على سبيل البدء:
تأتي رواية «محنة ابن اللسان»1 للكاتب المغربي جمال بندحمان لتشكل إضافة جديدة في مسار فعل الكتابة لديه. فلئن كان قد عُرف بوصفه ناقدا أكاديميا وباحثا تربويا، فإنه قد اختار هذه المرة نافذة أخرى للقول، وهي نافذة الفن الروائي.
والقارئ لهذا العمل سيجد نفسه أمام نص روائي محبوك من متعدد، ومتشكل من مختلف، وناهض على متناقض، لكن كل ذلك تجمعه، بل وتستدعيه، فسيفساء التشكيل الروائي، وتجمع بينه، الثِّيمة المهيمنة على النص التي يمكن عدها ‹الشخصية الرئيسة› وهي (اللسان)، وما يستتبعه من أفعال أو أشكال، وما يقتضيه من سياقات خطابية متباينة، وما ينتج عن كل ذلك في معيش الفرد والمجتمع على السواء.
فأين تتجلى تعددية هذا النص؟ وكيف يصير اللسان محنة؟
ملاحظات سريعة في عتبات الغلاف:
تعد العتبات النصية أو المناصات، عنصرا أساسيا في بناء النص، كل نص، وفي تجسير العلاقة بينه وبين متلقِّيه، إذ هي أول تماس مع القارئ، وهي كفيلة بجذبه للقراءة أو تنفيره منها، لذلك، فإنها تكتسي أهمية قصوى في عملية الإنتاج، أي في مسار استضافة النصوص وتلقيها، كما أن وظيفتها لا تقتصر على الجانب التسويقي فحسب، وهو مهم، بل تتعداه، إلى الجانب التأويلي، وبناء فرضيات لقراءته، وهو الأهم، في نظرنا. وهي بذلك، تصير أكبر من كونها مجرد نصوص موازية أو مساوقة للنص الأساس (المتن)، تصير من صميم العملية الإبداعية، ومن صميم خلق النص وتشييده.
بناء على هذا التمثل، سنقف عند أهم عتبات الرواية، محاولين استكناه دلالاتها والبحث في علاقاتها بالمتن وقضاياه ورهاناته الكبرى.
1-1 عتبة العنوان:
أول ما يشد انتباهنا ونحن نطالع الرواية، العنوان الذي يومئ مباشرة إلى المعاناة، التي سماها الكاتب (محنة)، ثم، وهذا هو اللافت، لا يربط هذه المحنة بالمرض أو الحرب أو الجريمة أو الفقر أو أي ظاهرة أو عامل قد يتبادر إلى الذهن حين نسمع أو نقرأ هذا اللفظة بادئ الأمر، وإنما ربطها باللسان. واللسان هنا، في مجتمع الرواية، يقصد به الكلام، سواء كان شفاهة، مثل كلام المعلم والمحامي أو كتابة، مثل الصحفي، أو الراوي/السارد. أي الذين لا يملكون غير لسانهم حسب منطوق الرواية: « فإن قوما لا يملكون سوى لسانهم، ومن في دائرته من قلم وكتابة وحكاية ومرافعة» ص 145. وسنتعامل في هذه الدراسة مع هذا المفهوم وفق ما تطرحه الرواية، دون العودة إلى الوقوف عند التمايزات بين اللسان والكلام والخطاب، سواء عند دوسوسير أو غيره من اللسانيين…
إن صيغة تركيب جملة العنوان، تحيلنا على أكثر من معنى وتذكرنا بأكثر من حادثة، مثل المحن الكثيرة التي شهدها التاريخ العربي الإسلامي، كمحنة ابن حنبل، ومحنة ابن رشد.
