنشطة مواد اشتغال مميزة، نعثر عليها في نصوص الديوان الشاعر جمال الموساوي، ومن ذاك قوله في نص (عزلة):

«عندما تزدحم الروح
بالتعب،
تصير جنونا فكرة الهدوء.»

أو في نص (تناظر):
«أنا لا أعرف هؤلاء
كأسي أملأه مباشره من الغيمة
أصدقائي أسميهم ولا أحتاج إلى نقط الحذف.
أحيانا،أفكر في الكثرة، لكنني أنتهي إلى
تأمل القلة الهائلة.»

والنصان النموذجان (مع غيرهما) لحظات تأملية في حياة الشاعر، مرتبطان بحنكة؛ لإعادة فهم الأشياء. فبانصرام العمر، يجد المرء نفسه مقبلا على فتح معابر كثيرة، تعيد التصفيف والادراك العميق… الروح المزدحمة بالتعب، بالنسبة لها، يغدو الهدوء جنونا.كما أن لائحة الصداقات الكثيرة التي يعج بها اليوميُّ، غالبا ما تنحصر في سطرين أو واحدٍ لا أكثر، بعد إدراك متأخر،أنها لم تكن إلا أوقات صداقة /أو لحظاتِ صداقةٍ، لا غير!! والشاعر هنا، متلبس بمغامرة التبسيط، يجازف بمجازات سامقة لينتج أجوبة مقنعة عن أسئلة حارقة.كما أن الافصاح يبقى رهينا بالحقائق المركبة العارفة، التي لا تنجلي إلا بعد تمحيص وتدقيق.

ثانيا:موضوعةُ الموتِ، خَلفيةً للكتابة الشعرية

هذه الحالة، تجد صداها في الأسئلة الوجودية، حيث التفكير الفلسفي يقود إلى شبه جواب مقتضب! ألَمْ
يَنْحُ «نيتشه» صوب ذلك في اقتصاده الكتابيِّ كمّاً ونسَقا ونظاما؟ ألَمْ يَعمدْ «سيوران»أو «فرناندو بيسوا» إلى الالتزام بكتابة الشذرة عبر تكثيفٍ وقِصر مُتعمَّدَين لكنْ»وَخِزَيْن» بتعبير «جيل دولوز» ؟! كل ذلك في مزج هائل عظيم؛ بين الشعر والفكر. وقد عثرنا في ديوان الشاعر جمال الموساوي على نصوص تعتمد على هكذا تصورات، منها نص (غابة) الذي اختصر فيه كينونة الإنسان ونشأته، ما بين الحقيقة والخرافة، في ستة أسطر شعرية. يقول:

«بيت الإنسان الأول وحقله،
الانسان الذي لم ينزل من أي مكان
الانسان الذي أنشأ الأسطورة والخرافة والحقيقة.
ما أشبه اليوم،
مجردا من هذه القشرة المضيئة، بالبارحة،
صيد والتقاط وخرافات عائدة.»

غير أن ملاحظة استوقفتني أثناء القراءات المتكررة للديوان؛ وهي طغيان موضوعة»الموت» ( وإعادة الخلق) في مواقع كثيرة، كما لو أن الشاعر أعيته أعباء الحياة. إذ رغم وقفاته التأملية، نجده يكتب عن الفكرة بغير اطمئنان !! نراه مُنجَرّا خلف تساؤلات لا منتهية، مقبلا على إعادة النظر في العديد من الآراء والمواقف والاحكام. ولنا نماذج كثيرة ومتفرقة، منها نص (فناء)، إذِ الموت قوة أو سلطة تأديبية لشعور الحب وحتى لحب الأرض كواقع. وفيه يتساءل: مَنِ المُتبقي؟ ومن الذي لا يخجل من الموت؟ ولا يجرؤ الدنو منه؟ يقول:
«الموت
مجرد قرصان وضيع
عراب نيران في اراضي المحبة.
حتى الارض
يقرص اذنيها كي تتهيج
ما الذي يبقى؟ ليس الانسان!»
وهذا النص يجد صداه في النص الموالي (كازانتزاكي) ، حيث الإنسان «حافظ للموتى»
كما يحضر سؤال الموت (الحقيقة المطلقة) في نصوص أخرى،أذكرها:
* نص (انفصام) حيث الحياة ضجيج كثير، مؤقت، مثلما هم الموتى…» يخرجون من فكرة الأحياء»
* نص (عبث) حيث الحياة «تشبه أنبوبا طويلا للصرف.»
* نص (تلاشي) يقول فيه:
« أفكر في العمر يتآكل ويذوب…»
* نص (كونية) يقول الشاعر:
«أتهيأ للفراغ… أحترق قرب فكرتي عن العالم…»
* نص (احتفال) يقول:
«متعب هذا الهراء الذي نسميه الحياة»
* نص (مشهد) يقول الشاعر:

«في الخلفية،
يرقص الموت باحثا عن صيد.»

