كلما مشيت في شوارع كازابلانكا، تذكرت الفيلم القديم الذي يحمل اسمها، أخرجه المجري مايكل كورتيز في العام 1942، وصار من كلاسيكيات السينما العالمية..
تُعرف كازابلانكا من الغرباء الذين حطوا على أرضها، واعتبروها محطة للهروب من واقعهم البائس، وتُعرف أيضًا من الصخب العسكري الذي يشارك فيه كل قوى الحرب المستنفرة على خط أحمر وفوهة بندقية، كذلك تُعرف في هذا الفيلم من موسيقى تتسلل على خلفية قصة حب تلتمع وسط كل هذا الركام، من ريك وإلسا المعذبين بين اختيارين: القلب والواجب..
كازابلانكا هنا تتواصل مع غرباء الوطن والحب، يتناثر في أجوائها الخرافة والخوف والسعادة والمغامرة والحرب.
في القرن الخامس عشر الميلادي كان يوجد منزل بلون أبيض يساعد البحارة البرتغاليين على تحديد موضع المدينة، ومن هنا جاءت تسمية المدينة بـ”الدار البيضاء” بدلًا من “أنفا” اسمها القديم، وأنفا التي تعني القمة أو التل، كانت دارًا يمر عليها البحارة والمسافرون والعابرون من أجل التزود للرحلة والطريق، وقبل الحرب العالمية الثانية كانت الدار البيضاء مجرد ميناء مغربي صغير لا يُثير الانتباه على ساحل المحيط الأطلسي، حتى أصبحت جسرًا للعبور والهرب، الحد الفاصل بين جحيم النازي في أوروبا ونعيم الحرية في أمريكا، كما شاهدناها في الفيلم، فالجميع يهرول للفرار إلى أمريكا عبر الدار البيضاء إلا الأمريكي “ريك”، فلا يستطيع أن يعود لبلاده، وأول شيء قد يسترعى الانتباه بمجرد النطق بعنوان الفيلم هو الولع بالمغرب كموقع تصوير، لكن المدهش أنه ولا مشهد واحد تم تصويره في الدار البيضاء أو في أي مكان آخر في المغرب، وإنما في ستوديوهات هوليوود، فهو فيلم لا يحمل من الدار البيضاء سوى الاسم، وربما هذا يبرر فقر التصوير الخارجي في المدينة الحقيقية والاكتفاء بنموذج متخيل عنها، فأغلب الحكاية تدور في مقهى وأماكن مغلقة، وقد يفسر هذا أيضًا كيف أن الصور التي جاءت في المقدمة كانت تشي بأمر في الصياغة البصرية للمكان والمدينة، وهو ما لم يحدث.
هنا حب قد يختل معه التوازن إذا لم نسمع حكايته لآخرها، العلاقة بين طرفيه كانت ضربًا من الغيب وصدى لأحوال صعبة في عالم المؤامرات والقتلى والمجهولون والحرب، إلسا وريك في الفيلم هما ظلان ينفتحان وينغلقان على ما تشكل من تفاصيل هذا العالم الملتبس والمشدود بين ثنائية الحرب والمقاومة، يسعى الحبيبان الغامضان إلى ضفة أمان تنتشلهما من براثن الـ”جستابو” وقوات النازية الألمانية في بداية الحرب العالمية الثانية، لكنهما يتوهان بين أمواج السياسة وهوس من شأنه أن يفرق بينهما، فيصبح هناك مبرر للغزهما المشترك، بينما كان سام يعزف على البيانو ويغني “As The Time Goes By”: إنها لا تزال نفس القصة القديمة/ كفاح من أجل الحب والمجد…
الأغنية الشهيرة التي ارتبطت بالنجم الأمريكي من أصل أفريقي دولي ويلسون (1886 – 1953) حين قدمها في هذا الفيلم، على الرغم من أن مؤلفها هيرمان هوففيلد كتبها عام 1931، غناها كثيرون غيره ومنهم فرانك سيناترا، كانت هذه الأغنية روح الفيلم ولها سطوتها الرومانسية في ظل أجواء الحرب الكئيبة، كما أن دولي ويلسون قام بأدائها بسيط.. عاطفي محاولًا أن يجلب بعض الأمل والفرح، ويعبر عن حالة الغرام التي تغمر “إلسا وريك”، تجعل من يسمعها ويشاهدها يتنفس الصعداء مع كل حركة من هذا الفنان المعروف كممثل ومغني وموسيقي وعازف طبول، لكنه في الفيلم يعزف البيانو ويغني أغنيات مبهجة.
يواصل سام أغنيته بصوت يشتعل بالعاطفة التي يشهدها أمامه:”القلوب مملؤة بالعاطفة”، بينما تقول إلسا لريك وهما يشهدان من نافذة علوية بوادر دخول القوات الألمانية إلى باريس: “العالم كله يتحطم ونحن نقع في الحب”، إذ تختفي بعدها وتخلف وعدها له بمغادرة باريس معه، تتركه على رصيف محطة القطار وحيدًا مع سام ورسالة قصيرة تخبره فيها أنها لن تهرب معه ولن تراه مرة أخرى، هكذا تهجره بدون مقدمات أو أسباب واضحة، تدعه فريسة لهواجسه حتى يدبر لهما القدر لقاءً جديدًا في الدار البيضاء، المدينة التي أصبحت بين ليلة وضحاها مرفأ للنزوح الإنساني من جحيم النازية في أوروبا، ومحطة تخيم عليها كافة الأطياف المتشابكة سياسيًا، كان لابد من مواجهة بين الحبيبين الغريبين، إنتهت بصورة إنسانية تتلاءم مع زوجة وفية وحبيب إختار ألا يعيش كضحية أو كسارق، التضحية كانت منعطف الدرب الجديد الذي تفرق الحبيبان على رأسه، تاركين أثرهما البالغ في نفوس جماهير منحت “كازابلانكا” شعبية منقطعة النظير، الفيلم الذي أصبح علامة بارزة للرومانسية والحب، وضعه المعهد الأمريكي للسينما في قائمته كأعظم قصة حب في تاريخ السينما الأمريكية، كذلك صار واحدًا من أبرز أفلام الحرب والجاسوسية في السينما العالمية، ما يجعل سؤال الناقد السينمائي الإسباني خابيير كورتيخو مُستغرباً حين يقول: كيف يعقل أن فيلما كتب بطريقة عفوية إرتجالية، قد تحول إلى كتاب السينما المقدس؟…
* ناقدة سينمائية مصرية