فمتى يكون اللسان سبب محنة؟
كما تدفعنا هذه الصيغة إلى أن نتساءل حول مسألة «البنوَّة» اللسانية، بمعنى، كيف يكون الإنسان ابن لسانه؟ وهذا التمثل العميق لخطورة اللسان ومدى أهميته نجد إشارة لها في شعر زهير بن أبي سلمى: (لسان الفتى نصف ونصف فؤاده)، وفي الأثر: (الإنسان مخبوء تحت لسانه) وفي قول سقراط: (تكلم حتى أراك). أي أن وجود الإنسان، لا يتحقق فعليا، وعينيا، على نحو ما، إلا بواسطة اللغة، بواسطة اللسان، كأن الإنسان حين يتكلم ‹ينوجد›، وحين يصمت، ينتفي…
2-1 سيميائية اللوحة التشكيلية:
يتكون الغلاف إلى جانب العنوان، من عدة علامات بصرية، أبرزها اللوحة التشكيلية التي تصور وجه رجل (تمثال) بلا ملامح واضحة، تُلجمه يد سوداء ضخمة، تبدو قوية وقادرة على البطش، ولا تترك لصوته أي فرصة في الانطلاق، في الكلام. وهي إشارة إلى الخوف من الكلام وإلى الديكتاتورية، بما هي كيان أحادي الصوت، التي تقبر التعبير، سواء كانت ديكتاتورية الأنظمة أم الأحزاب أم الزوايا… ثم نجد في الخلفية أجزاء من جرائد أو مجلات تتخللها مقاطع وجمل باللغتين العربية واللاتينية. وفي ربط هذه العلامات البصرية والأيقونات بالعنوان وبالمتن الروائي، يتضح لنا أن اللسان، ليس فقط اللغة المنطوقة، وإنما يتجاوزها إلى اللغة المكتوبة ولغة الجسد والألوان… وأن صاحب اللسان، في مجتمع لا يؤمن، حقيقة، بالحرية في التعبير، يستجلب المتاعب ويقود إلى المحن. وخبر هذه المحن، نلفيها واضحة حين نقرأ الرواية ونتتبع مصائر شخوصها الرئيسة.
تعدد الأصوات، تعدد الخطاب:
إن تعدد الأصوات يعد سمة بارزة في النص الروائي، بل إن من أكبر خاصيات الرواية، قيامها على التعددية، في الصوت وفي الخطاب، وذلك ما بينه ميخائيل باختين في دراساته المتعددة، إذ كان « تركيز باختين الأساس منصب على تجنيس الرواية انطلاقا من تنوعها الكلامي»2.
وحين نقول تعدد الأصوات، فإننا لا نقصد بذلك تعدد الشخصيات، بل تعدد الصوت، الذي يعني بالضرورة، تعدد الأفكار، حتى لو كانت تلتقي – هذه الأصوات- في نفس المذهب أو السردية أو الانتماء، الصوت بما هو تعبير عن أيديولوجيا، فكل» واحد من ملفوظاتنا
هو في الحقيقة بناء أيديولوجي مصغر»3. بمعنى آخر، أن في الكلام، لا وجود للعرضي أو الاعتباطي، وإنما كل كلام، يستبطن فكرا أيديولوجيا، بوعي من صاحبه، أو من دونه، كثر هذا الكلام، أو قل. ونجد إشارة في المتن تصور أن السلطة تعرف هذه الخطورة التي تملكها اللغة، لذلك كانت تقارير مخبريها تحذر منها، فقد أوصت بالحذر من المحامي وتراه خطيرا، « وخطورته أنه مستعد لتأسيس جبهة بتحالف كلامي مع من لا انتماء يجمعهم به» ص147.
