قصيدة الشاعر محمد بوجبيري احتفاء بالحياة (*)

تكريم مستحق

أود أن أعبر عن شكري لجامعة المبدعين المغاربة على تنظيمها هذا اللقاء التكريمي لمبدع متميز كل التميز، هو الشاعر والقاص محمد بوجبيري. ليس هذا أول تكريم له. كثيرة هي اللقاءات التكريمية التي نظمت للشاعر، غير أن تنظيم هذا التكريم في أكبر مدينة بالمغرب، الدار البيضاء، مدينة تضج بضيق الأوقات وبضيق كل أصناف الأماكن، هو حدث ثقافي كبير يعود فيه لجمعيتكم ولهذا الفضاء الجميل.

فضاء أمدياز

أعتبر محمد بوجبيري شاعرا محظوظا من زوايا عدة. انكشف له الإدهاش الشعري على لسان»أَمَدْيَازْ»، الشاعر الأمازيغي، في الأسواق وفي الأعراس وفي الغناء الأمازيغي وهو ثراء رمزي لا يتأتى لكل الشعراء. هذا الرافد البهي، نظرا لقوة فعله في النفس المتطلعة للأرقى، له أثره في الانتماء المبكر للغة الرمزية الثرية. بمعنى آخر، انكشفت له اللغة الرمزية قبل أن يكتشف الشعر العربي في المدرسة ثم في الكتب ثم في تجربة الناظمين للشعر أنفسهم.

من النظم
إلى العبور النثري

كتب عن تجربة محمد بوجبيري الكثيرون في الصحف والمجلات والملتقيات الشعرية والنقدية وفي مواقع التواصل.
كتب مقدمة ديوانه الأول الشاعر عبد الله راجع في نهاية السبعينات من القرن الماضي. وكتب مقدمة نصوصه السردية التي أضحت معروفة عند الدارسين بسيرة (العبور) البلاغي المعروف محمد العمري. وليس قليلا ما هو منشور عن محمد البوجبيري في العالم الأزرق من كتابات بعضها تغطيات ثقافية، وبعضها مقاربات عامة لهذا الإصدار أو ذاك من إصداراته. ومن يطل على فضاء الفيسبوك واتسع صدره للقراءة، يطلع على كتابات عديدة مفيدة من جوانب عدة…شعرا وسردا ودراسات.
يمكن أن يكون الشخص غير مؤمن بجدوى المقدمات. يمكن ألا يسلم إلا بالقيمة الموضوعية للإصدار.
غير أننا نقف على مسلك جديد في المقدمتين معا بالرغم من تباعد موضوعيهما، مسلك يحيلنا على أمرين غير متلازمين بالضرورة: نلاحظ في الأمر الأول نوعا من الحوار الضمني مع الشاعر والسارد الذي هو هنا محمد بوجبيري الشاعر ومحمد بوجبيري السارد. أما الأمر الثاني فيعود إلى ما أفاده كل من كتبوا عن تجاربه من هاتين المقدمتين الجادتين والبليغتين حقا. وذلك لما تضمناه من نظر فاحص، وتمحيص مدقق، بل وإعجاب لم يخفه أي منهما، إعجاب بشاعرية متميزة، وسردية أخاذة. ومما يروق للمرء البراني عن هاتين المقدمتين أن يلاحظ، أن هذا الإعجاب صادر ليس عن دارسين متخصصين كل في مجاله، بل، أكثر من هذا أنهما أستاذان للشاعر، علماه وشجعاه بل وتتبعا تجربته . عليهما تتلمذ في مرحلة تعليمه الثانوي في نفس المؤسسة التي كانت محطة من محطاته. محطة للتلميذ، ومنبعا لنصه السردي الأخاذ عما أسماه الشاعر (أيام لفقيه بن صالح).
بقدر ما كانت هاتان المقدمتان مفيدتين، بقدر ما شكلتا نوعا من الرقابة الضمنية على كل كتابة نقدية بالنسبة لنقاد الأدب، أو كتابة فكرية معتمدة على خالص التذوق الشعري بالنسبة للمفكرين مثلما هي حالنا نحن. رقابة لم ينتبه فيها البعض – ربما – إلى أن المقدمتين لم تخصا سوى تجربة ديوان واحد بل الديوان الافتتاحي لرحلة طويلة من النظم والكتابة عمرها الآن يقرب من خمسة عقود من الزمن…فقد اغتنت عميقا وعلى كافة مستويات التعبير لدى الشاعر، تجربته الإبداعية وتسامت كثيرا في دواوين مثل ديوان «كما لو أن الحياة كانت تصفق» وديوان»لن أوبخ أخطائي» …

