نشير بدايةً إلى أن الجائزة توصلتْ بمائة وسبعين رواية للترشيح للجائزة مستوفية لشروطها. تنتمي الترشيحات إلى جميع الأقطار العربية تقريبًا من المحيط إلى الخليج، وهذا ما سمح برسم خريطة واسعة ومتنوعة لتعبيرات ومشاغل وجماليات الجنس الأدبي للرواية العربية، وبما تحفل به من مواهب واعدة، إضافة إلى الأسماء الرّاسخة والتيّارات السائدة.
بعد قراءات متعددة، وتقويمات متقابلة، تمّ في مرحلة أولى اختيار القائمة الطويلة من هذا الكمّ الوفير بعدد أربعة عشر نصًّا حسب نظام الجائزة،مما اعتبرناه نحن لجنة التحكيم، وبالإجماع، الأجدر والأفضل، بمقتضى المعايير الفنية الملائمة وتمثيلها لعناصر الإجادة في: سلامة اللغة، والحبك، والسّبك، والنّسج، وأصالة الأسلوب، واقتراح اجتهاد في الشكل والمعمار، لتخييلذي رؤية متميزة يتفرد فيها عالم خصوصي لتيمة وموضوع محددين. وهو ما قادنا إلى فحص دقيق آخر للنصوص المختارة في القائمة الطويلة كي ننتخب منها القائمة القصيرة وهي بعدد خمس روايات. نسجل في ما يلي أهم ما شُغلت به مجملُ المادة المرشحة من مواضيعَ وركزت عليه من قضايا ومعضلات، وميّزها بناءً وطريقةً ونسجًا:
1ـ تتوزع الاهتمامات بين الشأن الاجتماعي في بؤر صغرى لتعطي مجتمعة ًصورةً كليةً عن طبقة أو فئة أو جماعة، تبرزُ بسلوكٍ وثقافةٍ وتقاليدَ محددة. يعود كتاب كثيرون إلى البيئات الريفية ليرسموا أنماط العيش فيها في أشكالها المختلفة والقوى المتحكمة فيها والموجّهة لها، هنا تُكمن وتتجلى البنيات الأنتربولوجية، وإواليات الثروة والسلطة والعلاقات الاجتماعية.
2ـ مساحات كبيرة من السرود تحتفي بهذه البيئات الخلفية، التي أزاحها السردُ الحضريّ إلى الهامش، محكياتٍ وأماكنَ وشخصياتٍ وأزمات، ليحتكر تمثيل الزمن والجماعة، فنرى نوعًا من الانقلاب على هذا الاحتكار، وزحزحةً لمعادلةٍ استقرت في الواقع والأذهان تجعل المدينةَ وحدها المجال وسواها تابع، والسردَ المدينيَّ اللسانَ الناطقَ والواصفَ وما عداه لغوٌ ونافل. هنا تعود الحكاية لتحلّ محلّ سرد المدينة، هي المناسِبة للفضاء غير الحضري وضدّ تعقيداته.
3ـ تتصدر تيمةُ الغلبة والهيمنة جميع الروايات، وتتفرّع عنها مواضيعُ الظلم الاجتماعي، وافتقادِ العدالة، وأنواعٍ مختلفة من الغبن والكبت تصيب الأفرادَ تحت سطوة الجماعة والسلطة. لذلك تدور الحبكاتُ الروائيةُ دائمًا حول خطط ورغبات القصاص واسترداد الحقوق وطلب النَّصَفة، وتصطدم بمعوّقات تؤدي إلى إحباطات وفجائعَ، والمحصلةُ أدبُ الخسارة والفجيعة.
4ـ تتجاور في الروايات وتتداخل مشاهدُ وطقوسٌ وممارساتٌ يتجاذب فيها الماضي والحاضر، وقيمُ المحافظة والتقدم، وأفكارُ وخطاباتُ الصراع من طبيعة عقيدية وإيديولوجية وسياسية، إمّا أصلية أو مسخّرة لتكريس الهيمنة، تبرز في أفعال تصنع التوترَ الدراميَّ المطلوب، أو مساحتُها النفسُ البشريةُ تصطرع بمكبوتاتها وعجزها، ويُقنِع السرد بمقدار ما يكون الفعل بالتشخيص والتمثيل هو المجْلَى وليس سيلَ الكلام وخُطبَ الشرح والوعظ، ما أغزَرها.