المطالع لهذه الرواية، سيقف على هذه الخاصية التي تميزها، إذ هي رواية قائمة على التعددية بالمعنى الواسع للمفهوم، سواء تعلق الأمر بتعددية الخطاب (الخطاب السياسي، التاريخي، الصوفي، الأدبي» الشعر/ القصة»، الخطاب الفلكلوري «الشيخات/ الحلقة»…). وهذا المزج والصهر تسمح بهما الرواية، باعتبارها شكلا غير مكتمل على الدوام، وبوصفها نصا قيد التشكل، ذلك أن « انفتاح الرواية وقدرتها الهائلة على استيعاب الأجناس الأخرى يجعلها تتسع لتطلق العنان لأنواعها السردية المختلفة التي لا تنفك تتغير وتتحول بدورها، مما يجعل التمازج والتداخل سمة من سماتها الأساسية»4. ولعل هذا ما انتبه إليه الكاتب واستفاد منه، وهو بصدد تشييد خطابه الروائي بحثا منه على مزيد من الوسع والحرية والرحابة في فضاء القول. فــ» الرواية فن شامل، ليست كالمسرح أو الشعر، يهدف إلى وصف مجموع الكون، فكلما كانت اللغة غنية، كان الفضاء أوسع»5. كما نجد خاصية تعدد الأصوات، أصوات الشخوص الروائية حاضرة بقوة. وهذه الأخيرة، هي التي سنحاول أن نقف عندها ونَبِينَ تمظهراتها ومدلولاتها ووظائفها في تشكيل خطاب الرواية، من خلال نمذجة تتكون من ثلاثة أصوات، صوت المعلم والصحفي والمحامي، وهي تمثل ثلاث سلط، من ضمن السلط التي تَكون في المجتمعات وَتُكوِّنها.
1-2 صوت المعلم:
الرواية تقوم على عدة شخصيات، من أهمها شخصية المعلم، وتعرضه شخصية متناقضة، تعيش صراعا ما بين الامتثال لصوت الوالد، لصوت القبيلة، لصوت الشيخ، والخروج عن كل وصاية، والبحث عن صوته الخاص، على الرغم من كونه قد ربا على التقليد والامتثال: «شحن ذهن الطفل بكل ذلك، وكانت صلته بوالده قوية» ص. 10، لكنه حين يبتعد عن القبيلة طلبا للمعرفة، سيعيش تحولا خطيرا في حياته، وسيعرف أن حكمة الصمت ليست مجدية دائما، خاصة بعد حواره المزلزل مع طالبة جامعية، بعيد حملة اعتقال في صفوف الطلية: «أمثالك حطب التخلف، وسبب الاندحار … أعرف أنهم علموك أن الصمت حكمة. لكن… من قال هذه الحكمة لم يصمت. من قال الصمت حكمة، فقد تكلم» ص. 18.
وبعد هذه التحولات التي طرأت عليه، قاطع القبيلة. وتحول من ذاك الشخص الصموت الكتوم، « إلى مهدار كبير: يتكلم في كل شيء، صار من هواة الكلام، وقطبا من أقطاب بيعه» ص. 19، وغدا رجلا يؤمن بخطورة الكلام وضرورته، وأن الكلام سبيل التغيير والتأثير، كل تغيير وكل تأثير: «سلعة المعلم الكلام، يبيعه، ويقبض ثمن ذلك. والمتكلمون نور الله في أرضه. تذكروا أن سلاح الأنبياء كان هو الكلام، وأن التاريخ كلام، وأن الخطب كلام» ص 19.
وبالتالي، فإن الوجود، يتحقق بواسطة الكلام، إذ « لا شيء خارج الكلام» ص، 20. ولقد هيمنت مهنة التعليم عليه حتى صارت بديلا لاسمه، بمعنى آخر، غدت هويته الحقيقية، وصار انتسابه لها وللسان، لا لوالده أو قبيلته: « سألوه ما اسمك؟ أجابهم: المعلم. قالوا له: هذه مهنة وليست اسما..» ص، 29. هكذا كان جوابه وهو قيد الاستنطاق من لدن المخابرات التي كانت تخشى من كلامه.