تجاوز البناء
الشعري العتيق

لقد طور بوجبيري، طور القصيدة، وعمق اللغات الرمزية الشعرية بل والسردية أيضا، في كل إصدار جديد، ولم يبق حبيس تجربة «عاريا أحضنك أيها الطين» بالرغم من ثراء هذه التجربة شكلا ولغة وصناعة وموضوعات وأفقا شعريا. وهذا أمر طبيعي إذا كان الشاعر في مستوى تألق بوجبيري الذي استقبله الشعراء من مجايليه في آخر السبعينات بحفاوة كبيرة لكن وهذا هو الأدل، بانتباه جدير بالاعتبار، انتباه إلى أصالة تجربته الشعرية.
هذه التجربة ستتعمق مع كل مجموعة شعرية جديدة، لكن ما يؤلف بينها جميعا هو هذه اللغة الآسرة، الثائرة على المبنى العتيق، والتي تثري اللفظ والمعنى فإذا العبارة الشعرية تفيض بيقين لم تعهده السكة المألوفة لدى القارئ، وحقيقة متحركة لا يسلم بها عقل الجمود. نقرأ في بداية قصيدة: (عثمان)

«الشجرة تضيق من روحها
الجبال من وقارها
من نضارتها الفصول
وصديقي عثمان
ضاق من ذاته»
و في خاتمتها نقرأ:

«لا سلطة تحدني والزمن أخشاه
صديقا. لكم بهجة الأبناء والانتساب
للبقاء. فقط أحلم أكون الإنسان
كما لا يريدني الآخرون فقط أكون

Au Zénith de moi-même
أكون نزهة نفسي

نبع القصيدة الفياض

وكما يؤلف بين دواوين محمد بوجبيري ونصوصه الثرية رباط قوي بالطبيعة وبالإنسان وبالجمال، فإنه يؤلف بينها أيضا هذا النبع الفياض للدهشة الملهمة لكل معرفة.
الطبيعة كتربة للإنسان البدوي في جبال الأطلس المغربية. الطبيعة هنا في أثر قصائد بوجبيري ليست كما نعهدها حين نلفظ الكلمة. إنها معطى وجودي في حياة شاعرنا. . . الطبيعة هنا جبل أخاذ وبركة مندسة في البصر محتلة للوجدان وغابة مدرارة وصخر ناطق واقمار راكضة ولآلئ راقصة بالضياء في ليل صموت حد الرهبة، بل وأعراس طير ووحش وبشر حميميون. الطبيعة بكل فيضها، فيض الطبيعة بالسحر وفيض الانسان بعلائق الجزئيات والتحولات مبهجها ومحزنها، علائق الجزئيات من أجل نضال العيش والكرامة والحرية الباهرة المتقاطعة مع الأكوان من كل صنف، والتي لا تعرف معنى لاستلاب يلحق جوهر الإنسان كما هو.
ثم الدهشة، الدهشة ونبعها الفياض. هذا النبع ليس مأتاه الطبيعة الخاصة بالشعر، كل شعر، شعر أي شاعر، بل مأتاه أيضا هذه النظرة البوجبيرية الخاصة بكينونته هو ذاته كإنسان وليس كشاعر وحسب. بوجبيري يندهش لكون جبال الأطلس، لكون له صمته الضاغط ليلا وشدو فصوله المختلف باختلاف كل فصل من فصول تلك الجبال. يندهش للأعراس والأسواق، لشدو الغناء في الأودية والمغاور وصدح الرعاة به في مصاعد ومهاوي جبال الأطلس الجبارة.
الدهشة ب(حلوان) ككل تترافد مكونتاها لتنتج للشاعر كونا حميميا لا يفارقه حتى ولو أبعدته عنه الضرورات بدوافعها وموانعها الكثيرة. حلوان بوجبيري تماثلها في الارتباطات الوجودية للشاعر والسارد بوجبيري (جيكور) بدر شاكر السياب. إنها المرتع والأم بكل المعاني، البيولوجية والفيزيائية والوجودية. حلوان هي المرتع والزاد الوجداني الذي لا يفنى. ويكفي الانتباه إلى حضورها حتى في غيابها. أي، نعم هي حاضرة حتى في الغياب.

