هكذا تكلم كيليطو

كان الأدب العربي بحاجة إليه، وكان هو على دراية بهذا النزوع القوي لديه، على عكس ما كانت تعده له الأيام. وهو الذي ذهب إلى جامعة السوربون لإعداد رسالة بالفرنسية فكتبها في موضوع عربي عن “السرد والأنساق الثقافية في مقامات الهمذاني والحريري” ؛ وهو الذي أنفق أربعين سنة في التدريس الأكاديمي للأدب بالفرنسية، فكان يمزق أوراق التحضير فور الانتهاء من الحصة، لأنه كان على اقتناعٍ بأنه لا يريد الكتابةَ مثل الآخر، ولا يريد لكتاباته أن تبقى حبيسة النهج الأكاديمي الجامد. كان يساوره شعورٌ ملازم بأن الأدب الفرنسي لا يحتاجه، وبأن الأدب العربي يحتاجه بقدر ما كان هو يستشعر الحاجة إلى الكتابة فيه وعنه.
اختار أن يتعلم الفرنسية كي يكتب بالعربية، هكذا يحب عبد الفتاح كيليطو أن يروي أسطورته الشخصية، لكنه، وإن كان قد مزق أوراق التحضير الفرنسية، لم يتخلّ يوماً عن المعرفة الوثيقة بالأدب الفرنسي وبالآداب الأوروبية، مخطئ من يظن أن ثمة قطيعة بين روافد ثقافته الموسوعية، بل هو كائن في الثقافتين، كمن يبحر بين ضفتي نهر لا يتوقف عن الجريان. إنها صورة “المثقف حمالاً” التي جعلها كيليطو عنواناً لأحد كتبه، والتي يستخدم بمقتضاها نصفي تجربته بُغيةَ تحقيق ما يسميه “تجسير الهوة : مد جسر يجعل من اللغةِ ترجمةً، ومن الهويةِ انتقالاً، بين تراثين وثقافتين، ومن المثقفِ حمالاً، يُوصِل ضفةً بأخرى.”
هكذا يُعرِّف أديبنا دورَ المثقف، بكثير من التواضع، حمالاً بين ضفتين، فكيف لنا أن نُعرف عبد الفتاح كيليطو، في مسعاه النقدي المعروف بفرادة أدواته؟

القارئ

بداية، هو قارئ قبل كل شيء، قارئ من نوع استثنائي، هو القارئ الذي كان له حظٌ عظيمٌ من اسمه، إذ يلحظ الناطقون بالفرنسية أن اسم “كيليطو” يشكل بمقاطعه الصوتية الثلاثة عبارةً معناها “الذي يقرأ مبكراً” Qui lit tôt، لكنني أحب أن أحوِّر الطاء في اسمه تاءً ليكون معنى اسمِه “الذي يقرأ كل شيء” (Qui lit tout).
فهو الذي قرأ مبكراً وقرأ كل شيء تصل إليه يدُه الصغيرة، ولاحقاً سيقرأ كل شيء من معانٍ استدقت وراء السطور. ليكون للقراءة الدورُ الأكبرُ في توجيهِ دفتِه في الحياة، وهو القائل : “قد يؤدي الولعُ بالقراءة إلى رسم مصير الطفل وتحديد مستقبله الدراسي والمهني، من هذا المنظور كان من الطبيعي أن أمارس مهنة تدريس الأدب”. ومع دراسة الأدب وتدريسه، اكتسبتْ قراءةُ كيليطو وجهَها النقدي التأويلي، لاسيما بعد أن تتلمذ لمدة عام كامل على يد الناقد والأديب الفرنسي رولان بارت في المغرب، ذلك الأديب الماتع الذي يقول عنه جون ستوروك إنه “محفزٌ لا مثيل له للعقل النقدي”. سيقرأه كيليطو بتأنٍ، “والقلم في يده”. وسيقرأ من تتلمذوا عليه مثل تزفيتان تودوروف وجيرار جينيت، اللذيْن سيدعوانَه لاحقاً ليلقي محاضراته في قراءة التراث العربي والإنساني في كلية فرنسا العريقة (كوليج دو فرانس) بعد أن شق في ميدان النقد طريقَه الخاصَ به دون سواه، ليكون النقد معه نوعاً أدبياً قائماً بذاته.