إن الرواية تطرح شخصية المتعلم على نحو يتجاور فيه المنطقي الموضوعي بالتهاويل أو الخوارق، فهو شخصية، ذات «كرامات» ولذلك فإن الأجهزة المخابراتية لم تقدر على معرفة حقيقته رغم كل التقارير والملفات التي سطرت حوله: « يحكي العارفون بأسرار أهل الحال أن الملفات عنه، والتقارير الخاصة به، ملأت البناية بأكملها، ولما استفتوا في ما يفعلون بها جاءهم الرد الحاسم: دعوها كما هي « ص، 34.
ومن هنا نكتشف أن اللسان كان سبب محنة المعلم، بداية مع قبيلته وشيخه وأهله، لأنه تكلم، وكلهم، كانوا يعملون على أن يصنعوا منه رجلا كتوما صموتا. ثم عانى وتعرض للمحن من طرف السلطة الحاكمة لأنها كانت تخشى من كلامه الذي لا يشبه أي كلام، فقررت ترصده ومراقبته، وجيشت لذلك كل شيء وكل شخص…
2-2 صوت الصحفي:
بعد المعلم، نجد شخصية الصحفي، باعتبارها شخصية أساسية في بناء الحبكة السردية وتطور النمو الدرامي للرواية. والجامع بين الشخصيتين، هو الانتماء إلى اللغة، أي إلى صنف «بائعي الكلام» ص، 35، حسب تعبير السارد. ولعل في كلمة «بيع» منطق تجاري رأسمالي، لكن مجتمع الرواية، قائم بالأساس، على هذه الخاصية، والتي تجلب المغانم كما المحن، حسب نوع البضاعة والمشتري… غير أن الكلام عند الصحفي ليس هو نفسه الذي عند المعلم، فالصحافة وقودها التضخيم والمبالغة:» تهمة التضخيم ليست مبالغة. إنها روحنا وجسدنا، بها نحيا» ص، 35. بهذا تقر شخصية الصحفي.
كما أن الصحفي يمثل صوت المهنة بشكل عام ودورها في التغيير خاصة في العقود الثلاثة بعد الاستقلال: « ألسنا من حمل مشعل الإصلاح؟ ألسنا نحن من أدى الأدوار المتعددة؟ كنا آباء لكل أيتام البلد من كتاب، ومهمشين، ونقابيين، ومعلمين، وفنانين. وكنا ملجأ من تاه أو كاد… ابحثوا في عدد ضحايانا..» ص، 36.
بعد أن يبين الصحفي، دور الصحافة الحقيقي، وهو إسماع صوت الضعيف ونقل الأخبار بموضوعية وقول الحقيقة، يرصد التحول الذي طرأ على هذا الجسم الذي طالما شكل سلطة حقيقية في صف الضعيف، عكس ما آلت إليه الآن: « محللو (هم) الذين ابتلينا بهم يمتلكون مواهب خارقة في التمويه وتلوين الخطابات بقزحية قاتلة… إنهم خبراء بلغة بعض زملائي الإعلاميين… مستعدون لكراء أفواههم بثمن بخس»، ص، 47.
ويفسر أن خطورة هذا الصوت الإعلامي، لا تقتصر على تغيير الحقائق أو التلون في المواقف، وإنما الأمر أعمق من ذلك وأدهى، إذ أن «أنهم يدفعون الأذهان إلى التكلس، ويوجهون الآراء إلى وجهات التيه والضياع، ضياع المعنى في كل شيء..» ص، 47. هذه العينة التي لا تكف عن الكلام، يحبسها العجز حين يتعلق الأمر بالكتابة فقط، لضعف تكوينهم: «أما المكتوب، فإنه ما زال شبه متمرد عليهم، لأن منطقه الحجاجي والأسلوبي يعوزهم» ص، 49. ولكنهم يعوضون هذا العجز بكثرة الكلام والصراخ وخلق الضجيج…
وبما أن الوضع العام لمهنة الصحافة الحديثة وضع مزر، فإن كل الجرائد التي كان يعمل بها الصحفي لم تشذ عن هذا السياق، ولأنه كان استثناء، وطالبا لصوت الموضوعية، فإنه سيعاني وسيعيش المحن جراء ذلك: «ما عدت أعرف أين الحق. لأنني كلما اشتغلت في صحيفة قالوا لي: هذا خطنا التحريري، عليك الانضباط له، ودعك من حكاية الموضوعية وأخلاقيات المهنة. فنحن نبيع الكلام الذي يوازي حجمنا وفكرنا واتجاهاتنا. الحق هو خطنا التحريري» ص، 56.