المتعة المتنبهة

تعددت الدواوين وتعددت النصوص فتعددت التنويعات الجمالية في كل ديوان، تنويعات لا تتأتى إدراكاتها من القراءة الأولى… نكتشفها خلال القراءة المتكررة، من القراءة الساعية الى ما يمكن تسميته «المتعة المتَنَبِهَة» طبقا لتعبير ورد عند عبد الكبير الخطيبي وهو يقدم كتاب (الأدب والغرابة) لكليطو، نكتشف حرصا شديدا على جمالية العبارة، سواء في موسيقاها أو في كيمياء لفظها. لا يماشي هذا الحرص الجمالي لدى الشاعر سوى حرصه الأشد على نقاوة وثراء اللغة التي له عليها رقابة ذاتية صارمة تستشعرها كل قراءة تتغيى المتعة المتنبهة كما قلنا. فكأن اللفظ عنده تستغرقه رحلة تلو أخرى بحثا عن محطة فيها يستقيم مبنى تغنيه صور شعرية ثرية بالدلالات.
يلمس القارئ الباحث عن المتعة المتنبهة في رحلة اللفظ نحو مبنى ومعنى يُدْهشانه، يلمس في الصور الشعرية النهائية أثر ذلك الإشراق لدى الشاعر في تمثل ذلك المبنى والرصد الصوفي لذلك المعنى. يواجه في هذا الجدل الذاتي الشعري معركة تحويل المعتاد في الواقع المادي إلى واقع مغاير بالإنصات لكونه الداخلي الذي منه تنبع إشراقات القصيدة. كل شيء يعاد بناؤه بوحي من هذه الاشراقات:
جسدي ليس لي.
احتمالا مشرعا على الحماقات أحمله.

تعبا أقيم فيه،
أو حثيثا أسعى

ليس لي حين يرغب،
أو حين تطرق أماسيه القصيدة.

حتى الإنهاك نزلت به إلى وادي الحياة،
وكلانا يدرك المسافة بين النبع،
والمصب.

نبع المعنى ومصب الإشراق.

حين تهجم الأزمنة، أزمنة الشاعر، على القصيدة تستنبتها في مآقي اللغة التي تبقى ألفاظها صماء في القواميس مستجديه الشعرَ كي يهبها حيوات لها جديدة ومخصوصة، أو تهجم القصيدة على ذات الأزمنة، وقتها ينبع الإشراق في أبعاده الخلاقة وهي شتى…موسيقى وتصوير ومبنى كيميائي لغوي جديد كليا.
هكذا هي القصيدة في شعر بوجبيري ليست بناء هندسيا زخرفيا. من يقرأها بنهج البحث عن متعة الجمال الفني المتنبهة، يكتشف أنها عصارة لنمط خاص من المجادلة الفنية بين ذات الشاعر وذاته، أو بين ذاته والأكوان التي يتأملها ممتصا مداركها في أنَاهُ الباحثة عن إشراق خاص لإعادة خلق جديد من الكون الإبداعي الذي هو له. فالتصوير البلاغي في الشعر عنده مندس في معاني متعددة داخل العبارة الشعرية الواحدة. وفي النثر تجده متمددا على صور تتوالد من ذاتها. نلامس البعد الأول في بلاغته الشعرية، ونلامس البعد الثاني في عبارته السردية. وفيهما معا التصوير الجمالي والإدهاش والدهشة جميعها قائمة على الدوام.

