بكثير من عناصر الوفاء لتوهج السيرة، وبالكثير من الدقة في التوثيق للتفاصيل، وبالكثير من الحرص على حفظ شواهد اللحظات الماضية، أصدر الإعلامي محمد الصديق معنينو عملا تجميعيا ثريا تحت عنوان «بصمات»، وذلك مطلع سنة 2024، في ما مجموعه 235 من الصفحات ذات الحجم الكبير. وبتوجهه – في هذا الكتاب- نحو تغيير نمط التدوين الذي اعتمده المؤلف في تأطير سرديات الأجزاء الستة من مذكراته المعنونة «أيام زمان»، اختار معنينو استكمال تفاصيل هذه السرديات، عبر تخصيص ما يمكن اعتباره جزءًا سابعا من المذكرات، لنشر ركام هائل من الوثائق ومن الصور الفوتوغرافية ومن الهوامش ومن الأوراق «الصغيرة» ومن الملاحظات الحميمية، في عمل مستقل وقائم بذاته. وبذلك، نجح معنينو في ترسيخ مسار الكتابة المخصوصة لديه، اقترابا من إواليات اشتغال المؤرخ المتخصص الباحث عن الوثيقة والمهووس بالشواهد المادية، واستثمارا لتكوينه الإعلامي القائم على منطلقات التقصي والتجميع والتدقيق في الروايات وفي الشهادات وفي الجزئيات. لذلك، تُشكل مضامين كتاب «بصمات» إضاءات منهجية عن الأثر الباقي، مُعززة لمحكيات «أيام زمان»، ليس -فقط- من زاوية إقامة الحجة والدليل على متون السرد ومنعرجاته وأسراره، ولكن -أساسا- تأصيلا لثوابت الكتابة التوثيقية الراشدة غير المطمئنة لانزياحات الذاكرة ولا لمهاوي الذاتية ولا لإغراءات العاطفة.
بذلك، ربط محمد الصديق معنينو بين عنصرين متلازمين داخل عطاء كل من الإعلامي المحترف والمؤرخ المتخصص، يتمثل ذلك في تقديم الحدث بعد ربطه بسياقاته وبحيثياته وبخباياه أولا، وفي توسيع استغلال عطاء الوثائق والشواهد إلى أقصى حد ممكن ثانيا، ليس بهدف تأكيد الخلاصات ومعطيات السرد، ولكن -أساسا- بهدف وضع المنطلقات العلمية لتجاوز منطق الأحكام العامة، والتصنيفات الجزافية، والاستيهامات الموجهة.
ويوضح الأستاذ محمد الصديق معنينو معالم هذا التوجه المعتمد في الكتاب، بكلمة تصديرية دقيقة، جاء فيها: «هي تجربة فريدة أن تقوم بتجميع عدد من الصور وتعمل على نشرها مع تعاليق جد مقتضبة… الصعوبة الأولى هي الاختيار، خاصة وبحوزتي آلاف الصور التقطت في مناسبات مختلفة، داخل الوطن وخارجه، منها صور مرتبطة بمهنتي كصحافي وأخرى برحلات خاصة أو عائلية… شعرت بصعوبة الاختيار وخشيت أن يؤول ذلك إلى تفضيل صورة عن أخرى وإبراز أشخاص دون آخرين والاهتمام بحادث على حساب آخر… قررت العدول عن هذا المشروع، وبعد أسابيع وجدت نفسي وسط صناديق خشبية مليئة بالصور تناولتها فأنعشت ذاكرتي، وأراحت نفسيتي فعُدت للمشروع من جديد… في نهاية المطاف قررت الاحتفاظ بما يُغني مذكراتي «أيام زمان» وأن أعتمد على ما سبق لي أن نشرته في الأجزاء الستة وكذا في مؤلفي حول الحركة الوطنية بعنوان «الحاج أحمد معنينو.. المجاهد».. هي بصمات بالصور بعد البصمات بالحروف… هي تركيز على حقبة مصيرية في تاريخ المغرب… حقبة تقع بين القول والفعل، بين صعوبات المواقف وندرة الحلول، لقد أرادت الأقدار أن أكون شاهدا عليها وأن أترك هذه البصمات بما لها وما عليها…».
يقدم الكتاب تعريفات مقتضبة بالأجزاء الستة من مذكرات «أيام زمان»، ثم من الكتاب التوثيقي لسيرة الحاج أحمد معنينو وكذا من الكتاب الذي خصصه المؤلف لقراصنة سلا، قبل أن يسترسل في عرض ركام هام من المواد الدفينة غير المنشورة، جمعت بين أصول مختلفة وبين محطات متعددة وبين رؤى متقاطعة. يبرز تقاطع رؤى هذه المواد الوثائقية من خلال حرص المؤلف على ربط حمولاتها بمضامين منعرجات السرد، ليس فقط بالنسبة لشواهد المؤلف الخاصة مثل الصور الفوتوغرافية و»الأوراق الشخصية»، ولكن -كذلك- من خلال الانفتاح على أشكال تفاعل المحيط مع مضامين المحكيات، وذلك من خلال مواكبة مجمل الإصدارات الصحفية الموازية للحدث أو المتفاعلة معه، سواء من داخل المغرب أم من خارجه. ومن هذه الزاوية بالذات، تبدو «بصمات» محمد الصديق معنينو كتابة ثانية لمتن الأجزاء الستة لمذكرات «أيام زمان»، بل سيرة ذهنية بأدوات بصرية نافذة وبحرص كبير على تقديم الشواهد المُعززة لمحكيات الذاكرة. ولا شك أن تجميع هذه المادة الثرية استلزم من المؤلف الكثير من الجهد ومن الصبر ومن الأناة ومن الضبط ومن التدقيق، خاصة وأن الأمر يتعلق بمواد شخصية تجمع بين ما هو مهني احترافي، وبين ما هو شخصي حميمي. وعند تقاطع العنصرين، تبرز حنكة الإعلامي المحترف القادر على تجاوز ضغط سلط الواقع القائم، للانتقال إلى مستويات متقدمة في غربلة المادة الإعلامية الكفيلة بكبح جموح العاطفة نحو الانتشاء بالذات ونحو الاستجابة لنهم المواقف «السهلة» المرتبطة بنزوعات الإثارة ودغدغة عواطف المتلقي، ومجاراته بيقينياته المعبرة عن كسله الفكري في استيعاب تحولات الواقع وفي إدراك خباياه وخلفياته وحساباته النفعية أو المصلحية أو الإيديولوجية.
لكل ذلك، أمكن القول إن هذا النوع من الأعمال يمكن أن يُشكل زادا جما لمؤرخي الزمن الراهن، من خلال الآفاق الواسعة التي تفتحها المادة الوثائقية الكفيلة بتفكيك أسئلة الواقع. فالمحكيات الشفاهية تظل أدوات موجهة لكنها غير نهائية، مؤطرة لكنها غير دقيقة، مفيدة لكنها غير كافية.
وفي المقابل، تُضفي الوثائق الغميسة والشواهد المادية بُعدا إجرائيا فعالا على مستوى السرد والتدوين، وفي ذلك توظيف ضروري لملكة الفحص والتصنيف والضبط والنقد، قريبا من حرفة المؤرخ وبعيدا عن مهاوي العاطفة والتدليس.