وحين كتب مقالا يعبر فيه بموضوعية استدعاه الرئيس: «وعندما سألته عن هذا الخط خط التحرير. قال لي: خط المال» ص، 57.
ولما أراد أن يحتج، وأن يذكر أصحاب الجريدة، أن الأصل في الصحافة هو الانحياز لأصحاب الحق، إلى المجتمع: « سألتهم: ألسنا أصحاب الحق، أهل الانحياز إلى المجتمع، حاملي الرسالة النبيلة… وصفوني بالأبله… ثم طردوني» ص، 57. ليجد نفسه يعاني محنة العطالة المقيتة: « أصبحت عاطلا، ملعونا، بدون مهنة أو أجرة» ص، 57. بل زادوا من محنته حين شهروا به وكتبوا على أنه صوت الفساد وخائن ومتحرش… ليلقى نفسه وحيدا لاعنا مهنة الكلام هذه: «وانطويت على حزني وألمي. ألعن بيع الكلام وأهله» ص، 58.
نستنج، من خلال الوقوف عند شخصية الصحفي، أنها شخصية تشترك مع المعلم في انتمائهما لمهنة تقوم على اللسان، كما يشتركان في المحنة والمعاناة والشعور بالغربة والنبذ من لدن المؤسسات لأن صوتهم لا يذوب في صوت الجماعة…
3-2 صوت المحامي:
بعد أن توقفنا عند شخصيتي المعلم والصحفي، ننتقل إلى شخصية المحامي، ونذكر أن القاسم المشترك بينهم هو الكلام، على اعتبار أن مهنهم قائمة عليه، ونشاطهم وحركتهم ومواقفهم قائمة عليه، وأن هذا الكلام هو سبب محنهم، ذلك أن صوتهم يزعج مؤسسات الوصاية باختلاف تلاوينها: « وبما أن جريمتهم الكلام، وبما أن أداة الكلام لسان أو يد أو أذن، فإننا نوصي بقطع دابرها… اتقاء شر قد ينتشر، وكلام قد يصبح أفعالا» ص، 148. هذا ما أوصت به خلاصات تقارير مخابراتية.
لقد كانت الأحزاب تعمل جهدها على استقطاب المحامين إلى صفوفها، وتوليهم عناية خاصة: «كان المحامون مهيمنين، بل إن المهنة كانت مضاعفة بالنسبة لهم: محامون صباحا … وصحفيون في الزوال والليل وبقية الوقت»، ص، 64. وقد كان للحزب محام محترف وماكر يدعى «القصير»، هو الذي سيستقطب شخصية المحامي ويدربه: «هناك سيلتحق به صديقنا في شبابه. وهناك سيتعلم حرفة الكلام، فينتقل من محاضرات الكلية الباردة إلى وطيس المحاكم»ص، 65.
لاحقا، سيتحكم فيه، وسينتحل مقالاته ومذكرات ترافعه وينسب كل ذلك إلى نفسه: «عرفت منه أنه صاحب قلم جيد، وأنه من يكتب مذكرات الترافع باسم صاحب المكتب، ويكتب مقالات يمده القصير بموضوعها فقط، لتظهر في اليوم الموالي في صحيفة الحزب مدبجة باسم (المحامي القصير)» ص، 67.