تكوين

هذا الإدهاش والدهشة نجده أيضا في نص إبداعي من جنس مختلف كليا عما عرفناه عن الشاعر محد بوجبيري: نص بعنوان «تكوين» .
( Genèse) تكوين :
النص مكتوب بل منظوم بلغة مختلفة اختلافا واضحا عن الممارستين الأدبيتين له، ممارسة إبداع القصيدة وممارسة إبداع التوق السردي، لغة مؤثثة بشعرية خلابة مدرارة لمعان جديدة تهبنا إياها صور جديدة، هي معان جديدة لمعنى معهود لأن النص يعالج معرفة أضحت من منتجات العلم منذ أزمنة معتبرة، وهي صور جديدة لأن في تلك المعرفة صورا قديمة غدت مدرسية. أوقع فيها النص المذكور تحويلات لا تتأتى إلا لشاعر له دربة طويلة مع رياضة اللغة الخلاقة.
يعالج هذا الخلق الجديد فعلا وكما يدل عنوانه موضوع «التكوين»،ذاك الذي كان، كان «لا- شيء» ، «عدما» كان ُثم صار (من الصيرورة بمعناها الفلسفي) صار تكوينا وهو كون من الأكوان التي إليها ينتمي كوكب الأرض التي طبقا للنص هذا. لا جديد يتضمنه النص من زاوية النظر العلمي. الجديد الحق هو الروح التأويلية لمعطيات العلم وتحويلها من مضامين جامدة مسكوكة مكرورة مدرسية إلى مضامين حميمية ملآى بأعماق دلالية جديدة وذاك بأفضال تلك اللغة الشعريةالخلابة. فالمعاني جميعها هي ذاتها ثم بفضل تلك اللغة تتجدد محمولات الوجود المتوالد عن اللا – شيء.
هذا النص، هل هو علم العلم، هل هو قصيدة نثر النثر، هل هو شعر الشعر، هل هو إعادة التكوين ذاته باللغة هذه المرة وليس بالقوانين الصارمة التي نعرفها للكون والطبيعة والوجود. هذا النص ليس للتحليل لأنه فوق كل تحليل، إنه إعادة احتفاء بالكون وفي قمة الاحتفاء الاحتفاء بالإنسان. هذا النص للقراءة والقراءة المنقادة بعميق التأمل والاستدراج للباهر من المدلولات. لذا كتبت حين وافاني به الشاعر في مراسلة خاصة، في شهر أكتوبر من العام 2000. . . أقول:
تتوفر النصوص الأدبية العربية في عصور قديمة على نصوص معجزة. نصوص المعلقات قبل حدث ديانة الإسلام…نصوص في العصر العباسي، وأخرى في العهد الأندلسي. وفي عصرنا الحديث لا نعدم نصوصا تنتمي لهذا الصنف من الإبداع الأدبي والصوفي المعجز.
نسمي نصا معجزا كل نص يخترق المعهود من الكتابة بقواعد ومؤسسات لغوية محفوظة ولا تسمح ركائزها بالتجاوز، يبتدع النص المعجز مسارات تعبيرية ومعاني لم تعرف ولا هي تُعَرًف طبقا لقواعد مركونة في سجل النواميس التعبيرية.
ينطبق هذا التصور على نصك: «تكوين» أيها الصديق الشاعر. فالموضوع الذي شحذ شاعريتك معهود في لغة العلم البحت، متواتر في نسق المعرفة الحقة، مفتوح على إجابات تنطلق من أسئلة البحث الدقيق المرتبط بهذه المعرفة الحقة. فإذا باللغة الشعرية هنا تعيد بناء ذات المعرفة بلغة خلابة، وصيغ بديعة، وتعابير آسرة وشكال مبهجة تقدم ذات المعاني والمحمولات بتوظيف صور تنهل من لغة الشعر نورانية الإيحاء، ومن الفن التعبيري الشاعري فتنة الإلهام.
يحتفي النص بكوكب الأرض وبجماليته المدهشة. يفسر العلم الحصير بالأدب الوفير، ويستبطن الكشف العلمي بالبيان الفني. على هذا النحو قرأته وقد تملكتني الصور التي كانت من خصيصة الإنسان متميزا عن كافة الكائنات التي أخضعتها للغتك الشعرية الرشيقة، البيانية، البديعة، الآسرة. نعم على هذا النحو قرأته كي أجده يستنطق بوح الحقيقة العلمية ببوح البيان البلاغي. تروح صرامة الخطاب العلمي ووحشته تاركة المكان لأنس المتعة التعبيرية ورقتها. القول المباشر الذي يفسر الأشياء وانتظامها، عللها ودواعيها، ارتباطاتها ومساراتها يوفر هنا معاني مثل أغنى، ودلالات أثرى، فإذا العبارة عينها ذات مهابة، والدلالات نفسها ذات طراوة، وذلك دون حصر محير ولا إسهاب ممل، ولا إغراق في البناء والشكل أو تكلف في الصياغة واللفظ.
«حكى» النص بصيغة الفن التعبيري الشعري قصة «البنية العذراء»، الأرض… أو قل حكاية ما قبل انبلاجها، ما قبل وجودها، كانبلاج الوجود من اللاوجود، والكينونة من اللاكينونة، القِدم من العدم، من «اللاإنسانات» إلى «الإنسانات».
وبالمثل كما وهو «ينظر» في «حقائق» الكشف العلمي «ينظر» النص إلى «حقائق» أساطير المعتقدات كما في ذاك القَدَرِ الأبدي للحب الوجودي.
يقوم هذا الكشف بعمليات تعريف أخاذة لمكونات الوجود إذن من الأرض إلى الماء إلى الكائنات الحية إلى المعتقدات إلى الدمار إلى والتدمير الخلاقين إلى الحب الوجودي.
إنه نص ذو فتنة يخلق له في القلب، مكانة وفي الأحاسيس عشقا.
نكتشف هنا عملا جديدا كل الجدة في مسار نظم ونثر الشاعر والقاص السارد محمد بوجبيري، نصا يتحول هو نفسه خلال القراءة المتذوقة المتأملة الساعية إلى المتعة المتنبهة،يتحول إلى عشق يجعلنا نعتبره من النصوص المعجزة.

