مليكة نجيب مروضة الأفكار والكلمات

بالهدوء عينه وبالابتسامة الناضجة التي كانت تحتويك بدفئها وبحضورها الغامر المتخلي عن ضجيج أنوثات امتهن الواجهات والأضواء، وسارعن بل اشتغلن كي يحتلن الصفوف الأمامية في مشهد ثقافي يؤمن بالعلاقات كمنجم يحتاجه الإبداع ليتألق وينال الاعتراف، كانت تكتب القاصة مليكة نجيب. هو الهدوء ذاته المتأمل في الواقع وشخوصه ومظاهر وجوده المعقدة والرازحة تحت نير القهر والصعوبة والمجهول الذي يطوح بشخوصه في متاهات واختبارات تحول وتبدل وجودهم، وتجعلهم غرباء في مرآة تعكس الثقل الضاغط والمحول لواقع قاس لا يرحم . كان الكثير من تأثير المكان أو مسقط الرأس على هذه القاصة المختلفة في وجودها وحضورها، هدوء المتأمل وثراء الحضور والابتسامة المرحبة الطيبة الحاضنة المتفهمة هو نفسه النفس الذي كتبت به مليكة نجيب قصصها. لم تنغلق في شؤون الأنوثة والمرأة رغم أنها بحكم عملها والملفات الإدارية اوالجمعوية التي أسندت لها لدراستها ومتابعتها كان يجعلها على اطلاع بأدق تفاصيل قضاياها ومستجداتها. اختارت مليكة نجيب في قصصها أن تكتب عن الإنسان وعن همومه وقضاياه ونضاله وصراعه من أجل البقاء في واقع صعب يهدده بالمحو وبالعجز والتقزيم والاختزال والمسخ..
كتبت مليكة نجيب قصتها بهذا الوعي المتأمل الذي لا يفرق بين امرأة ورجل في معاناتهما المشتركة في مواجهة ضغوط الحياة، والزمن وتهديد العجز أمام إكراهات وظروف يفرضها واقع لا يبارك إلا جموع بهلوانات قادرة على الرقص على الحبال، ولبس لبوس كل مرحلة ومسايرة ما تفرضه من شروط ربما يعجز عنها من لم يتعود السباحة في هذه المياه الآسنة.
مليكة نجيب بابتسامتها الهادئة، وبحضورها الوارف القادر على ملء المكان بقدرته على الإنصات للآخرين وتفهم جرحهم العميق ومساندتهم ولو بالكلمات الحانية، هو ما منحها في كتابتها للقصة القصيرة القدرة على استدعاء هذه النماذج من الشخوص التي تشكو من هم ما أو تعاني من ألم ما لتغوص في نفسيتها وتستخدم كل ما استجمعته من إنصاتها وتعاطفها وتحليلها للهم الإنساني لتنقله في حلة فنية تتميز بالسحر، ذلك السحر القادر على النفاذ إلى الروح الإنسانية ونقل معاناتها وعجزها.. فهاهو مروض الحلزون في قصتها التي تحمل نفس العنوان يلجأ إلى بيع الحلزون بعد أن عجز إلى ولوج سلك الوظيفة العمومية ليقوده عجزه وخياله المتغذي من قراءاته العديدة إلى أن يحتمي ببيوتات الحلزون وعينه التي لا يملؤها التراب ليوفر وليعد لساكنة حيه حلزونا بأعشاب فردوسية تملك أن تطرد كل عجز يعانيه متعاطيها. تقول على لسان مروض الحلزون: « ورمت بي الأفكار بين لجج هوس سيزيف لتعلمني الغوص لاقتناص مورد للعيش .استنجدت بتخصصي في الإحصاء التطبيقي لتجريد الأفكار من خيالاتها وهي «طايرة». طلقت عطالة القطاع العمومي وفي القلب لوعة. واستعنت بجبروت الأرقام لفك البؤس عن وضعيتي.