5ـ يحضر التاريخ بقوة في عدد من الروايات. مرةً، مادةً كاملةً خالصةً بتواريخَ وأحداثٍ وأعلام، وأخرى بالانتقاء والاقتباس، وطورًا مرجعًا وعلامةً في سياق. إنها ليست الرواية التاريخية، ولكن امتصاص رحيقِ ومرارة التاريخ وهو يصبّ في مجرى الحاضر وشِعابه. كذلك تُستخدم مادتُه قناعًا وخطابًا مجازيًا عن واقع تمنع كوابحُه من تصويره والجهر به، لذا، فإن العديد من التجارب المقروءة ترتبك بين أكثر من طريقة وتمثيلها أقرب إلى الأليغورية.
6ـ هذا مظهرٌ آخرُ لانكماش المنظور الواقعي في الروايات التي توصلنا بها ورشحناها، أيضًا. وهي ظاهرةٌ غالبةٌ على الرواية العربية اليوم، تبدو كأنها ناتجةٌ عن العمى عن الواقع الذي هو قاعدةُ الرواية الأولى ومبرّرُ جنسها، فهي ليست ملحميةً ولا أسطوريةً ولا شعرية، بل موضوعيةً تستمد مادتها من الحياة وحركةِ الناس ومشاعرهم وليدةَ قدْح زنادٍ دائمٍ مع الواقع؛ وإمّا أن هذه الروايةَ هي التعبيرُ المعاكسُ عن خيبة أمل من الجمود والتكرار والفتور، فيغدو الداخلُ بديلًا للخارج، والذاتُ معتركَ الحبكةِ والفعلِ الدرامي عوض موضوعٍ تحلّل ولا يُفهم.
7ـ على الجملة، فإن الإحساسَ بالقهر والظلم وسطوةَ الاستبداد السياسي وديمومةَ عبء التقاليد وحَجْرِ الجمود على طموح التجديد، وخصوصًا الحرمان من حقوق أولية تعطي للإنسان حقَّ الوجود في وطن، وامتلاكَ هوية، واكتسابَ ما يتمتع به الجميع متوّجًا بالحرية والكرامة، هي المواضيعُ والشواغلُ الكبرى في روايات هذه الدورة، وتُعدُّ مرآةً عن أوضاع عربية مؤسفة.
8ـ تنسجم الطرائقُ الفنيةُ المتبعة، والأساليبُ المطروقة في الروايات مع المعاني والدلالات المرصودة أعلاه. بعضُها قليلٌ ينهج طرائق السردَ الكلاسيكيّ وفق زمنيةٍ خطّية، نلاحظه في نصوص الحكاية والبيئة الريفية الأحداثُ فيها متوقَّعةٌ ومنطقيةٌ، والشخصيات تعمل في مسارات أفقية. وأكثرُها يكسر الخطّية والانزياح عن منطق السّببية، ونظام الوحدات الثلاث.
9ـ من أهم مميزات هذا الانزياح، تغييرُ موقع البطل وإفراغُ مفهومه من معناه وتجزيئ مناطات البطولة، ما ينجم عنه حتمًا تفعيل آليةِ تعددِ الأصوات، وتشتتُ المعنى بتفكيك دواله، ليصبح غرائبيًا وفاقدًا لليقين. لا يقين مع الرواية العربية في الألفية الثالثة، تساقطت القيم التي قبلها وقيمٌ بعدها تُجهَض أو لم تولد بعد. لذلك، نجد في الرواية الواحدة فسيفساءَ أشكالٍ وأساليبَ وخطابات، دليلَ ضياعٍ وبحثٍ في آن، وهو تمرينٌ على مختلفٍ، ونزعةٌ تجريبية مرتبكة.
10ـ وعلى الجملة، تتجاور في الروايات المترشحة والمختارة في القائمتين الطويلة، والقصيرة خاصة، طرائقُ وأساليبُ وأنهجٌ ورؤى ومواضيعُ وشواغل، بين ما كان يطرقه السردُ العربيّ إلى قريب، وما ينزاح عنه بحثًا عن تعبير طريف وكيان متلوّن تشغل فيه الذات موقعًا مركزيًّا، ويبني فيه الكاتبُ عوالمَ مفردةٍ بلغة مبتكرةٍ تعوّض وصاية التقرير وصوت المؤلف المقحَم، بالبوح والمونولوغ الداخلي، والتطريز الشعري على نسيج المجاز، باتجاه واقعية حلمية.
(*) رئيس لجنة تحكيم الجائزة