قيمة الوفاء

للشاعر الحق، في كل تجربة إبداعية عمقه الإنساني الذي قد يتفرد به وإذ يميزه، فإنه يسهم في تأصيل تجربته الأدبية.
يحرص هذا الشاعر كما عرفته في الحياة على قيم هي من النبل بحيث تشكل في زماننا في حياة الأفراد والجماعات ثقوبا مؤثرة سلبا في العلاقات والارتباطات.
يمنح بوجبيري الشاعر لنبل القيم وضمنها قيمة الوفاء للصداقة أعلى المقامات. حين توفي أحد أصدقائنا الذي جمعته به صلات شتى، الأستاذ الراحل عبد الرحمان ضيف كتب شاعرنا:

ضيف الله

صديقي عبد الرحمان، أنت الآن فقط ضيف الله هناك في الأراضي البعيدة بعد عبورك الأخير. ترددت كثيرا في كتابة هذه السطور، لأن إحساسا قاهرا استبد بي، ويتلخص في: ما الجدوى من الكتابة بعد رحيل من نحبهم؟ «
أتى الشاعر في رسالته لصديقنا الراحل على تفاصيل تخص جوانب شتى من حياته، نستشف منها أن قيمة الوفاء لدى شاعرنا الذي نقوم بتكريمه اليوم، هي عنده ذات مقام خاص. كان الصديق يحكي لشاعرنا بعضا من فصول حياة طفولته ومراهقته وشبابه وهو مديني من الرباط العتيقة. ولأن من بين أخص صفات بوجبيري الإنسان والشاعر معا، صفة فضيلة الإنصات، كتب في ذات الرسالة المذكورة أشياء تفيدنا اليوم في أمر بالغ في حياة المبدعين عامة وحياة بوجبيري خاصة. هذا الأمر يتعلق بمدى أثر تفاصيل الحياة في صيغة الأدب عموما وفي بلاغة الشعر خاصة وفي بديعه على نحو أخص. نتابع قراءة الرسالة
تستمر هكذا وفيها يكتب شاعرنا:
«كل ذاك الإنصات إلى طفولتك – بأمكنتها وشخوصها – أوحى لي بكتابة سرود كنت تطرب لها لأنها تعيدك إلى الزمن الشيق في حياة كل إنسان. أما شخصك الفريد بتنوعاته – صدقا وفرحا وألما، وما إلى ذلك من تحولات النفس على مدار الأيام والفصول – فقد وهبني قصيدة « مثنوي «، وهي منشورة في ديواني «عاريا أحضنك أيها الطين».».
ذات فضيلة الوفاء هي التي قادت إلى «قصيدة عثمان» …صديقه الأكبر الراحل عثمان بنعليلا الذي تعود شهرته إلى أستاذيته في الفلسفة بالدار البيضاء، والذي لا يمكن ذكره صديقا إلا مرفوقا بالشاعر كأنهما توأمان لا ينفصلان، مزجهما اقتسام أفراح الصداقة وهموم الثقافة في بعدها المتحرر من ربقة الخنق المنبري القاتل لكل إبداع، جمعهما الشعر والفلسفة والعمق الإنساني في رباط متين عز نظيره، جمعهما حب المعرفة وتقديمها للشباب في براءة ونظافة يد شامخين. وفاء رآه الأصدقاء في أفعال بوجبيري شهورا خلال مرض الراحل الغالي وبعد سفر الراحل الغالي على إثر مرض عضال. وفاء قرأه القراء في مرثية «عثمان» المنشورة.
اغترفت هذه الصداقة من نبلهما إذن معا. وإذا كان من حظ عثمان الراحل المرثية التي خلدته، وما أعلى ما يخلده الشعر عامة، فإنه في حياته نفسها كان موضوع قصيدة أخرى تحمل اسمه أيضا مع عنوان فرعي يقول: «إلى رحَال يقطنه». وهي ذات القصيدة التي أوردناها في الفقرة الرابعة من هذا التأمل الفكري في إبداع الشاعر…
رائعة مرثية عثمان بنعليلا كما سميتها بيني وبين نفسي وأنا أعيد قراءتها مرارا، سبر لتجربة شعرية جديدة اشهد أنها استغرقت زمنا طويلا…على شاكلة النصوص التي تتفتق عن مخاض طويل. ولنص «تكوين» كما رأينا نفس الًنَفِس الطويل كمخاض يضني الناظم الذي يجهد النفس والروح للقبض على المتراكب من الدلالات والبناءات. نعم إنهما من هذه الزاوية يتشابهان ويتوازيان بالرغم من شساعة البون بين موضوعيهما. لكن ذات قساوة استشراق النصين توحدهما.
من خان إذن ياعثمان
الطريق أم الخطى
النبش في النوايا أم الهش في اليقين؟
قادك مسح الطاولة إلى نباهةِ
أنارت المجهول في الفهم،
كما في الطريق.
أشرت بالسبابة إلى الذي ينبغي أن يكون،
وتركت وراءك أوهام الآخرين.
تركت التشابه للتكرار،
كما تركت اليومي للاجترار..
انتزعت من العابر ما يليق إقامة في الوجود،
فكنت ما يريد ما يريد المجان في الانتماء..
آمنت بأن الحياة َ،
وإن طالت،
ومضة،
فكان الحرصُ على اللحظة.