وجدت الحلزون قارب نجاتي من بطش الفشل وسم الإحباط.” في محاولة للتغلب على واقع الإحباط واليأس يستنجد الراوي بالحلزون وإعداده كوجبة خفيفة يتعاطاها ساكنة الأوساط الشعبية ويقبلون عليها وكل في نفسه هوى يسعى للحلزون العجيب كي يحل مشكلته..كما سعى هو ليحل مشكل البطالة ببيع الحلزون على عربته. في هذه القصة تطالعنا مليكة نجيب الإنسانة والكاتبة الملتصقة بهموم من يعانون. تدرك جيدا الأثقال الجسيمة التي يحملها كل على عاتقه تكتبها بنفس العين الهادئة المتأملة السابرة غوص النفس البشرية والمنصتتة لحشرجتها وأنينها وهي ترزح تحت الثقل الذي تحمله، تعدد وتحصي تلك الآلام والمعاناة العاجزة وتتماهى معها في آلامها لتروي بتلك الدقة ولتنقل بتفصيل تلك الأثقال وتلك الآلام بلغة شفيفة متماهية، مستقصية ومنقبة ومحللة مجهول ظلمات تعمقها المعاناة والألم الإنساني .
انشغلت مليكة نجيب بكتابة القصة وكان هاجسها الملح أن تطور قصتها وتكتبها بإتقان كما يفعل الكبار ممن كتبوا قصصا بقيت خالدة يعود لقراءتها جمهور القراء، ولا يملون من قراءتها. كانت دائما مسكونة بالكتابة تناقش وتحاول بجد الرقي بقصصها إلى مصاف الكبار وهو الهم الذي يحدو من تلبسته شهوة الكتابة وسكنت دمه وأصبحت جزءا من الهواء الذي يتنفسه.
تقول متحدثة عن تجربتها ووعيها الأدبي والثقافي خلال حوار أجري معها قبل سنوات “هو ما زال قيد التشكل، فتجربتي في الكتابة مشروع رزين يتجنب الامتداد في الخواء، لبناته تسعى للانصهار والالتحام بالصدق والصقل والتعلم من التجارب الأخرى . وكما سبق لي أن قلت، أنا أنكتب أكثر مما أكتب، أنا مادة زئبقية في النص، قد أكون الساردة أو أحد الشخوص وقد أغيب. خلقت نواة في رحم الكتابة، أبحث باستمرار وبتحد الباحث عن هويته، عن جنسي في حضنها: تلبسني الفكرة وأتدثر بعباءة الخيال وأمتطي أحصنة السرد الصعبة الانقياد وأرحل في مجاهل الحكي، يحدث أن يكبو فرسي وينضب مدادي وتستهويني الآفاق غير المنتظرة في محراب جذبتي الابداعية، وأحلم، أنا أحلم دوما أن أبرع في نسج حكايات تستهوي كل القراء المفترضين”.
في مقدمة قصة مروض الحلزون يبرزهذا الانشغال لدى القصاصة مليكة نجيب بهاجس كتابة أفكارها، وهو هاجس لا يفارق الكاتب الحق، فقبل كتابة الفكرة يمر صاحبها بكثير من القلق والحيرة والاشتغال عليها حتى تنضج وترى النور أحيانا تكون ولادتها صحيحة معافاة لا تشكو من نقص وأحيانا أخرى تولد مشوهة لا تخلو من نزق كاتبها الذي جعلها ترى النور قبل أن تنضج وأحيانا أخرى تبقى سجينة رأس كاتبها راقدة راكنة تعسر ولادتها حتى تفسد وتكسد وتسبب الألم لأنها لم تجد طريقها لولادة صحيحة. تقول مليكة نجيب على لسان السارد في مستهل قصة مروض الحلزون:” أمضي ردحا من الزمن في خلق الأفكار وتنقيحها حتى تخصب وتينع بتفريخ حجج للبرهنة والإيضاح.
ويحدث أن نهيم بأفكارنا ويصعب علينا كشف عورتها للآخرين قبل نضجها، مخافة أن تتيه في زحمة الـتأويل،وتجانب مصب الترتيل. وتولد الفكرة أحيانا نتيجة علاقة غير شرعية عبر طيش عقل، ويتقبلها المتلقون بتلقائية رأفة بصاحبها، وقد يرفضونها دون تمحيص لأنها نتاج نزوة. والأفكار فيض بلا حد، وغيث متهاطل، تحبل به الكتب الكاسدة بصقيع حديد المكتبات المزينة أغلبها لديكورات المنازل، والمنفية دوما من جلسات وسمر البيوت.