* نص (موت) ، يقول:
«عيني في طريق آخر أيتها الحياة،
وقلبي يأمل فقط في تلك الوردة الاخيرة،
الوردة التي من حين لآخر تضعها يد على قبر.»

* نص (تناسخ) يقول الشاعر:

«شجرة اللوز
الميتة
تنمو في هدوء.»
* نص (طفولة) يقول:
«يُروَى
أن طائرا
مات في صحن من رماد.»
) يقول: * نص (بحر
«في الطفولة
كان هناك موتى في حقل ألغام
ورذاذ انفجارات على الرمل.»
* نص (جنازة) يقول:

«لا يبدو الورد جميلا في المزهرية،
ميت في قبر مكشوف
والحديقة في مأتم.»
* نص (حديقة) يقول:

«إلى أين تذهب هذه الجثث؟
تحلم بقداس الموت؛
وبعاصفة من الورد.»

هذا الاستعراض القوي لفكرة»الموت» عبر نصوص الديوان الشعري، يؤكد أن ركوب صهوة الشظية الشعرية المكتوبة، قد تم التأسيس له بكل ثقة وعناية، ضمن استراتيجية مؤسسة قائمة على محاولة تثبيت الفكرة أو إعادة كتابتها، حتى حدودها القصية، بدون أدنى تشكك أو ارتياب … ولعل هذا ما يدفعني إلى اعتبار الديوان الشعري (عابر في قمصان ) رؤية فلسفية وجودية عن ثنائية:[حياة/ موت] بكل امتياز.

ثالثا: نوستالجيا غنائيةٌ، خِدمةً لِلْمَوضوعَةِ

رغم قتامة الفكرة/ الموضوعة وسوداويتها، فإن الشاعر الذي اعتبر نفسه رجلا قديما، إذ يقول:
«يغني رجل قديم في رأسي.»
استدرجَ إلى نصوصه الشعرية أسماء أعلام مُغَنِّين، عالميين، خلَّدوا سِيَرهُم الطربية بِقِطع موسيقية عظيمة، شكلت موجة حنين عاطفية، على مدى أجيال، وقد ذكرهم الشاعر في مواقع متفرقة:
(جُو داسان)
Jo Dassin
من خلال نص (أغنية) بالصفحة رقم 70
(دِيميس رُوسوس)
Demis Roussos
من خلال نص (وصية) بالصفحة رقم 76
(دَاليدا)
Dalida
من خلال نص (صداقة) بالصفحة رقم 128

والملاحظة هنا التي تقفز أيضا أمامنا، هي أن اعتماد الشاعر على هذه الأسماء خصوصا، إنما لأجل الخلو إلى الذات (مع: جوداسان) وللبحث عن تفاصيلها المنفلتة (مع: ديميس روسوس) ولِاسْتِتْبَاب الصمتِ
( مع: داليدا)… وكلها توابل يحتاجها جمال الموساوي (مثل أي شاعر) للتفكير ولِإعمالِ الرَّوِيَّةِ.

 رابعا: العنوانُ
عَتَبَهً لِلْخَتْمِ

أضع عنوان الديوان كعتبة للخروج هنا، وليس للدخول، وأشير إلى أن الشاعر أوْرَدَهُ بصيغته في نص (حلاج) كما يلي:

«عابر في قمصان
ومقيم في تسرب الأيام خارجة من الزمن.
إلى أين تذهب؟ ليس إلى شيء ذي اسم.»

فقد تغيرت مقولة الحلاج المعروفة:» ما في الجبة إلا الله»إلى صيغة أخرى، كالتالي:» ما في الجبةإلا الجثة» وبذاك يعيدنا القول إلى فكرة الموت، التي طغت بالوضوح على مجمل نصوص الديوان.وهو تأكيد من الشاعر وحكم على أن الإنسان عموما وبالنهاية، جثة عابرة في صور مختلفة عديدة ومتنوعة، مقيمة في انفلات دائم، خارج أي حساب زمني، وبدون وجهةأو قصد…إنما «الاعتباطية» عنوان مرورها وعبورها.


الكاتب : جواد المومني

  

بتاريخ : 07/06/2024