استرجاع وتركيب

تعود شهرة محمد بوجبيري إلى الشعر أكثر منها إلى الكتابة النثرية. ربما كان السبب أن القارئ عرفه شاعرا قبل أن يعرفه “عابرا” إلى النثر.

اعتاد النقاد أن يصنفوا شعراء المغرب المعاصرين إلى أجيال شعرية. جيل الستينات وجيل السبعينات وجيل الثمانينات.. وهم في هذا محقون إذا كان المنطلق هو العقد الذي ظهرت فيه أشعارهم.

التصنيف المتيسر والسهل، هو هذا الذي يمنح للتعاقب سلطة غير محددة بمعايير فنية، بل بمعيار زماني. ليس زمان القصيدة الذي هو زمان خاص تتحكم فيه ذات الشاعر لوحدها، بل زمان التاريخ الذي لا يخضع له الشاعر وحده مادام بدواعيه وموانعه يُحْكَمُ كلُ الناس.

نشر محمد بوجبيري أولى قصائده في الثلاث سنين الأخيرة من عقد السبعينات. ثم توالت إنتاجاته طيلة كل الأزمنة الموالية حتى هذه الحقبة التي أكتب فها هذا النص من العام الجاري (2024).

فلأي عَقْد زمني، ولأي عِقْد شعري تنتمي قصيدة بوجبيري.

تتفاعل قصيدة بوجبيري مع الزمن الشعري الحديث كله، ذاك الممتد من العام 1989 إلى اليوم…لكنها تنتمي إلى كوكبة من الشعراء الذين أدخلوا توظيفا جديدا للغة الشعرية لم تكن لتروق الشعراء المؤسسين للقصيدة الشعرية الحديثة في المغرب وغير المغرب. لغة تنتعل الوهج وتفاتح سلطة العراء كما في العبارة البوجبيرية. كل قارئ متذوق لفن الشعر يقرأ هذه القصيدة أو تلك،  يسيطر عليه شعور يقيده بأن الشاعر لا ينتمي للقصيدة الشعرية الثابتة في نظمها وفي لغتها وفي بلاغتها. صحيح أنه يتفاعل مع كل أنماط حداثاتها. لكن العبارة الشعرية، في النَظْمَ لدى البوجبيري تخضع لرقيب متجبر، ومن هنا نسجه الشعري الميال إلى الصرامة في العبارة الشعرية.