كما لاحظنا، تتحدث الكاتبة عن مخاض الولادة والأفكار وهو ألم مصاحب للعملية الإبداعية وإنتاج النصوص ، وكما شاهدنا واطلعنا في مجموع كتابات المرأة ، ترتبط كتابتها بالألم المصاحب لكل ولادة سواء بيولوجية أو إبداعية مرتبطة بالأفكار والكلمات ونقل معاناة الذات الكاتبة وآلام الآخرين الناتجة عن اصطدام الأحلام بالواقع الصعب الذي يجهز عليها ، وهو ما اهتمت مليكة نجيب في جل قصصها بالتفكير فيه ونقله عبر الكلمات التي تنقل هذا الإحباط والخذلان الذي تعاني منه شخوص قصصها جراء الاصطدام بالواقع، هازم اللذات ومجهض الأحلام والرغبات.
كثيرا ما يمازج الألم والمعاناة كتابة المرأة سواء معاناتها الخاصة في مجتمع ضاغط مكبل للحريات ومحبط للأحلام في مهدها قبل أن ترى النور. في قلب الكتابات النسائية نعثر على شهادات الجسد الذي يعاني الأمر الذي سيلفت انتباهنا: تثير النساء أحيانًا المعاناة في كتاباتهن،سواء معاناتهن أوتلك الخاصة بالآخرين في كثير من الأحيان. هل مسألة الجنس ذات صلة هنا؟ بمعنى آخر، هل يُبرز التعبير عن الألم سلوكيات جنسانية في مواجهة المرض والموت والإحباط وتقبير الرغبة؟ وإذا كانت موجودة فإنها تستحق الدراسة في خصوصياتها. وبعبارة أخرى، هل التعبير عن الألم – بحكم تعريفه الذي من الصعب التعبير عنه – هو الذي ينبجس عنه هذا التمييزفي التعبيرعن هذه المواجهة للموت والمرض وانتحار الرغبات عند جدران الواقع القاسي. وهل لدى النساء علاقة خاصة بنقش المعاناة في كتاباتهن الخاصة؟ هذه العلاقة، إذا كانت موجودة، هل من المحتمل أن تتطور أخيرًا، وما الأسباب؟
في قصة” الراكد” نحن أمام شخصية الساردة الزوهرة التي غادرت بيت الزوجية لتلتحق بفرقة للغناء الشعبي، يرأسها شيخ يسير الفرقة بتوجيهاته وينظر بعين التوجس إلى الزوهرة التي بالفرقة حديثا وهي تغني وتردد العيطة بصوت يردد آلامها ووقوفها بباب مسدود وانتظار فرج قد لا يأتي، الزوهرة التي تعانق حلم حمل صعب تحققه في الواقع، وتحمله بالرغم من ذلك بالألم والأمل في رؤيته يوما يرى النور بعد تجاوز شهور الحمل العادية. هو حلم كاذب أو فات الأوان على تحققه وبقيت الذات تتأرجح في معاناتها بهذا الحمل الذي لن يتحقق، تقاسي مرارة الإحباط والفشل المتعدد الذي تعانيه من زواجها الخائب وعلاقاتها المجهضة في بحثها عن المتعة بعد أن غادرت عش الزوجية وبيبانها المتعددة المفتوحة على المجهول بعد أن انغلق باب زواجها بزوج هو الآخر مبتلى بفتح أبواب الرغبات المحرمة بعد قطفه ثمرة زواجه والانطلاق في البحث عن ثمار أخرى، الراكد: وما تعنيه في الثقافة الشعبية والتي تنهل الكاتبة منها سواء باللجوء إلى أغاني العيطة ونداءاتها الملتاعة وتوسلها بالأولياء لنيل الدعم والمساندة في المعاناة والألم. حينما تهزج الزوهرة بكلمات العيطة التالية ورجاها في العالي تنشد تقول :
“انطلقت عقيرتها الماتحة من سهول انبطحت تحت دك الحرْكة وفرسانها وحكايات فُتلت بعزة أهلها.
«أنا أل شراني، صرت ملكو، نخدمو كيبغا، ونگعد أوسادو، ونذوب في هيامو، آهيا مولاي
الطاهر راه أنت ولي”..
ويطوي الشجو تدفق الأنين والتوجع المتدافع، وهي تردد:
ونا في حكام المولى وأنت دير لي تاويل، آهيا مولاي الطاهر راه أنت ولي.


الكاتب : رجاء الطالبي

  

بتاريخ : 12/07/2024