أنوال: أشياء صغيرة وأخرى أكبر من الذاكرة !
عبد الحميد جماهري
ننسى كثيرا بأن قائد معركة أنوال، التي تحل ذكراها ما بعد القرن يوم غد الأحد كان صحافيا! ننسى أن الصحافة، كانت معبرا كبيرا وهادرا، لمن يريد العبور إلى التاريخ. في المغرب، أساسا لا أحد من الوطنيين لم يمر من هذا المصير التاريخي الرهيب، من الخطابي نفسه إلى علال الفاسي إلى اليوسفي إلى الفقيه البصري والمهدي بنبركة.. وآخرين.
ولكي لا نمعن في النسيان، تعود المعركة في إيهاب أشياء من نوع خاص: لا نبحث له عن تعليل ، أو تفسير كي لا نسقط في تجريد الموقف من صدمة النقصان؟ فيلم يعاني صاحبه من إتمامه حول الريف وبطله هو محمد النجراني، المعتقل السابق في قلعة مكونة، انشغاله لوحده بصورة وسينما كان يجب أن توفر له كل الإمكانيات، بعد أن منعتها الجدران السرية من نور الشمس ومن الألوان ومن التصوير بعينين مجردتين!
لا يمكن أن تمر الذكرى بدون أن نطرق العقل والضمير ونسأل على بابه: هل يعقل أن يقف فيلم عن الخطابي والريف وعن أنوال في العقبة المالية، في زمن نرى أنهارا من المال توزع شمالا ويمينا ووسطا وبلا اعتماد ؟
أمر ما يجب أن تنهض له الضمائر حتى يتم الفيلم سيرته إلينا…
وأسعدني أن الروائي والقاص وكاتب السيناريو والشاعر المسرحي، الصديق يوسف فاضل، في هذه الموجة الجميلة التي تريد امتلاك عبد الكريم وريف الحكاية قد خصصت ثلاثية عن الريف، من خلال الاسم الدال، بمثابة جينيرك تاريخي ريفوبليكا وهو تحوير جميل، وإن كان تاريخيا غير قائم على أساس انزياح ريفوبليكيا!
هنا أيضا كان الحكي في متناول الخيال القادم بحثا عن الانتروبولوجيا في الواقع الريفي: كتب عديدة بعضها يرقي إلى الأسطورة وآخر إلى الواقعية السحرية، بأقلام إسبانية وأخرى أمريكية أو الألمانية من قبيل يغل مرتين، وماريا روسّا دي مادارياغا. التي فارقتنا في يونيو الماضي. قبل شهر تقريبا من أنوال..
بعد أن رافقتنا ردحا من الزمن، وأرخت حقا للحقول المغربية من زوايا مختلفة بأسماء عناوين دالة “إسبانيا والريف.. وقائع تاريخ منسي” و“عبد الكريم الخطابي.. الكفاح من أجل الاستقلال” (2009)، كما قد تحيلنا على المتعة العالية الزكية داوود في ملحمة الذهب والدم، بترجمة شرقية أداها بنوع من التصوف الإبداعي الصادق المثقف العالي محمد البكري.
من التحولات الكبرى، ما حدث من مصالحة مع الريف وتاريخه المتمرد، والذي قطعنا فيه أشواطا كبيرة. وكان الريف ، الذي” تصالحنا” معه، ترابيا، من خلال طنجة المتوسط والمشاريع الهامة، حلقة في الغضب، مع الزلزال الطبيعي، الذي نذر له ملك البلاد تعاملا صار نموذجيا والعهد الجديد بالكاد يتلمس طريقه، وكان زلزال ما بعد في 2017 ، وكان الريف عتبة لربط المسؤولية بالمحاسبة، وامتحان النخب كلها، المحلية والجهوية والوطنية، في التعامل مع تراب مختار في الذاكرة.
ومن متزامنات الصدفة أن الريف عاد إلي شخصيا من زاويتين: تدوينة للصحافي المثقف واللامع ( غادي يطليني على هاد اللامع ههه) عبد الله الترابي وكتاب عبد الله العروي.. الأول كتب تساؤلا حول القاسم المشترك بين قصيدة” موطني” ، وهي النشيد الشبه الرسمي لفلسطين والرسمي حاليا للعراق، وبين قصيدة ” في ثنايا العجاج” التي كان ينشدها مقاتلو الريف والمغاربة ضد الاستعمار الإسباني والفرنسي، ليجيب أن صاحب النشيدين واحد، وهو الشاعر الفلسطيني الكبير إبراهيم طوقان، الذي كتب قصيدة في منتصف العشرينيات متحمسا لبطولات المقاومة المغربية وللمعارك التي خاضها الريفيون تحت قيادة الأمير عبد الكريم الخطابي. » وهوما ذكرني بما سبق إليه أنور المرتجى في ندوة بالناظور في نهاية ثمانينيات القرن الماضي ـ ولا أحد كان يصدق ما كتبه الترابي، عندما كنت أرويه اللهم إلا إدريس ابو زيد ، (اينك يا رجل ).
وعبد الله العروي، الذي تحدث عن الاستعمال الجزائري للريف ولصور عبد الكريم في دعم الانفصال؟ وهو يستحضر ذلك في إطار الصراع بين بلدينا، ويخلص إلى القول بأن المغرب له آليات للرد على التحرك الجزائري في الانفصال عن الريف وهما البيعة والدستور. وفاجأني العروي عند ما كتب بأن الدستور لا يستبعد، على المدى البعيد، الحكم الذاتي للريف ولسوس!
إن اللحظة إعادة التملك البعثي لتاريخ بطولي مشترك مضى بالصورة ، وهو مجال يجب أن نستفتي فيه نورالدين أفاية ومحمد كلاوي، وحسن نرايس كما نستفتي فيه الزاهي، وعبر المخيال الأدبي، كما في كتابات يوسف فاضل وفي الشعر المغربي الحديث وعبر السينما، كما نستعيده عبر التفكير المجالي والمصالحة مع التراب, ونسترجع أفقا للتفكير الإنساني الشامل من خلال القضايا النبيلة التي أسس لها بن عبد الكريم بواقعية بطولية تلامس التراجيديا : أن يكون البطل المجبر على الاستسلام بسبب اللاتوازن مع القاتل، هو الخالد في الرمزية العالية للشعوب…
الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 20/07/2024