وهذا الأمر سيكون من ضمن أسباب محنة المحامي ومعاناته، لأنه يرى كتاباته التي هي جزء من كينونته، يتم قرصنتها والسطو عليها، مع سبق المكيدة والاستغلال: « وكان كلما اطلع على ذلك ينزف ألما لأنه كان يقول لي: الكتابة مثل الأبناء لا يمكن منحها للآخرين» ص، 67. وهذا الأمر لم يكن عرضيا أو لحظيا، وإنما طال أمره واستمر. نورد هنا مقطعا يصور بعض هذه المكابدات:
« زوال كل يوم كان القصير يستدعيني إلى مكتبه، ويحدد لي موضوعا، ويأمرني بالكتابة فيه… سنوات طويلة وأنا أفعل ذلك، صاحبني فيها الألم والانكسار. كنت أحسني أتعرض لاغتصاب جماعي، وقهر لا يوصف، كنت كمن يتخلى عن أبنائه… قبلت خسة السلوك وبيع الكلام بأرخص الأثمان» ص، 76. هذا ما يخبرنا به المحامي في اعترافاته.
ولكن المحامي، سيدرك، مع التجربة أن الحزب الذي يدعي الرغبة في التغيير، هو مشتل لكل فساد، لكنه لم يقدر على الكلام، وهنا تتجلى أسباب إضافية لمحنته: « كان صديقنا المحامي، بنباهته العالية، يفهم ما يجري، لكنه مثلنا، لم يكن له سند أو عصبة. فكان عليه أن يصمت، وأن يحول كلامه إلى همس داخلي يلعن فيه الحزب وأهل الحزب والمتشدقين بشعارات العدالة الاجتماعية وعدالة الشعوب» ص، 66.
وفي وقت متأخر، سيعرف المحامي أن الحزب كذبة كبيرة، وأنه، مثل باقي المؤسسات، يخاف من الذين يتكلمون، يقول: «لأجد نفسي في عمر الأربعين شبيها بمن يحرر المقالات لأصحاب القضايا والدعاوى… تكسرت وانطويت على ذاتي، تم تهميشي في المكتب.. شهور عديدة وأنا أتعرض للإذلال دون أفهم لماذا؟» ص، 78.
وهذا الشعور المهين دفعه إلى التساؤل حول جدوى التحزب والمعنى الكامن وراء مهنته: « هل كان من الضروري أن أتحزب؟ ما جدوى مهنتي؟ ألا لعنة الله على من أدخل في ذهني قوة العلاقات، ومظلات الحزب؟» ص، 79. كما دفعه إلى الإحساس بالوحدة: «ما العمل الآن؟ هل أغادر؟ ومن سيقبلني وقد عرفت بصفاتي: محامي الحزب، وذيل القصير، وخارق الأخلاقيات..» ص، 79.
من خلال تتبع شخصية المحامي، نستخلص أنه قد تعرض للمعاناة وذاق المحن بسبب لسانه، بسبب صوته الذي لم يرق المؤسسة التي كان ينتمي إليها، وهو بذلك، يشبه مصير شخصية المعلم والمحامي.
على سبيل الختم:
إن قراءة رواية «محنة ابن اللسان»، واقتفاء مصائر شخصياتها وتأمل علاقاتها وبداياتها ونهاياتها، تجعلنا نستنتج أهمية اللسان وعظمته وخطورته، كما يجعلنا ندرك أن التعبير ومحاولة إسماع الصوت، في مجتمع، بينته العميقة، ونظم تشكل مؤسساته المختلفة، لا يرحب إلا بالصوت الأحادي..، بل ويدعو إلى « قطع دابر من يتكلم بغير ما نتكلم به»ص 148، من شأنه أن يكون سببا لمحن كثيرة، تدفع الواحد منا إلى اختيارات متطرفة، إلى اليأس والقنوط أو إلى التماهي وتغليب المصلحة الفردية على المصلحة الجماعية، التي هي هدف كل عمل مؤسساتي حقيقي.