ولكن، لماذا يُمتِعنا كيليطو ناقداً؟

الناقد

يمتعنا كيليطو لأنه يَعرِضُ بالتفكيك لمسألة النقد ذاتها، فهو ينبذ النزعةَ التقليدية للنقد، حيث على الباحثِ -على حد قوله- أن “يختار مؤلِفاً معيناً، فيبدأ بالكلامِ عن العصر، ثم ينتقل إلى حياة المؤلف، مختتماً بآثاره. لقد طغى هذا النموذج على الدراسات الأدبية إلى حد أنه أصبح كالشيء الطبيعي وليس كظاهرة أدبية وُلدت في القرن الماضي.” إن الناقد وفق هذا المنظور البالي واعظٌ أخلاقي، يلعب دور الموجه، وهو على حد تعبير كيليطو قد تحول إلى “صيرفي يميز القطعة الجيدة من المزيفة” و “الأنواع النبيلة عن الأنواع السوقية”. وبعبارة عبد السلام بن عبد العالي، “يريد كيليطو أن ينظر إلى العمل الأدبي “فيما وراء الخير والشر (..) وهو يحاول إخراج النقد عن ميدان القيمة والنقود والصيرفة، ليجعل منه عملاً سندبادياً، يتجول في فضاءات مختلفة، فينقلنا من الألفة إلى الغرابة”.
إننا نحب قراءة كيليطو لأنه أخرج النقد الأدبي من جموده الأكاديمي، وخلصه من استعلائه وتسلطه التقييمي والتقويمي، واكتشف به أرضاً غريبةً عنه وعنا، هي أرض الأدب العربي القديم. أضحى سبيلُه إلى التجديد هو الاغتراب في أكثر ميدان أدبي يُظَن أنه مألوفٌ لنا، ميدان التراث، وهو القائل: “إذا أراد المرء أن يتجدد فما عليه إلا أن يغترب، أن يبدل مقامه، أن يُغرب كما تفعل الشمس.”
لكن كيليطو يأبى أن يستخدم كلمة “تراث”، فالتراث لفظة تحيلُ، على الرغم من هالة التكريم، إلى ركام من المعرفة، اكتظت به الخزائن، وما عاد مستعملاً في الحياة اليومية المتسارعة. فالتراث هو مادة بحثية ينطلق منها كيليطو لا لدراستها في ذاتها وإنما لنفي القطيعة معها ووصلها بمسارات الأدب الحديث. هكذا يستكشف كيليطو الأدبَ القديم، ويحوله إلى سرديات جديدة. معه نفهم الجاحظ كأحد معاصرينا، ونسمع مقامات الحريري كأنها تغريدةُ بجعة تنبئ بما سيكون من ركود في تاريخ أدبنا العربي من بعده. بفضل كيليطو سنكتشفُ المقامة، “تلك الزهرة التي لا يُدرى كيف تفتحت”. وسنلتقي بثنائيات لا تجتمع عند سواه، مثل دانتي والمعري، وابنَ رشدٍ وبورخيس، وابنَ حزمٍ وبروست، والجاحظ ومونتني، والشدياق ونابليون الثالث. إن أجمل ما في نقديات كيليطو أنه “يحول عالم الحقيقة إلى حكاية” على حد تعبير نيتشه.
ولكن بأية لغة اختار كيليطو أن يسرِد عالمَه؟

المتكلمُ كل اللغات، ولكن بالعربية

في كتابه “في جو من الندم الفكري” يوصّف كيليطو حالة الانفصال بين اللسانين العربي والفرنسي في مجتمعه قائلاً: “منذ الصغر (..) وجدت نفسي دوماً في خضم جدالٍ بين اللغات، حربٍ شرسة، سجالٍ مع الآخر ومع نفسي طبَّع مختلف كتاباتي.”(..) يسترسل شارحاً: “تمت دعوتي وبدون لف أو دوران إلى قطيعة مع الكتابة بالعربية وإلى التوجه لجمهور مغاير. جميل أن تدرس المتون التراثية ولكن افعل ذلك بالفرنسية لأن الخلاص بها. أما العربية، فاكتب عنها، لكن إياك أن تكتبَ بها، وإلا ستظلُ حبيسها ولن يلتفت إليك أحدٌ خارجها.”
وفي حرب اللغات الشرسة تلك، اختار كيليطو بعد إنجاز مسودة كتاب الغائب بالفرنسية أن يعيد كتابته بالعربية، وبرر قراره ذلك بقوله : “ربما قمتُ بذلك دفاعاً عن لغة بدت لي مهضومة، ربما بالأحرى تضامناً مع مؤلفين أحببتهم في صغري، من أمثال توفيق الحكيم وطه حسين”(..).
“منذ ذلك الحين وموضوع اللغة يهيمن على تفكيري، لم أنفكُ أطرحه، بل إنه السؤال الأساس في كل ما كتبت. كان يلزم انتزاع حق الكتابة باللغة العربية وفرض نفسي ككاتب عربي يواجه رهاناً صعباً، مجنوناً، ألا يكتب كالأوروبيين، وأن يختلف في الآن عن المؤلفين العرب الذين اطلع على مصنفاتهم.”
هكذا يسعى كيليطو أن يكون هو نفسه، باختصار.
لكن اختيار العربيةِ كلغةِ كتابة يترافق عنده مع اختيار الترجمة كجسر بين الثقافات؛ وكاتبنا يعلم ما كان من محنة الترجمة في بلاد العرب في حقبة الانحطاط الممتدة ما بين القرن الثاني عشر والتاسع عشر. إذ يصف الحالَ آنذاك قائلاً:
“لم يكتفِ القدماء بالاستهانة بالترجمة ونبذها من تفكيرهم، بل يخيل إلينا أنهم حرصوا عن غير عمد على جعل مؤلفاتهم غير قابلة للتحويل، فطوروا صياغات وطرقاً في التعبير وأساليب تستعصي على النقل. ولعل أحسن مثال على ذلك مقامات الحريري، فهو كتاب تقول كل عبارة من عباراته : لن يستطيع أحد ترجمتي! (..) فمن يا ترى سيُقدم على ترجمة رسالةٍ تُقرأ طرداً وعكساً دون أن يطرأ عليها تغيير، أو رسالة تقرأ من أولها بوجه ومن آخرها بوجه آخر؟”
الأدب العربي القديم إذن باكتفائه بنفسه وانكفائه على أسباب تفوقه في قديم الزمان وإعلائه لأسوار حِيله اللغوية كان كمثل من يقول للآخر وبوضوح لن أتكلم لغتك ولن تتكلم لغتي ! لن أترجمك ولن تترجمني.
في النهضتين التي شهدهما الأدب العربي في العصر الكلاسيكي وفي العصر الحديث، كانت قاطرة التجديد ومحرك الانفتاح هي الترجمة، تواكبها نظرةٌ نقدية تلقى على التراث، وعلى الذات.