وإذا كانت تجربة الشعر الأولى منغمسة في الطبيعة وفي الطفولة فإنها متحررة من عادة الإسهاب أو عادة التعجل، ذلك أن أشعاره تخترق– كما قلنا –  العقود وترسم لنفسها كونا لا يسمح فيه لأي صنف من الانقياد خاضعا فيه خضوعا لغويا صارما لما أسميناه رقابة يفرضها على نفسه. كأنه يسعى على هذا النحو إلى نوع من الخلاص الشعري الخاص. لعل الرافد الأقوى في هذا الصنف من الخلاص الشعري لدى الشاعر هو نبذه للانحسار الضيق في الأطر المعيقة للحرية الإبداعية…ذلك الانحسار الذي حين يطغى على عقل وإحساس الكائن المبدع يميت فيهجوهر الإبداع. يعوض بوجبيري هذا الانحسار بالالتزام الواسع، الالتزام بجوهر الوجود الإنساني اللامحدود، وهو ما ينتج عنه هذا الصدق الفائض في العبارة الشعرية لدى بوجبيري. إنه ذات الصدق الذي سيعبر إلى النثر القائم على تطلعين: تطلع إلى كتابة سيرة ذاتية للذات الشاعرة وتطلع إلى كتابة سيرة ذاتية للكتابة عينها.

إن كل نص إبداعي يملك سلطة ما، تتعدى الشاعر والسارد في حالتي الشعر والسرد، وتمتد إلى المتلقي أيا كان صنف هذا المتلقي، سواء كان منصتا أو قارئا أو دارسا، فإن نص بوجبيري الشعري والسردي معا يتميز  في سلطه بالاحتفاء الدائم بمحددات تتغير من نص لآخر، هي الدلالاتوالأماكن والأشياء والشخوص وحتى الأزمنة أحيانا، احتفاء بحيواتها وتفاعلاتها، بتوهجها وانكساراتها.هكذا يجد المتلقي نفسه وهو يتذوق نص الشاعر ضمن تلك المحددات يتمثلها جزءا من التجربة الشعورية التي تحكمت في المبدع. وهي في الحق صيرورة تنبعث جذورها من لغة القصيدة وتنتهي إلى التلقي الذي يهمه جمال النص الشعري على اعتبار أن جمال القصيدة، أو جمال السرد، بعد المتعة، هو المبتغى الأصلي الذي يبحث عنه المتلقي.

لكل نص سلطته ولكل نص متعته. متعة الشاعر تنبني على معاناة خاصة، أو ابتهاج خاص، أو معاناة وابتهاج معا، منضويين تحت رادء واحد تُرَكِبُهُ تجربة شعورية خاصة. تسعى هذه المتعة إلى مشاركتنا إياها فلا تشترط علينا غير التلقي اليقظ، والدراسة المتفاعلة. صحيح أن متعة المبدع هي الأصل في متعة المتلقي بخصوص النص الواحد. لكن متعة الإبداع، ومتعة التلقي المتذوق اليقظ، ومتعة الدراسة المجتهدة الجادة، الساعية إلى سبر خصوصية التجربة الشعرية تشكل في النهاية ما يمكن تسميته المتعة الشعرية الكلية. هذه المتعة الكلية التي تمنحنا إياها القصيدة البوجبيرية يُتَوَسَلُ إليها كما سبقت الإشارة بمحددات يمكن لكل قارئ أن يستمتع في كل قصيدة بنمط أو بأنماط منها. ويمكن لكل قارئ متيقظ أن يقرأ ضمن التجربة الشعرية لبوجبيري، التجربة الشعرية ككل أو كقصائد مختارة، فيصل حقا إلى ما نسميه مع عبد الكبير الخطيبي إلى “المتعة المتنبهة” في تقديمه لكتاب “الأدب والغرابة” لعبد الفتاح كيليطو.