فما الحل؟

“أتكلم جميع اللغات ولكن بالعربية”، بمعنى أقرأ كل اللغات ولكن بالعربية عبر الترجمة، ذلك هو الحل الذي يطرحه كيليطو. متمثلاً رد الفيلسوف الإيطالي أمبرتو إكو على سؤالعن اللغة التي تجمع الأوروبيين، حين أجاب إنها الترجمة. ويضيف كيليطو أن الترجمة هي التي تجمع قراء العالم بأسره. “فأن تترجَم هو أن يعترف بك الجميع. (..) كان إرنست رينان يقول :”العمل الذي لم يُترجَم لم يُنشر إلا نصف نشر”.”
ومن الترجمةِ إلى الرواية، فلكاتبنا عالمُه الروائي.

الروائي

يبدأ كيليطو الكتابةَ انطلاقاً من صورة أو عبارة. لزمن طويل، علقت في ذاكرته قصة من كتاب ألف ليلة وليلة، جنيةٌ على السطح تستعد للتخلي عن عالم الأرض لتذهب إلى عالم الماء، فتنتظر استيقاظ زوجها لكي تودعه. ها هو كيليطو يجعل من صعوبة تذكر الصورة انطلاقة لروايته “والله إن هذه الحكاية لحكايتي”. في هذه الرواية، يشتبك أديبنا مع نظرية نقدية أساسية لدى رولان بارت ألا وهي نظرية “موت المؤلف”، التي يعد النص بحسبها فضاءً متعدد الأبعاد، تمتزج فيه مجموعة متنوعة من الكتابات، لا يتمتع أي منها بالأصالة، لذا فالأحرى بالناقد أن يدرس النص وليس المؤلف. في رواية “والله إن هذه الحكاية حكايتي”، يُظهر لنا كيليطو هذه الفكرة باستعارة حكايات معروفة ليصنع منها نصه، فيستعير من ألف ليلة وليلة، ومن قصة ذو اللحية الزرقاء، بل ومن حكاية آدم والشجرة المحرمة، ليظهر لنا منذ البداية بصورة لا لبس فيها أن كل نص، مهما أقسم مؤلفه أنه صاحبه ما هو إلا استعادة واستعارة لنصوص سابقة. “فالقسم كما يكتب كيليطو اعتراف بالكذب. (..) حتى أنا نفسي، عندما أُضبَط على خطأ ، كنتُ أشهد الله على براءتي”. فالكذب هو منطلق التخييل، واستعارة حكايات الآخر هو مبتدأ كل حكاية. هكذا ينطلق كيليطو من فكرة نقدية لإقامة بنيانه التخييلي، بمثل ما ينطلق في أعماله النقدية من نصوص تخييلية. وفي الحالتين هو أديب يحوّل النقد إلى نسق حكائي ممتع. في المحصلة، كما يقول كيليطو مستحضراً طيف رولان بارت: “كل مؤلف هو جامعٌ وظيفته جمع وثائق متناثرة.”
هو قارئ قبل كل شيء، قارئ من نوع استثنائي، هو القارئ الذي كان له حظٌ عظيمٌ من اسمه، إذ يلحظ الناطقون بالفرنسية أن اسم “كيليطو” يشكل بمقاطعه الصوتية الثلاثة عبارةً معناها “الذي يقرأ مبكراً” Qui lit tôt
لكن كيف يصنع المؤلف من وثائقه المتناثرة سبيكة متآلفة، تلك هي صنعة الأديب.


الكاتب : داليا سعودي

  

بتاريخ : 16/07/2024