على خلاف العديد من مجايليه المبدعين، شعرا ونثرا، لم يسمح بوجبيري في إبداعه الشعري والسردي سوى للعشق موجها لهذا الإبداع. العشق المتعالق مع الحب، الحب في بعده الوجودي وفي بعده العاطفي اللامعهود، عشق العشيرة في عمق إنسانيتها، والإخلاص لها، عشق الصداقة والاستماتة في التشبث بقيمة الوفاء النادرة، عشق الإنسان، وعشق الأرض، وعشق الجبل، عشق التراب والنهر، عشق الصوت والنغمة، قل العشق في ذاته ولذاته وفي أبعاده وامتداداته وفي أعماقه، هو ذا العقل الإبداعي الذي تفيض عنه القصيدة الشعرية والبوح السردي في تجربة محمد بوجبيري.

هذا ما نستمتع به في دواوينه الشعرية، بدءا بمجموعته الأولى والتي تفصح عما أسميناه المتعة المتنبهة: “عاريا أحضنك أيها الطين”. قصائد هذا الديوان كانت عُرِفَتْ في الصحف ثم طبعت ونشرت. عنوانها يفيض بما أسميناه العشق في تجربة الشاعر. الصياغة، صياغة العنوان تكفي للاسترشاد إلى ذلك العشق. إنه سعي إلى استعادة السنين الأولى من العمر في بادية حلوان بجبال الأطلس المتوسط، تلك البادية الأخاذة بطفولتها وانغراسها في أرض التربة الجبلية وجلد الأسرة والعائلة والعشيرة. هي أكوان خاصة استنبتتها القصيدة البوجبيرية في حضنها وخلدتها وسيأتي نص العبور النثري ليفصح عن أفاعيل قوة العشق للأرض والإنسان. عاريا أحضنك أيها الطين، عاريا أحضنك أيتها الطفولة بكل أعمارها، عاريا أحضنك أيها القصيد وأنا بعد تلميذ في الثانوي. وطن القصيدة هذه عشق طفولة وعشق اكتشافات وعشق تساؤلات كبيرة لسنين عمرية صغيرة.

يحتل الفضاء الفيزيائي في تجربة بوجبيري الإبداعية مكانة كبيرة. حلوان، البادية الأطلسية، الناطقة بسحر الجمال الطبيعي وبصعوبات من كل صنف، سحر الطبيعة الذي تصدح بمفاتنه أغاني الرعاة والنصوص القدسية ويحمي أبهة العشيرة من الضياع، الطبيعة والعشيرة، أصل الانتماء. حتى أن القارئ لولا فيض اللغة ونبضها المتجدد في كل قصيدة وفي كل مقطع حكي، لارتأى بأن القصيد يحكمه واقع الطبيعة أكثر من أي شيء آخر.

لقد عرف تاريخ الشعر العربي مثل هذا الارتباط الوجودي بالمكان في تجربة شعرية سابقة تعود إلى واحد من آباء الحداثة الشعرية: بدر شاكر السياب ورباطه الوجودي بقرية منشئه (قرية جيكور) في العراق. ولقد خلدها السياب في أكثر من قصيدة. بل كان يعود إليها هاربا من غربة المدينة في كل حين يحس بالفقدان يحمله الشوق بعنف إلى ما يشكل كونه. مزج شاكر السياب بين الأم وقرية المنشأ. كذا تنهض حلوان الأطلسية المغربية في تجربة بوجبيري الإبداعية ككل لتكشف لنا عن ذات الارتباط الوجودي بالمكان. ولا يعود هذا إلى القوى المتفردة التي قد تميز المكان والأشياء وكل أشكال الوجود الفيزيائي والإنساني فقط، بل تعود أيضا إلى رهافة الذات المبدعة. هذا الرباط الوجودي في نتاج البوجبيري يقوم على كل الجزئيات التي تُكَوِنُهُ، بل هو كلٌ مترابطة فيه الأجزاء، كُلٌ تعيد صياغته القصيدة الشعرية في لوحات تشكيلية من اللغة التي تبهرنا بكيمياء لم نعهدها. تدهش القارئ المتذوق. هذه الدهشة التي يصلنا لهبها لأنها من دهشة الشاعر نفسه. تلك الدهشة التي هي منطلق الشعور ببدايات القصيدة التي قد تبقى الروح الشاعرة حبلى بها لزمان قبل أن تستنبتها الروح الشاعرة في لوحة كيميائية جديدة من مادة اللغة.

(*) نص الورقة النقدية التي ألقاها الأستاذ مصطفى خُلَالْ في اللقاء التكريمي للشاعر محمد بوجبيري الذي نظمته (جامعة المبدعين المغاربة) بالدار البيضاء في الرابع من مايو 2024.